اقتصادعلوم سياسية

انقلاب النيجر وتداعياته على دول الجوار

تأتي هذه الدراسة الهامة، في إطار التكوينات المركَّزة والمستمرة التي خضعَ لها الطلبة الباحثون في سلك الدكتوراه، في؛ “مختبر الحكامة في إفريقيا والشرق الأوسط“، تحت إشراف ومتابعة الدكتور محمد حركات مديرُ المختبر. وتأتي هذه التكوينات لتعزيز مُكتسبات ومهارات الباحث العربي في أساسيات الدراسات الاستراتيجية والحوكمة المالية والإدارية الشاملة.


تسعى هذه الدراسة، إلى الإجابة عن إشكالية محورية مفادُها؛ أن الدول كي تظل مستقلةً وذات سيادة، وتنخرطَ في مشاريعِها النهضوية والتطويرية والتنموية، يجب عليها أولا تحقيق عُمقٍ استراتيجيٍّ في دول الجوار الهشة. ضمانا لمصالِحها الاستراتيجية واستقرارِها السياسي والاقتصادي.


بما يمنع توظيف هذه الدول كقلاقل وساحات للابتزاز وزعزعة الاستقرار في الإقليم. وقطعا للطريق على الدول الاستعمارية والتوسعية الكبرى. التي سرعان ما تتداعى للهيمنة على مثل هذه الدول الضعيفة والهشة لنهب ثرواتِها ومُقدَّراتِها الطبيعية، وجعلِ أراضيها ساحة حرب مشتعلة لتصفية الحسابات مع الخصوم.


هذه الحالة غير الصحية؛ تتسبب في تصدير هذه الدولة الهشة والنامية لأزماتِها ومشاكِلها وكوارِثها، لكل دول الجوار، وبالأساس المشاكل التي تتعلَّقُ بـ؛ التهريب بكل أنواعِه (الأسلحة، المخدرات، الممنوعات…)، اللجوء والنزوح لقطاعات كبيرة من الناس بسبب الحروب أو المجاعة، الجماعات المسلحة التظيمات المُقاتِلة.

ودولة النيجر؛ أحد أبرز التجليات لهذه الإشكالية الكبرى التي تُهدد دول الجوار وعلى رأسِها الجزائر وليبيا، وتَتسببُ في تأخر هذه البلدان في تحقيق التنمية الشاملة للبلاد ورفاهية شعوبِها.


عندَ سماع اسم دولة “النيجر“، يتبادر إلى الذهن منذ الوهلة الأولى، أنها دولة إفريقية فقيرة ومَنسية، لا يتم ذكرُها إلا في الانقلابات أو الكوارث أو المجاعات والحروب.


لكن الحقيقية غير ذلك تماما، صحيح أن كل هذه الآفات والكوارث موجودة في النيجر، لكن ما يجهلُهُ كثيرٌ من المتابعين للشأن السياسي والاقتصادي، هو أن المجاعة والحروب والفقر والانقلابات في دولة النيجر، هي نتيجةٌ حتميةٌ لأسبابٍ وظروفٍ كثيرة ومصالح دولية وإقليمية متضاربة.

النيجر وجاراتها السبع | أخبار | الجزيرة نت


وقبل الخوض في تحليل هذه المعطيات؛ لابد لنا أن نُعرِّف باختصار بدولة النيجر، لأن هذا التعريف ضروري لفهم الكثير من التفاصيل التي ستأتي لاحقا في هذه الدراسة.


لقد أثبتت الدراسات التاريخية والأبحاث الجيولوجية؛ أن منطقة النيجر من أقدم الرقع الجغرافية التي استوطنَها الإنسان عبر التاريخ، وتُرجع بعض الدراسات؛ استيطان الإنسان للنيجر لـحوالي 60 ألف سنة، والسبب في هذا الاستيطان لم يكن اعتباطيا أبدا، بل تَكشف لنا الحفريات والدراسات التاريخية والجيولوجية؛ أن منطقة النيجر كانت معبراً تجاريا مهما يربط بين شمال إفريقيا وجنوبها ما وراء الصحراء.


كما تُعتبر منطقة النيجر؛ مَهداً لأقدم الإمبراطوريات[1] التي حكمت وسادة في إفريقيا جنوب الصحراء وصولا إلى دولة غانا، وكانت ملتقىً للقوافل التجارية، وأرض الأسواق في الأزمنة الغابرة.


كذلك مثلت منطقة النيجر؛ محطةً لتحضير الجيوش وتجهيزها للزحف نحو الشمال أو الجنوب أو الشرق أو الغرب، كما كانت هذه المنطقة ملاذا مُحصنا للعصابات والمجموعات المسلحة وقُطَّاع الطرق منذ القديم.


إذ تُعتبر منطقة مالي؛ منطقةً صحراوية جافة وقاحلة وحارة نهاراً، وشديدة البرودة ليلا، ولا يستطيع العيش فيها غيرَ سُكانِها الأصليون من الطوارق والبدو الرحل والأمازيغ والزنوج من القبائل الأصلية في دول الساحل والصحراء.


كذلك؛ تتميز دولة النيجر بخاصية فريدة؛ تتعلق بالتنوع العرقي[2]؛ فهي دولة محدودة التنوع العرقي ولا تتجاوز فيها الطوائف والإثنيات العرقية 15 مجموعة فقط أهمها؛ “الهوسا“، والتي تُمثل أكثر من 50% من مجموع التركيبة السكانية للبلاد.


لكن في العموم؛ تُعد دولة النيجر من أكثر دول العالم تعايشا واستقرارا بين التركيبات العرقية والمكونات القبلية والإثنية في العالم.


تكمن الأهمية الاستراتيجية لدولة النيجر في كونها تقع في منطقة حساسة جدا، بين خمسِ دول محورية في شمال وغرب إفريقيا، أو ما يُعرف بمنطقة الساحل والصحراء، وهي “الجزائر” و”ليبيا” و”بوركينا فاسو” و”نيجيريا” و”تشاد” و”مالي” و”دولة بنين”. ما يجعلها نقطة التقاء رئيسية لكل الاتجاهات والمسالك من أو إلى الصحراء الإفريقية الكبرى.


وبالتالي؛ فالنيجر، هي أكثر منطقة في إفريقيا لا تخضع لإدارة أو نظام أو قانون، حيث يحكم غالبية مناطقها قانون العصابات ومافيا التهريب، وفيها تلتقي كل الممنوعات من المخدرات إلى تهريب الأسلحة والذهب، ونقطة تجمع والتقاء للمهربين لتصدير المهاجرين نحو دول شمال إفريقيا وأوروبا.


وليس انتهاءً بالاتجار في المخدرات والبشر، لكن الشهرة الأكبر لهذه المنطقة، اكتسبتها مع التنظيمات المسلحة، وخصوصا الحركات المتطرفة والجماعات المسلحة كالقاعدة وداعش وجماعة “بوكو حرام” النيجيرية، التي وجدت في هذه المنطقة ملاذا محصنا لها، وكذا مصدرا للوصول للتمويل والأسلحة والأفراد عن طريق التهريب وبيع الممنوعات.


أما الأهمية الاستراتيجية القصوى للنيجر؛ فتتمثل في كونها آخر المستعمرات الفرنسية الاستراتيجية في غرب إفريقيا. وهذه الأهمية تنبع بالدرجة الأولى من الهيمنة على الثروات الطاقية والمعدنية لهذا البلد الفقير من حيث التنمية، الغني من حيث الموارد.


وكذلك الهيمنة العسكرية على غرب إفريقيا، من خلال القواعد العسكرية الكثيرة لفرنسا في هذا البلد[3]، والتي تؤكد سيطرة فرنسا المتواصلة على مستعمراتها القديمة سواءً في شمال إفريقيا أو في دول الساحل والصحراء.

كيف رُميت فرنسا "تحت الباص" في النيجر؟


ما يضمن حماية الاستثمارات والشركات الفرنسية الكبرى التي تستحوذ على صفقات التنقيب والاستخراج، ليس في النيجر فقط، وإنما في الجزائر ومالي وبوركينا فاسو وفي ليبيا كذلك.


وهو ما يُفسر حالة الاستقرار السياسي الذي عاشته النيجر لعقود، والنابع من الدعم الفرنسي الكبير للقرار السياسي في هذا البلد، والقاضي بضمان استمرار النخبة الحاكمة في السلطة مُقابل ضمان مصالح فرنسا العسكرية والاقتصادية والسياسية.


مع تأكيد فرنسا لضرورة منع إي تدخل خارجي سواءً سياسيا أو تعاونا عسكريا أو استثمارات خارجية.


لكن العكس هو الذي حصل؛ فتراجع فرنسا المتواصل في مستعمراتها القديمة على كل المستويات؛ خلق فراغا لدخول دول أقوى لتعزيز الاستفادة من هذه المنطقة الحساسة، وضمان عُمق استراتيجي دولي لهذه البلدان.

محاولة انقلاب عسكري جارية.. ماذا يحدث في النيجر؟ | سكاي نيوز عربية


ففي سنة 2016 أنشأت الولايات المتحدة الأمريكية عدة قواعد عسكرية لها في مالي، تصل طاقتها الاستيعابية إلى ما يُقارب من 2000 جندي وخبير عسكري، ناهيك عن مئات المعدات العسكرية واللوجستية، خصوصا ما يتعلق بالرادارات وأجهزة التجسس والتعقب الليلي بالطائرات بدون طيار.

القاعدة الجوية الأمريكية "Air Bace-201" ... فصل جديد في الحرب ضد الإرهاب | Defense Arabia


كذلك؛ نزلت ألمانيا بثقلها العسكري في مالي؛ من خلال قاعدة عسكرية كبيرة، بحجة دعم الجيش النيجري، وتأمين مصالح ألمانيا التجارية والاقتصادية والديبلوماسية في البلاد وفي غرب إفريقيا.


لتتوالى بعدها القواعد والاتفاقيات العسكرية على النيجر، إذ حلت إيطاليا وكندا على الأراضي النيجرية في إطار اتفاقية رسمية لتدريب القوات الخاصة النيجرية. وفي سنة 2022، عقد الاتحاد الأوروبي اتفاقية مُلزمة مع النيجر لمكافحة الإرهاب والحد من انتشار الجماعات المسلحة.


وعلى إثرها، تم إنشاء مجموعة كبيرة من مراكز ومنشآت التدريب العسكري الخاصة بالجيش النيجري. إضافة إلى بنية تحتية للاتصالات والتتبع والدعم.


هذا؛ دون إغفال المنورات العسكرية السنوية، التي يُجريها حلف الناتو في النيجر تحت اسم “فلينتوك“. عدا المناورات الخاصة التي تُجريها الولايات المتحدة الأمريكية مع حلفائها في هذه المنطقة كل سنة.


ويرى المتابعون للشأن السياسي والعسكري والدولي في النيجر؛ أن كل هذا الإنزال الكثيف والمستمر في النيجر؛ يُعزى إلى السباق الدولي نحو الهيمنة والتوسع في إفريقيا، من خلال بوابة دول الساحل والصحراء،


إضافة إلى الثروات المعدنية الضخمة التي تتمتع بها هذه المناطق، وكذا إلى رسم خريطة جديدة للتوازنات الدولية؛ بعضُها إقليمي بين دول الاتحاد الأوروبي وحلفاء الأنظمة الاشتراكية في إفريقيا، وبعضها يندرج ضمن الصراع الدولي؛ ويتمثل في الحرب غير المعلنة بين الصين وروسيا من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية من جهة ثانية.


لكن خلفية هذا الصراع الأكثر وضوحا وتجليا؛ هي المنافع الاقتصادية الهائلة التي تجنيها هذه الدولة الأجنبية من هذا البلد الفقير من حيث الاقتصاد والتنمية والبنية التحتية، والغني من حيث الثروات الطبيعية، ونخص بالذكر؛ المعادن ذات الثقل الاستراتيجي، التي لا ولن تقبل فرنسا بتقاسمها مع الدول الأوروبية التي تجتمع معها في اتحاد، أو الدول الأجنبية الأخرى الآتية من وراء البحار؛ بما فيها أمريكا والصين وروسيا.


وعلى رأس هذه الثروات المعدنية؛ “اليورانيوم” الذي تُعد النيجر؛ ثاني أكبر منتج له في العالم. ولا يخفى على أحد أهمية هذا المعدن في إنتاج الطاقة النووية. ثم يأتي الفحم، وخام الحديد، والقصدير، والفوسفات، والجبس، والملح، والنفط، والكثير من الثروات المعدنية الأخرى، التي لم يتم استغلالها أو التنقيب عنها حتى الآن، بسبب الوضع غير المستقر سياسيا وعسكريا.


أو بتعبير أدق؛ التدخلات الخارجية التي تمنع استقرار المنطقة، لتستمر فرنسا في استنزاف المنطقة دون إثارة المشاكل.


هذا الوضع تغير بعد الانقلاب العسكري الأخير في النيجر؛ والذي أزاح المجموعة السياسية الموالية لفرنسا، وتعويضها بضباط جُدد رَأوا في روسيا حليفا ممكنا وموثوقا، من خلال تجارب سابقة، أثبتث فيها روسيا عدم تفريطِها في حلفائها تحت أي ظرف كان، كسوريا التي حمت موسكو حليفَها بشار الأسد من السقوط رغم قتلِهِ للملايين من شعبه وتهجيره لملايين أخرى، ورغم العقوبات الدولية المفروضة عليه.


في حين؛ لم تتقبل فرنسا إزاحتها بهذه الطريقة المخجلة، خصوصا مع تمهيد الانقلابيين لإنهاء كل الأنشطة والامتيازات الاقتصادية والتجارية للشركات الفرنسية في البلاد، وتأميم ما يمكن تأميمُه أو إعادة طرح المناجم للمناقصات أمام الشركات الوطنية والإقليمية والدولية.


لكن الوضع أعقد من هذا بكثير؛ بل أكبر حتى من فرنسا ونفوذها القديم والأنظمة الحليفة لها في المنطقة. وذلك لوجود لاعبين كباراً على الساحة، على رأسِهم الولايات المتحدة الأمريكية، التي لا تريد أن تخسر حليفها النيجر، ولا تريد لروسيا أن يكون لها موطئ قدم في منطقة الساحل والصحراء، كما لا تريد لفرنسا أن تستمر في الهيمنة على مناجم اليورانيوم في البلاد.


في المقابل؛ دعت فرنسا حلفاءَها من دول الجوار (بوركينافاسو ومالي) للتدخل عسكريا، لكن هاتين الدولتيْن، تتخوفان من جر بُلدانهما لآتون حربٍ قد لا تنطفئ، وربما تمتد إلى بلدانهم.


حاولت فرنسا كذلك تحريض مجموعة دول غرب أفريقيا (إيكواس) للتدخل عسكريا، لكن أمريكا رفضت هذا التدخل. وحذرت من انزلاق المنطقة لحرب أهلية شاملة ومدمرة على كل المنطقة. ما يُنذر بعودة المجموعات المسلحة لتهديد المصالح الغربية في كل هذه المنطقة.


أما الاتحاد الإفريقي فحاله حال الجامعة العربية، فقد أكتفى بالتنديد وتجميد عضوية النيجر فقط.


أما ليبيا والجزائر ومالي؛ فقد فضلوا البقاء على الحياد، ودعم جهود التسوية السلمية لهذا الوضع الشاذ، تجنبا لمزيد من الفوضى في المنطقة، والخوف من اندلاع حرب إقليمية في منطقة الساحل والصحراء، تكون بإيعاز من الدول العظمى (أمريكا، روسيا، فرنسا)، وبنيران جيوش وأموال هذه الدول.

النيجر في طريقها للتغيير: الانقلاب يؤدي إلى حظر الأحزاب السياسية وتحذيرات دولية


ما سيجهض كل الخطط التنموية والمشاريع الاقتصادية والبرامج السياسية التي تخطُّها بالخصوص ليبيا للخروج من حالة الانقسام التي تعيشُها، ونقل البلد إلى وضع تنموي واقتصادي وسياسي أفضل.


مراجع ذات صلة:


  • رحال بوبريك. (2022). الجماعات” الجهادية” ببلاد الساحل بين الولاء الأيديولوجي والانتماء الإثني.

  • هاشم نعمة فياض. (2016). نيجيريا: دراسة في المكوّنات الاجتماعية-الاقتصادية. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

  • فوزية زراولية. (2019). الموارد الطبيعية والنزاعات المسلحة في أفريقيا جنوب الصحراء: مراجعة نقدية. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

Mazrui, A. A. (Ed.). (1999). Generale History of Africa: Africa Since 1935. Unesco.‏

  • بن بريهوم. (2019). تحديات إعادة بناء الدولة في الساحل الإفريقي من منظور مقاربة الجوار السيء-ليبيا نموذجا.

  • عبد النور بن عنتر. (2022). المبادرات الأمنية في منطقة المغرب العربي والساحل: مجموعة دول الساحل الخمس على المحك. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

  • بن الشيخ, & فضيلة. الابعاد الدولية للتواجد العسكري الامريكي في النيجر قاعدة الطائرات بدون طيار (Doctoral dissertation).‏

  • الهوامش:

[1]  منها، مثل إمبراطورية “سونغاي” التي كانت أكبر دولة في أفريقيا قاطبة، وإمبراطورية “كانم” (بورنو) التي حكمت لأكثر من ألف سنة، وإمبراطورية “الهوسا” التي كانت مركزا للتجارة والثقافة.


[2]  “الهوسا” بنسبة 53%، “الزرما أو سونغاي” 21% و”الطوارق” 11% ثم “الفولاني” 8% و”الكانوري” 6% والباقي هم العرب و”التبو” و”القورمانسي”..


[3]  القواعد الفرنسية: تتحدث التقارير عن 3 قواعد فرنسية في النيجر تضم 1500 جندي على الأقل، عدا المواقع اللوجستية التي تُستخدم في التدريب.

أشرف السعداوي

باحث ليبي، متخصص في الاقتصاد السياسي والحوكمة المالية، حاصل على شهادة الدكتوراه بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة محمد الخامس الرباط - المغرب. عضو مختبر "الحكامة في إفريقيا والشرق الأوسط"، ناشر في عدد من المجلات والدوريات العلمية العربية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى