“الخلافة الراشدة” وجذور الفتنة بين “الجابري” و”جعيط”
أزمة العقل العربي من منظوري هشام جعيط ومحمد عابد الجابري
بعد نحو خمسة عشر قرنا من الفعل في التاريخ أو الانفعال به يقف العقل العربي المسلم اليوم ليقيّم حصيلة مسيرته. فيحصي ما خسر من الغنائم وما تكبّد من الهزائم، محبطا لتراجع دوره في الحضارة الكونية باحثا عن السبل التي تجعله يتجاوز سقوطا طال أكثر مما ينبغي.
في هذا السياق يعرض المفكران “هشام جعيط” و”محمد عابد الجابري” قراءتين مميزتين لهذه المسيرة. فيحاولان العبور من الوقائع التاريخية إلى تعقّل العقل أولا وإلى تحريره من عقاله ثانيا.
وما يشدّ الانتباه في القراءتين، فضلا عن التقاطع في المضمون، ذلك التقارب في زمن النشر. فهشام جعيط، نشر كتابه باللغة الفرنسية تحت العنوان (La Grande Discorde. Religion et politique dans l’islam des origines. Ed Gallimard, NRF, Paris.) سنة 1989 وترجمه خليل أحمد خليل بعنوان “الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر” وراجعه المؤلف بنفسه. فتزامن ظهور ترجمته العربية عن دار الطليعة بيروت مع ظهور مؤلف محمد عابد الجابري: “نقد العقل العربي 3: العقل السياسي العربي، محدداته وتجلياته”، عن مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ط1، 1991.
وبعد نحو ثلاثين سنة من هذا الحدث الكبير نعود إلى المشروعين اللذين يصنفان ضمن الميتا ـ عقل، أي العقل وهو يجعل من نفسه موضوعا للدراسة، لنبحث في منطلقاتهما الفكرية والمنهجية وهما يشخصان أزمة هذا العقل ونبحث في حدودهما أيضا. فنجعل قراءتنا في أربعة محاور هي “الخلافة الراشدة“! هل كانت راشدة فعلا؟ و”عقل واحد وتشخيص مختلف ” و”في مسالك التشخيص ومناهج البحث ” و”في العقل وفي عقل العقل”.
- عقل واحد وتشخيص مختلف
يحاول هشام جعيط أن يعيد تركيب قصّة الفتنة. فقد بنى عثمان حكمه على سياسة عائلية وملكية، يُمنح فيها الامتياز على أساس صلة الدم. ونكَّلَ بخصومه وأمعن في تعذيب منتقديه كـ”أبي ذر الغفاري” و”عمار بن ياسر“، حتى أن عائشة أخرجت شعر النبي ونعليه للملإ لتعلن أن سنة نبيّهم قد تُركت بعده.
فمثّل انحرافه بالسلطة نكسة للنخبة الإسلامية. ولكنّ صورة الإمامة ورمزية أمير المؤمنين، غير قابلة للمس والكافلة لوحدة الأمة مثلت عائقا يفرض عليها غضّ الطرف وإن كانت كارهة.
وشهدت خلافته تحولا جوهريا في مخرجات الجدل بين الديني والسياسي. فاختل التوازن وأضحى الديني المتعالي في تبعية للسياسي المرذول. وتقدمت القبيلة على عمق الانتماء الإسلامي. وتقدمت العائلة على القبيلة. وهذا ما مثل قطعا مع نهج الرسول والخليفتين السابقين.
ولابدّ من اضطراب معاكس ينشد التوازن المفقود في مشهد شديد التعقيد فواعله القراءُ والصحابةُ والأشراف وسادةُ قريش والأمويون، وهي أطراف متناقضة المصالح. وقانون تحالفها أو صارعها غامض يتراوح بين الضغائن والتنافس على المال أو الجاه أو السلطة.
وتجسّدَ هذا الاضطراب المعاكس في أكثر من صدام. نشأ أولها عن تقهقر دور الكوفة بعد تراخي الجهاد وتراجع الغنائم بالنتيجة. وأعلن الغضب عن نفسه في حادثة خلع “الوليد بن عقبة” والي المدينة وشقيق عثمان من أمه بمكيدة.
ورغم تلكؤ عثمان، يحرص علي على أن يقام عليه حد شارب الخمر وُيخلع خلفه سعيد بن العاص. ويأخذ موسى الأشعري مكانه بتدبير من القراء الغاضبين (ص 93). فقد اكتسبوا شرفهم من القرآن ومن صحبة الرسول لا من الانتماء القبلي.
وها هم يرون في اهتزاز مرجعيتهم إيذانا بفقدانهم للحظوة أو الجاه أو التقدير لذواتهم الدينية. وستؤذن غضبتهم بتشكل حركة معادية لعثمان (ص 94). ولأنّ كل حركة تولّد حركة تعاكسها في الاتجاه وتوازيها في المقدار ستأخذ الإيديولوجيا الأموية في التشكل.
هشام جعيط درس العقل العربي في لحظة ما. فكانت دراسته آنية بؤرتها الفتنة وغايتها البحث في أسبابها الظاهرة والخفية. وقدّر أنّ التحولات على الأرض كانت أسرع بكثير من التحولات في الأذهان. فعجز هذا العقل عن مجاراتها.
ويظهر ثاني صدامات هذا الاضطراب المعاكس في المدينة. فتحاصر مجموعة من الغاضبين الوافدين من مصر والعراق منزل الخليفة. وترغمه على إعلان توبته وعلى الالتزام بتغيير سلوكه بعد مفاوضات أشرف عليها الصحابة.
ولكن الخليفة ينكث بعهده. فيُقتل: يتسلل قتلته وهم ثلاثة مصريين وكوفي من دار مجاورة لداره ويطعنوه عدة طعنات. ثم ينفلت الجمهور الغاضب ليستبيح منزله بعد أن استباح الثوار دمه.
هل تخلى الصحابة عنه لمّا نكث بعهدٍ تم بإشرافهم؟ هل تقاعسوا؟ هل تواطؤوا؟ يومئ جعيط إلى ذلك (ص 116). فقد تركوه يواجه قدره بمفرده واكتفى علي بإرسال ابنه للدفاع عن الدار وأرسل قرب الماء “للخليفة المعطّش” وأرسل الزبير ابنه أيضا. أما طلحة فكان يساعد التمرد طامعا علنا في تأييد أصحابه ليتولى الخلافة.
وتعلن المبايعة التلقائية التي حظي بها علي الصدام الثالث المتعدد الرؤوس. فيتشكل الرأس الأول من ثالوث الجمل. إنّ اغتيال الخليفة كان فضيحة، وكان حدثا جللا لابد من الوقوف عنده. ومن يكفل تطبيق حدود الله؟ أما الخليفة فلم يكن يهتم.
وكأنه يجد في مقتله عقابا عادلا. فتتحرك عائشة بثقلها الرمزي مطالبة بالاقتصاص لدم عثمان المقتول ظلما. ويأخذ النداء المعنوي الأخلاقي شكل الحركة المعادية لعلي بانضمام الغاضبين والأمويين ويكسبها انضمام طلحة والزبير الشرعية وتقصي فرضية تحركها من منطلق علاقتها العائلية المعقدة مع علي أو حقدها الشخصي بسبب حادثة الإفك.
وتستولي الحركة على قصر والي البصرة وتطرده وتبدأ مرحلة الانتقام من القتلة. وتتخذ صيغة العمل الانشقاقي والانقلاب على السلطة لا تنفيذ شرع الله. فقد توسّع الانتقام ليشمل كل الذين اقتحموا المدينة قبل مقتل الخليفة وبلغ عدد القتلى ست مائة وأكثر.
ويتشكل الرأس الثاني من معاوية الذي يتلكأ في إعلان البيعة لعلي. ويظلّ ينتظر ما تجود به الأيام، بعد أن تلكأ أيضا في إغاثة عثمان كاشفا عن رغبته في استثمار الحدث، خاصّة أنه خبير داهية شارك في تنظيم الإمبراطورية واكتسب من مقارعة الخصوم القدرة على ضبط الاستراتيجيات البعيدة: لا يتورط في البيعة أو في الصدام ويفكر في استدراج مصر إلى صفه وهو يواجه العراق.
فيعقد أقذر الصفقات مع عمرو بن العاص: الدعم مقابل ولاية مصر. ويتحرك الرّجلان بالدعاية المضادة ضد علي ويتهمانه بتدبير مقتل عثمان واحتماء القتلة به لتجييش الناس ضده (ص188). ويستقطبان شرحبيل الزاهد واسع التأثير في الجمهور الشامي المسلم. فيأخذ على عاتقه الترويج لأفكارهما بين المدن.
ويمثل علي الورِعُ الرأسَ الثالث حيث لا ينفع الورع، ولا تنفع الفاعلية في المرحلة النبوية. فقد بقي على الهامش بعد موت الرسول. لذلك يدفن الموتى بعد واقعة الجمل ويبكي خصومه، مستعيدا “النموذج النبوي.. أي طريقة سلوك رسول الله تجاه مكة المغلوبة” (ص 171).
ولكن الواقع الذي يتحرك بسرعة رهيبة كان قد تجاوزه. فتتوالى هزائمه. فيتخلى عنه تيار الكوفة المحايد بتأثير أبي موسى الأشعري المقاوم للفتنة المحذر من تداعياتها أولا وينسحب أهل البصرة المثخنين بجراح واقعة الجمل. ويُفرض عليه قبول وقف الحرب ضد معاوية في صفيّن. ثم يُفرض عليه قبول التحكيم.
فيتنازل عن لقب أمير المؤمنين في صحيفة الاتفاق ثم ينقسم جيشه ويحترب بسبب انفصال الخوارج ثم يُفرض عليه أبو موسى الأشعري ممثلا له في حادثة التحكيم. فلا تكون نتيجته متكافئة. فعمرو بن العاص ممثل معاوية اقترح صاحبه للخلافة ولا يقترح الأشعري عليا فيفقده شرعيته رمزيا ثم يفر إلى المدينة.
يعيد جعيط بناء الحكاية كما يفعل المحقق لفهم جريمة والإمساك بكل عناصرها. ولكن عناصرها أكثر من وقائع. إنها علامات، أشياء تدل على أشياء أخرى غير نفسها. ففي السطح تبدو الفتنة صداما بسبب الطموح السياسي الجارف.
ويبدو قطب الرحى ومركز الثقل من كل هذه التوترات المالُ المنهوب من الجهاد. فعلى تخومه خيضت كلّ المعارك بعناوين مختلفة. وفي العمق تتضح وطأة الفكري أو الإيديولوجي الذي أدى إلى انشقاق الأمة وانقسامها:
الصراع بين الدين والدولة وبين الإمبراطورية والديمقراطية وبين الملوكية وشكل غامض من سيادة الأمة، غامض وفاعل بما أنه انتهى بقتل الخليفة عثمان. فكانت الفتنة الكبرى بشكل ما حسما دمويا لنزاع نجح عمر في تفاديه في حادثة السقيفة وفشل في ضبط آلية لارتقاء سدّة الحكم. وبعد؟ فأما المواجهة بين علي ومعاوية فصدام بين العقل الديني المتعفف والعقل السياسي المناور. وأما السياسة فنكد بابها الدهاء والخديعة.
وعلى خلاف هشام جعيط لا يتوقف الجابري كثيرا عند الفتنة. فهي حدث عارض من بين الأحداث الكثيرة التي يفيض بها نصه لكن الصفحات العشر التي خصصها لها تختزل طرحه فيما يلي:
ـ أنّ عبد الله بن سبأ، اليهودي الذي أسلم في خلافة عثمان، على الأرجح، أول من نشر فكر الوصي واقترب من علي بعد أن تمت بيعته ولكنه غالى في حقه فنفاه ثم لما اغتيل ظهر من جديد ينشر فكرة الرجعة والوصية متأثرا بمعتقدات سابقة للإسلام.
ـ أن معركتي الفتنة الكبرى (الجمل وصفين) امتداد للروح المكية التي ظلت ترفرف على المستضعفين مثل أبي ذر الغفاري وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود. فقد منحهم إسلامهم هويتهم في المجتمع ومكانتهم بين الناس ولم يكونوا مستعدين للتفريط في هذا الرأس مال الرّمزي بأية حال.
كان الجابري يحاول أن يفهم مأتى الاستبداد في هذا العقل السياسي الذي نعاني منه اليوم. ويعمل على مقاومته بقراءة جديدة للإسلام. فهو لا ينافي الديمقراطية في جوهره. ومبدأ الشورى منه يناهض الاستبداد القائم على مفهوم الراعي والرعية لا كما ورد في الحديث النبوي وإنما كما كرّسه الفكر الشرقي القديم الذي يماثل بين الإله والطاغية المستبد
ـ أن فكرة اصطفاء الأمويين للحكم كانت راسخة في العقل الأموي الباطن بداية من سعيد بن العاص والي الكوفة الذي أعلن” إنما السواد بستان قريش” فأقصى بقية المستفيدين من غنائم الجهاد، إلى معاوية الذي أخذ يجادل المنفيين إليه بسبب تبعات الاحتجاج على سعيد مفعما بفكرة الملك وبفكرة اصطفاء بني أمية قائلا:
إنّ الله “قد ارتضى لذلك [الرسالة] خير خلقه، ثم ارتضى له أصحابا فكان خيارهم قريشا، ثم بنى هذا الملك عليهم وجعل الخلافة فيهم” إلى عثمان الذي أجاب منتقديه بسبب إطلاقه يده في بيت مال المسلمين وإطلاق أيدي أهله في السلطة “فمالي لا أصنع في الفضل ما أريد. فلم كنت إماما”.
ولكن الجابري لم يكن معنيا بالفتنة وأسبابها، فهذه مرحلة عابرة من التاريخ العربي. إنه مشغول بآليات عمل العقل. فمن منطلق مفهوم المجال السياسي حاول أن يفهم ما طرأ على العقل السياسي العربي من تحوّل.
فالدولة كانت تدار قبل الفتنة من قبل أمير للمؤمنين يجمع بين العلم بالدين وقيادة الجيش. فتكون السياسة تطبيقا للدين وخادمة له. وتتشكل الرعية من قبائل حديثة العهد بالإسلام جندت جماعيا بتأثير زعمائها. أما مع معاوية فقد أضحت السياسة تمارس باعتبارها سياسة.
وحكمَ باسم القبيلة لا العقيدة. فنشأ المجال السياسي إذن من انفصال رجل الدين عن الأمير في قمة الهرم ومن انفصال الجند، ويقصد من قاتلوا معه، عن الرعية، ويريد من قاتل ضده أو ظل مترددا (ص235) في القاعدة.
وارتبط هذا المفهوم بتأسيس نظري قوامه اصطفاء الرب للأمويين لخلافته في الأرض مؤسسا لما يصطلح عليه بإيديولوحيا الجبر الأموية.
ومن منطلق مفهوم الكتلة التاريخية حاول أن يفهم ما طرأ على هذا العقل بداية من المرحلة العباسية. ويريد من مفهوم الكتلة التاريخية التحام مختلف القوى السياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية من أجل قضية واحدة.
فتمنح الدولة التوافق الضروري الذي يتطلبه الوضع. وتقسم المجتمع إلى طبقتين، الخاصة وتضمّ الخلفاء والأمراء من أهل بيته والوزراء والعلماء وكبار التجار والعامة، وينتمي الخليفة إلى منزلة الله أما خاصته فرجال ذوو سمعة وصيت ولكن بدون سلطة مادية.
والعامة وتضم الرعية والجند. ومن منطلق هذا التحوّل اتخذ المجتمع شكلا هرميا عوضّ الشكل الدائري المستمد من شكل الخيمة يتوسطها العمود ليرفع الخيمة وتمسك الأوتاد بها من الأطراف فتحفظها من تأثير الخارج كالرياح والأمطار(ص 333).
ولعلّ مفهومي المجال السياسي والكتلة التاريخية أن يختزل الأطروحة المركزية من الأثر كله. فالجابري ينتهي إلى أنّ هذا العقل السياسي ماثلَ، بعد مرحلة الخلفاء، بين رئيس المدينة الكونية (الله) ورئيس المدينة البشرية (الخليفة).
وولّد الوعي المطلق ومأتاه الجبرية الأموية والإيديولوجيا السلطانية العباسية وسبيله الاتجاه نحو الاستبداد. ويجد أنّ هذا البناء ظلّ ثابتا في الفكر السني. ومنه شعاره “من اشتدت وطأته وجبت طاعته” (ٍ ص 362). وعليه فنقدُ العقل السياسي العربي يبدأ من نقد هذا الوعي المطلق ومن رفض مبدإ الأمر الواقع.
لقد تقاطع الأثران في أكثر من مستوى. فعرضا الوقائع التاريخية نفسها وعبّرا عن مواقف متقاربة عامّة. ولكنهما اختلفا في وجهة السير. فهشام جعيط درس العقل العربي في لحظة ما. فكانت دراسته آنية بؤرتها الفتنة وغايتها البحث في أسبابها الظاهرة والخفية.
وقدّر أنّ التحولات على الأرض كانت أسرع بكثير من التحولات في الأذهان. فعجز هذا العقل عن مجاراتها. ومن هذه القناعة فحسب نفهم الانطباع الذي يتركه فينا الكتاب بأنّ المؤلف ينزع غالبا إلى تبرير سياسات معاوية وتَفَهُّم مؤمراته، فهو عنده الأقدر على فهم الواقع ومجاراته. ومن ثمة كان يتجه إلى الماضي باستمرار ويلتفت إلى الخلف ليحفر في أسس هذا العقل العميقة.
وعلى النقيض منه، كان الجابري يحاول أن يفهم مأتى الاستبداد في هذا العقل السياسي الذي نعاني منه اليوم. ويعمل على مقاومته بقراءة جديدة للإسلام.
فهو لا ينافي الديمقراطية في جوهره. ومبدأ الشورى منه يناهض الاستبداد القائم على مفهوم الراعي والرعية لا كما ورد في الحديث النبوي، وإنما كما كرّسه الفكر الشرقي القديم الذي يماثل بين الإله والطاغية المستبد. (ص 366).
لذلك كان يقوم بعملية مسح شاملة لتاريخ هذا العقل وهو يتجه إلى المستقبل ويلتفت إلى الأمام. فكان العقل السياسي واحدا أما أجهزة تشخيصه فاختلفت كما تبابنت نتائجها أيضا.