فكر وفلسفة

المشروع النقدي للجابري – رهانات المعرفة والسلطة

“الفكر العربي المعاصر مطالب إذن بنقد المجتمع ونقد الاقتصاد ونقد العقل، العقل “المجرد” والعقل السياسي… إنه بدون ممارسة هذه الأنواع من النقد بروح علمية سيبقى كل حديث عن النهضة والتقدم والوحدة في العالم العربي حديث أماني وأحلام..”

ص405/العقل السياسي../محمد عابد الجابري

يتقدم مشروع الأستاذ الجابري كمفعول لما يسميه المؤلف “باستراتيجية التجديد من الداخل، وهي استراتيجية تتحرك على ثلاثة محاور متكاملة: “محور النقد وإعادة البناء والترتيب لتراثنا الفكري بمختلف منازعه وتياراته، محور التأصيل الثقافي للمفاهيم والمناهج التحديثية، وقيم الحداثة والمعاصرة، ومحور نقد العقل الأوروبي وتصوراته الموجهة بالمركزية الأوروبية”[1]. يتعلق الأمر باستراتيجية نقدية، تنتظمها السمات التالية:

الدينامية: أي تفعيل المحاور المذكورة ينمو ويتسع باتساع مدى المشروع ورهاناته النقدية الكبرى..

النسقية: حيث نقف على فاعلية منهجية نقدية، موزعة توزيعا تكامليا على مباحث متعالقة ومنتظمة: المعرفة/السلطة/”الأخلاق”..

الوظيفية: أي أنه يعمل على نقد السائد من الدراسات، بالتحرر من هيمنتها، تكرارها ووصايتها.. وفي الجهة الأخرى نقد آليات العقل الغربي الموسومة بالتمركز ومستتبعاته في النظر “الآخر”..

تتقدم السمات المذكورة داخل هواجس/دواعي مقصدية ومنهجية متكاملة، ملحة واستعجالية.. فعلى مستوى المقصدية سيكون الرهان هو:

*رفع “الرهن” عن الفكر العربي، بإعادة صياغة إشكالياته الكبرى وفق حس نقدي إبداعي، قادر على تشخيص الحاضر العربي في تحولاته الراهنة، مع تأصيل ما يستدعيه حاضرنا من قيم حداثية كبرى كمواقف فكرية وكممارسة منتظمة..

*رفع الرهن عن الفلسفة العربية –والفكر العربي عامة- وذلك بدحض الأطروحات الاستشراقية الخارجية في نظرتها إلى التراث العربي.. وغير خاف أنها أطروحات تحكمها قبليات تمركزية، ترى في “الذات” أصلا مكتملا.. وفي “الأخر” اجترار وتكرارا.. وقد لخص (رينان) هاته المرجعية الميتافيزيقية في مجال الفلسفة، عندما “اعتبر الفكر العربي فكرا يونانيا مكتوبا بالحروف العربية”..

وهذا ما كرسه تاريخ الفلسفة المحكوم بالمركزية الأوروبية بفرضه “إمبريالية إيديولوجية على تاريخ الفلسفة، بل على تاريخ العلم والفلسفة وجميع أنواع النشاط الإنساني الروحي والفكري، تماما كما فرضت الرأسمالية الأوروبية وتفرض إمبريالية اقتصادية وسياسية في العالم”. ليس هذا وحسب، ذلك أن قراءتنا الحالية والسائدة للفكر الفلسفي في الإسلام “توجهها وتحكمها مسبقات لا تجد مصدرها في تراثنا الفلسفي نفسه، ولا في مشاغلنا الراهنة، وهو ما يعني أننا مازلنا ندرس أو نفكر في كثير من جوانب تراثنا بنفس المعطيات التي شكلت وتشكل الإطار المرجعي للمستشرقين”[2].

*وأخيرا وليس آخرا، فإن رفع الرهن عن تراثنا الفلسفي في زمن الاستقلالات الثقافية –حيث العولمة الكاسحة- هو السبيل إلى إثبات هوية غير نكوصية منفتحة-منتظمة في ماضيها كما في حاضرها، لا بالمعنى السائدين، حيث الماضي ماضي السلف، والحاضر حاضر أوروبا، ولكن على أساس انتظام مغاير، يأخذ سنده داخل ما يسمه الجابري “بالاستقلال التاريخي للذات العربية”.

أما على مستوى المنهج، فسيكون الرهان هو:

*تأسيس قراءة جديدة فاعلة –تحررنا من الاجترار ومن التبعية- تضع أفقا لها مراجعة وتصحيح النظر إلى الفكر الفلسفي تصحيحا، لا يمكن اعتباره حلقة داخل السلسلة، بل إعادة ترتيب السلسلة ذاتها.. وهذا ما تطلب فعلا، وبحركة مزدوجة، من جهة إعادة تنظيم تراثنا الفلسفي، ومن جهة أخرى إعادة ترتيب العلاقة معه بشكل يجعله –في أقوى لحظاته المشرقة- “أقر ما يكون منا، يستجيب لاهتماماتنا المعاصرة، ويكون مرجعية لنا في الاتفاق والاختلاف”..

يتعلق الأمر، بفاعلية نظرية جديدة، تميز بين ما هو سائد من قراءات –في تنويعاتها النظرية والمقصدية- وبين ما يباشره الأستاذ الجابري ويدعو إليه:

*لا يخرج ما هو سائد من قراءات لتراثنا عن طريقة واحدة في التفكير، وفي إنتاج المعرفة، وهي الطريقة التي سماها الباحثون العرب القدامى “قياس الغائب على الشاهد” لقد ترتب عن هذه الآلية الذهنية التي أصبحت تشكل الفعل المنتج في نشاط العقل العربي –من غير فحص ولا تدقيق- نتائج خطيرة منها: إلغاء الزمان والتطور، فالحاضر كل “حاضر” يقاس على الماضي، وكأن الماضي والحاضر والمستقبل عبارة عن بساط ممتد لا يتحرك(…)، ومن هنا لا تاريخية الفكر العربي”[3].

بهدف تجاوز النشاط الذهني المذكور بعيوبه المنهجية والرؤيوية –غياب الموضوعية، وغياب النظرة التاريخية- يعمل الأستاذ الجابري على الاشتغال وفق استراتيجية نقدية متدرجة.. تقوم في منظورها الأول على صياغة نقد إيديولوجي له خصوصياته، ومبرراته المعرفية بالدرجة الأولى.. كما يعمل من جهة ثانية، على الدفع بالحمولة النقدية باتجاه نقد إبستمولوجي، يعمل على بيان إواليات المعرفة في مسارها التكويني.. ثم في انتظامها البنيوي، مما يضعنا فعلا أمام اشتغال “حفري” يخص نظم المعرفة في الثقافة العربية، كما يعمل في نفس الانتظام، على رصد “جينيالوجيا” الخطاب السياسي العربي في ممارسته التاريخية.. مع ما يترتب عن ذلك التحليل من رهان نقدي قوي لمسار المجتمع العربي في المبحثين المذكورين:

لنوضح بداية مدرا النقد الإيديولوجي = يستند المؤلف في “نحن والتراث” –بما هو قراءة إيديولوجية- إلى معيار محدد: ما لم يتم التمييز بين المحتوى المعرفي الذي روجته الفلسفة الإسلامية، والمضامين الإيديولوجية التي حملتها، فإن المغالطات المنهجية، وأشكال الخلط ستكون هي النتيجة، وهذا ما أثبتته القراءات المتعلقة بالتأريخ للفلسفة العربية، بما في ذلك المرتبطة بالمنهج الجدلي، مرورا بالمستشرقين وتوابعهم في العالم العربي..

يلتمس النظر النقدي المذكور مرجعه المعرفي، ضمن المبررات التالية:

– “أنها قراءة إيديولوجية واعية، وهي بذلك أفضل ألف مرة(…) من أن نستمر في قراءة تراثنا قراءة إيديولوجية غير واعية، قراءة مزيفة مقلوبة”[4].

– أن الإشكالية الرئيسية التي هيمنت على تراثنا الفلسفي هي إشكالية إيديولوجية بالأساس: “إشكالية التوفيق بين النقل والعقل، بين الدين والفلسفة(…)، ثم هل يمكن الادعاء بأن قراءة ما تصدر عنا نحن العرب المعاصرين، يمكن أن يكون متحررة من الهاجس الإيديولوجي[5].

– إن ما ندعوه بالفلسفة الإسلامية لا يعني أننا أمام “قراءة متواصلة ومتجددة لتاريخها الخاص، كما كان الشأن بالنسبة للفلسفة اليونانية، وكما هو الحال بالنسبة للفلسفة الأوروبية(…) بل إن الفلسفة في الإسلام كانت عبارة عن قراءات مستقلة لفلسفة أخرى هي الفلسفة اليونانية، قراءات وظفت نفس المادة المعرفية لأهداف إيديولوجية مختلفة متباينة[6].

ينتهي الأستاذ الجابري في قراءته الواعية –إلى ضرورة التمييز في تراثنا الفلسفي بين نظامين فكريين أو مدرستين معرفيتين: المدرسة المشرقية (الكندي، الفارابي، ابن سينا، الغزالي..)، المدرسة المغربية (ابن باجة، ابن طفيل، ابن رشد..)، “لقد كان لكل واحدة منهما منهجها الخاص، وإشكاليتها الخاصة كذلك، لقد كانت المدرسة الفلسفية في المشرق(…) تستوحي آراء “الفلسفة الدينية” التي سادت مدرسة حران(…)، أما المدرسة الفلسفية في المغرب، مدرسة ابن رشد خاصة، فقد كانت متأثرة “بالثورة الثقافية” التي قادها ابن تومرت.. والتي اتخذت شعارا لها “ترك التقليد والعودة إلى الأصول”..

يتعلق الأمر، بالتمييز بين روحين معرفيتين في تراثنا الثقافي: الروح السينوية والروح الرشدية.. ولما كانت الروح التي يصدر عنها كل نظام معرفي مختلفة عن الآخر.. فإن اختلافهما يرفع إلى درجة “القطيعة الإبستمولوجية” بين المدرستين، قطيعة تمس في آن واحد المنهج والمفاهيم والإشكالية..[7].

وفي هذا الأفق المعرفي، إذا، ستشكل الروح الرشدية الجديدة تأسيسا غير مسبوق يهدف إلى القطع مع الأساس المنطقي-المنهجي الذي اعتمدته المدرسة المشرقية، كما يقطع مع مفاهيم ذلك المنهج والمتسمة بالتضايف والتناقض.. وبالتالي القطع مع طرائق التفكير المرهونة بتحقيق “الدمج بين الدين والفلسفة..

لقد استهدفت العقلانية الرشدية نقد المغالطات والأحكام الخاطئة، وذلك ببيان حدود “التهافت” ومغالطاته في النظر الفلسفي، فكان من نتائجه القوية:

– “الفصل بين الدين والفلسفة، باعتبار أن لكل منهما مجاله الخاص، وطريقته الخاصة..”

– “تأكيد العلاقة السببية في عالم الطبيعة وعالم ما بعد الطبيعة سواء بسواء، وفهم حرية الإرادة البشرية ضمن الضرورة السببية، وربط هذه الحرية بالعلم بالأسباب”..

– “الميل إلى نوع عقلاني خاص من وحدة الوجود، يعتبر الإله كقوة رابطة بين أجزاء الكون وظواهره، قوة روحية هي في آن واحد مندمجة في الكون ومتعالية عليه[8].

تلك هي بعض عناصر الروح الرشدية التي ينتهي إليها الأستاذ الجابري في قراءته.. داعيا إلى “استعادتها” بجعلها حاضرة في فكرنا ونظرتنا وتطلعنا.. “إن الروح الرشدية يقلبها عصرنا، لأنها تلتقي مع روحه في أكثر من جانب، في العقلانية والواقعية والنظرة الأكسيومية والتعامل النقدي(…) إنها الجوانب التي يلزم على الفكر العربي المعاصر أن يستوعبها، فيوظفها توظيفا جديدا، في نفس الاتجاه الذي وظفت فيه أول مرة، اتجاه محاربة الإقطاعية والغنوصية والتواكلية، وتشييد مدينة العقل والعدل، مدينة العرب المحررة، الديمقراطية والاشتراكية[9].

أما بخصوص المدار الإبستمولوجي، فينطلق فيه الأستاذ الجابري من رهان استئنافي للنظر، يعمل من خلاله على تأصيل رؤيا جديدة للمعرفة النقدية..” لن ينصب النقد على هذه المواقف أو تلك، ولا بالاختيار بين هذا المنهج أو ذاك من المناهج الجاهزة، بل فحص العملية الذهنية التي سيتم بواسطتها ومن خلال تطبيق المنهج أي منهج، المسألة الأساسية هي نقد العقل لا استخدام هذا العقل بهذه الطريقة أو تلك[10].

نميز في نقد الجابري للعقل بين مستويين:

المستوى الأول: نقد العقل المنتج للمعرفة، ويتخذ النظر أفقا “حفريا” لنظم المعرفة في الثقافة العربية..

المستوى الثاني: نقد العقل بما هو آليات، تقنيات اشتغال الفعل السياسي بما هو ممارسة، على أن يأخذ النظر صيغة “حفريات” ذات غاية جينيالوجية.. نتعرف من خلالها على تحليل ونقد “الخطاب السياسي العربي في مساره “التاريخي”..

بخصوص المستوى الأول: فيتعلق الأمر إنجازات بـ”دراسة تحليلية، نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية.. بفحص آلياتها ومفاهيمها ورؤاها وعلاقة بعضها ببعض مما يشكل البنية الداخلية للعقل العربي كما تكون في عصر التدوين، وكما استمر إلى اليوم..[11].

تضعنا المعطيات المكثفة أعلاه، أمام فاعلية جديدة في النظر إلى الثقافة العربية الإسلامية، راهن على الإبستمولوجيا ضمن انشغالات “حفرية”، أي على إبراز الكيفية التي “تكونت بها معرفة ما”، مع بيان خصائصها الانتظامية.. على أن يقصد بالمعرفة ميدانا مكونا من مختلف الموضوعات والمفاهيم التي تتحدد في ممارسات خطابية قابلة للوصف والتحليل.. وبالانتظام بنية تفكير تطبع بمسيمها فترة معينة بكاملها[12].

سيكون النظام المعرفي حسب الأستاذ الجابري –في استناده إلى السيكولوجيا التكوينية- هو “جملة من المفاهيم والمبادئ والإجراءات التي تعطي للمعرفة في فترة تاريخية ما، بنيتها اللاشعورية”[13]، كما تحدد نظرة الإنسان إلى الكون والمجتمع والتاريخ..

يمكن أن نميز في ضوء ذلك، بين عدد من السمات منها:

أن اعتماد النظام المعرفي، يمكن من خلق تصنيف جديد للخطاب مبني على أساس نسقي، أي رصد الانتظامات العلائقية التي تحكم نظاما معرفيا ما، في فترة ما.. مما يسهل وصفه وتحليله..

– أن اعتماد النظام المعرفي لا يدل على “أفق ساكن”، بل يخضع لمجموعة من الانزياحات والتفاوتات في “تشكله” و”اكتماله” (فهو أصلا ممارسة تاريخية)، ويترتب عن ذلك، أن علاقة الأنظمة المعرفية ببعضها، تخضع لعدد من الانزياحات والتفاوتات والاصطدامات.. مما يعني صياغة طرح جديد “للتأريخ”، يكون مخالفا كليا لما تعودناه من مؤلفات تعنى بالتأريخ في صبغة الكلاسيكية والميتافيزيقية[14].

– أن اعتماد النظام المعرفي لتحديد بنية تفكير ما، انطلاقا من نظام علائقي محدد، يفتح أفق ارتياد حقل علائق أخرى، قد تخدم مجالات أخرى.

يبقى أن نؤكد، من جهة أخرى، على أن الثورة الإبستمولوجية التي دشنها الأستاذ الجابري في النظر إلى الموروث المعرفي العربي.. تلتمس قوتها المعرفية بالنظر إلى أشكال الهيمنة التي مورست وتمارس على حقل التاريخ بشكل عام، وتاريخ الثقافة العربية الإسلامية بشكل خاص –بما في ذلك تواريخه الجزئية (تاريخ الأدب مثلا)- والذي تميز بعدد من العوائق الإبستمولوجية، يستعرضها الجابري، كما يلي:

+ خضوع التأريخ في ثقافتنا لاهتمامات سياسية مباشرة، تاريخ “فرق” و”طبقات”.. تاريخ الاختلاف في الرأي وليس تاريخ بناء الرأي..

هيمنة أشكال التكرار، والمتسمة عادة إما بالانتقاء لدرجة تشويش المضامين المعرفية والإيديولوجية.. وإما بتكديس مواد معرفية تكيسا وجدت فيه عقلية “السبق التاريخي”، مجالا خصبا لإثبات رغباتها الذاتية..

– اجترار التصنيفات التقليدية للعلوم (علوم نقلية/ع عقلية)، (علوم دين، علوم اللغة..)، وهي التصنيفات التي ما زالت سائدة، مما أدى إلى عدم إدراك بنية الانتظام التي تحكم عددا من المجالات المعرفية، اعتبرت معزولة عن بعضها[15].

تأسيسا على هذه المعطيات جميعها، يعمل الأستاذ الجابري على أجرأة المنظور الجديد، بالتمييز بين ثلاث نظم معرفية في الثقافة العربية الإسلامية: البيان/العرفان/البرهان.

كل نظام معرفي ينتظم بذاته عددا من العلوم.. كما أن كل نظام معرفي يشتغل على مستوى إنتاج المعرفة والرؤى المرتبطة بها من خلال عدد من الأزواج[16].

بعد مستويات من الحفر المعرفي في نظم الثقافة العربية الإسلامية، ينتهي الأستاذ الجابري إلى مرحلة انحصار تلك النظم، واستنفاذ مهامها، الأمر الذي فسح المجال لأشكال من “التداخل التلفيقي”.. انعكست أزمته من خلال تجربة الغزالي وإنتاجه “والحق أننا إذا نظرنا إلى الغزالي كظاهرة فكرية وجدناه عبرة عن ملتقى طرق، انتهت إليه النظم المعرفية الثلاثة، فالتقت عنده التقاءا بنيويا، أعني صداميا، وكانت نتيجة هذا اللقاء على صعيد الغزالي كفكر وكعقل هو الأزمة الروحية التي عانى منها، أزمة الشك اللاأدري[17].

أمام هذا الانهيار الواضح، بآثاره السلبية على مسار العقل العربي، ستتولد محاولات جديدة تهدف إلى إعادة تأسيس النظم المعرفية، بشكل يقع خارح التكديس.. محاولات تنتظمها رؤية جديدة، تحرر النظر المعرفي من عوائق التلفيق..

يتعلق الأمر، بالروح النقدية لابن حزم(…)، ثم بالروح العقلانية لابن رشد(…)، ثم بالروح الأصولية للشاطبي(…)، وأخيرا بالروح النقدية لابن خلدون في تأسيس التاريخ على البرهان.. ليصبح علما بيانيا استدلاليا له قواعده وانتظاماته..

أما بخصوص المستوى الثاني فيتعلق الأمر بقراءة جديدة للخطاب السياسي العربي الإسلامي.. قراءة مستأنفة أيضا.. لن تكون تأريخا للفكر السياسي.. كما لن تكون حديثا عن العقل السياسي “ضمن التصنيف الثلاثي للنظم المعرفية في الثقافة العربية (بيان، عرفان، برهان)[18].. بل تتخذ صيغة نقدية للعقل السياسي، بما هو ممارسة للسلطة، سلطة الحكم.. توضيح لاشتغال النقد بالمعنى الذي يقدمه الفكر الفلسفي المعاصر، نقول: إن مقصدية الأستاذ الجابري في “تعرية الاستبداد بالكشف عن مرتكزاته الإيديولوجية ومآزقها.. بل تتخذ حركة وصف تحليلي عبر “رصد محددات الممارسة السياسية وتجلياتها في الحضارة العربية الإسلامية وامتداداتها إلى اليوم[19]، كما تتخذ رهان تفسير نقدي للمعقولية السياسية العربية الإسلامية في ممارساتها للسلطة، سلطة الحكم..

يمكن القول، استتباعا، بأن رهان النقد كما مارسه المؤلف، يتوزع من خلال محورين متكاملين:

المحول الأول: متعلق ببناء موضوع الدراسة، من حيث شبكة المفاهيم التي يشتغل بها ومن خلالها.. ثم بنوع الفرضيات التي يدفع بها.. والإشكالية التي يتحرك فيها.. وفي هذا المضمار نقف على نوع من الاستثمار الاستراتيجي للاجتهادات الغربية المعاصرة، وبخاصة الدراسات الاجتماعية والأنتروبولوجية، في انتظام مع الاجتهادات الغربية المرتبطة بالماركسية: وهكذا، فإذا كان “اللاشعور السياسي” و”المخيال الاجتماعي” –كمفهومين إجرائيين- قد عملا على “ربط العقل السياسي بمحدداته وتغذية تجلياته”، فإن الاجتهادات الماركسية –التي استفادت من وضعية المعارف الجديدة (الأنتروبولوجية-الأركيولوجية- قد عملت على إعادة النظر في العديد من المفاهيم الماركسية بما يلائم “القيام بتحليل جديد لبنيات القرابة والبنيات الاقتصادية والبنيات الدينية في المجتمعات غير الطبقية، أو التي تعرف انقساما طبقيا غير متطور..[20]

إن قوة التعامل مع الاجتهادات الغربية المعاصرة “في التأكيد على كلية الظاهرة الاجتماعية في المجتمعات غير الرأسمالية، ووحدة البنيتين التحتية والفوقية فيها، وعلى أهمية دور كل من الدين والقرابة، إلى جانب الاحتفاظ للعامل الاقتصادي بأهميته(…) هو أنها تقربنا أكثر من تراثنا”.. من فكر ابن خلدون بالذات، حيث نقف من خلاله على “حضور لنفس المحددات (العقيدة، الغنيمة، القبيلة)، باعتبارها موضوعا لعلم جديد سماه “علم العمران البشري”..[21]

كمفعول لهذا الاستثمار –وضمن أفق “التبيئة”- عمل المؤلف على نمذجة المحددة أعلاه، في صيغة مفاتيح ذات آثار منهجية قوية منها:

– أنها أسعفت في الوقوف على آليات السلطة المتنوعة والمتداخلة، كما أسعفت في رصد صيغ وأشكال الخطابات السياسية المرتبطة بها في مجرى التحولات.. مما يعني أن المحددات ليست ثابتة، بل تخضع ضمن حركة التاريخ لتوزيعات جديدة ولترتيبات جديدة، وبالتالي “فإن أهمية هذا المحدد أو ذاك تختلف من حالة لأخرى ومن عصى لآخر[22].

– أن فاعلية المحددات كمفاتيح قد أسهمت في تقديم رؤيا أوضح لماضينا، مما يساعد على تشخيص حاضرنا السياسي، إذ كلما كانت الرؤية أوضح للماضي، كلما كان بالإمكان تحقيق رؤيا أوضح للحاضر”.. وبهذا المعنى، فإن “فرضية” المؤلف ذات الروح الخلدونية، والمبنية على أساس “أن حاضرنا، رغم كل مظاهر التجديد امتداد مباشر لماضينا”.. إنما تجد سندها الاستدلالي في انتظام المحددات الذي يجب أن نبحث عنه في الشبكات الإحالية لكل محدد على حدة:

القبيلة: (…) “ما يعبر عنه ابن خلدون إجمالا بالعصبية، وما نعبر عنه نحن اليوم بالعشائرية، حين نتحدث عن طريقة في الحكم أو سلوك سياسي أو اجتماعي يعتمد على ذوي القربى(…) ولا نقصد قرابة الدم وحدها، حقيقية كانت أم وهمية، بل نقصد كذلك كل ما في معناها من القرابات ذات الشحنة، العصبية مثل الانتماء إلى مدينة أو جهة أو طائفة أو حزب، حين يكون هذا الانتماء هو وحده الذي يتعين به “الأنا” و”الآخر” في ميدان الحكم والسياسة”[23].

العقيدة: لا نقصد مضمونا معينا، سواء كان على شكل دين موحى به، أو على صورة إيديولوجيا يشيد العقل صرحها، وإنما نقصد أولا وأخيرا مفعولهما على صعيد الاعتقاد والتمذهب”، أي ما له قدرة على تحريك الأفراد والجماعات وتأطيرها داخل ما يشبه “القبيلة الروحية”[24].

الغنيمة: والمقصود بها ثلاثة أشياء متلازمة: نوعا خاصا من الدخل (خارج أو ريع)، وطريقة في صرف هذا الدخل (العطاء بأنواعه)، وعقلية ملازمة لهما..[25].

– أنها أسعفت في صياغة الإشكالية النظرية بما يلائم سؤال الحاضر.. وبما يؤسس القدرة على مجاوزته.. لا القفز عليه..[26] يتعلق الأمر باشتغال إشكالي مختلف في قراءة التاريخ السياسي العربي الإسلامي يقوم على ما يلي: كيف نفسر اشتغال نفس محددات العقل السياسي العربي في الماضي والحاضر –ولنفس المجال السياسي- حتى وإن اتخذت تنويعات مختلفة.. حتى وإن اتخذت أحيانا صورة عودة المكبوث السياسي والديني من عشائرية وأصولية؟..

المحور الثاني: متعلق بأجرأة الأفق النظري السابق، عبر إنجاز ما يساعد على التعرف على ذواتنا –وبالتالي حاضرنا- وعلى علاقتنا بالسلطة.. يتعلق الأمر بإنجاز “بحث تاريخي” لجينيالوجيا المعقولية السياسية في تمفصلاتها وقطائعها.. وبلغة المؤلفة، “فإن التحرر من العوائق المعرفية والإيديولوجية التي تقيد نظر العقل السياسي العربي”، يسمح باكتشاف الطريق إلى تأريخه، إلى إماطة اللثام عن كيفية تكونه، وتتبع مسار تكوينه”[27].

1 – استدعت كيفية التكون العمل على “إعادة بناء المراحل الأولى من تاريخ تكوين العقل السياسي في الحضارة العربية الإسلامية، ضمن مرحلتين:

المرحلة الأولى (من الدعوة.. إلى الدولة)

المرحلة الثانية (من الردة.. إلى الفتنة)

ومع أن فاعلية المحددات وترتيبها، يختلف بالنسبة لكل مرحلة، فإن المهم في الحالتين، هو بيان مفعول المحددات السياسي، على ما له علاقة بتشكل العقل السياسي العربي الإسلامي بما هو ممارسة.. وهذا واضح في تعامل المؤلف مع الفعل السياسي، ضمن شبكة مفاهيمية ترى في السلطة نظاما من التمالغات والتعاهدات.. وما يرتبط بذلك من مفاوضات وحسابات واحتياطات.. بل وما يدخل في ذلك من تاكتيكات حربية، واستراتيجيات قتالية متنوعة..

2 – استدعى إنجاز مسار تكوين العقل السياسي، العمل وفق إجراءات جديدة منها:

– إدخال مفاهيم إجرائية جديدة (المجال السياسي، كتلة تاريخية، البنية العميقة، البنية السطحية، خاصة، عامة)، تمكن من التعرف على الظاهرة السياسية في التجربة الحضارية العربية الإسلامية..

– تتبع آليات اشتغال “الخطاب” السياسي، كإجراءات وتقنيات ملموسة.. ومن جهة أخرى رصد أشكال التمفصل بين الخطابات السياسية..

مكنت الإجراءات المذكورة من استخلاص “المفارقة التالية:

– التمييز بين ثلاثة أشكال من الممارسة السياسية المرتبطة بالحكم (من الدعوة إلى الدولة.. دولة النبوة والخلافة، ومن هذه إلى الملك العضوض والدولة السلطانية)..

– الإقرار بتكرارية المسار السياسي “لأن المحددات التي صنعته والتي كانت تعيد صنعه بقيت هي هي: قبيلى، غنيمة، عقيدة..”[28].

قد يبدو الإقرار المذكور صدى لتصورات وقناعات سائدة هنا وهناك[29].. غير أن ما يميزه في طرح المؤلف، هو أنه يكتسب قوته بالنظر إلى آليات الحفر الجينيالوجي –لا النقد الإيديولوجي- مما يمكن من نقد المعقولية السياسية في انتظامها البنيوي، وفي تحولاتها التاريخية.. والمعطيات التالية توضح ذلك.

ينطلق المؤلف في رصده لخصوصيات الأشكال السياسية المرتبطة بالحكم، من عمل المحددات بما هي “قوالب لا شعورية” تؤطر العقل السياسي العربي الإسلامي.. وبذلك فنحن لا نعدم حضورها –وبشكل توزيعي مختلف- في التأسيس الأول، أي دولة النبوة (عقيدة، قبيلة، غنيمة)، ثم إعادة التأسيس، أي دولة الخلافة (قبيلة، غنيمة، عقيدة)، ثم التأسيس الجديد، أي دولة “الملك السياسي” لقد كان التأسيس الأول على يد النبي (ص) إثر الهجرة إلى المدينة، وكان التأسيس الثاني على يد أبي بكر، من خلال إقراره الصارم بمحاربة أهل الردة، وعدم التنازل لهم عن أي مظهر من مظاهر الإسلام كدين ودولة، وتأتي الفتنة زمن عثمان لتتحول إلى حرب أهلية مدمرة، تهدد بوضعية اللادولة. فجاء “ملك” معاوية لينهي هذه الحرب، ويعيد تأسيس الدولة”[30].

يميز المؤلف داخل عمل التأسيس بين شكلين سياسيين مختلفين.. اختلاف يرفعه على مستوى الخطاب السياسي إلى درجة القطيعة:

الشكل الأول: “تتحدد فيه الممارسة السياسية بالمحددات الثلاثة (قبيلة، غنيمة، عقيدة) بصورة مباشرة”، أي دولة النبوة والخلافة”[31].

الشكل الثاني: “يتميز بممارسة السياسة في المحددات المذكورة”.. أي دولة “الملك السياسي”.. مما يعني أن “فعل المحددات الذي كان مباشرا في المرحلة السابقة، سيصبح مع “ملك” معاوية فعلا يمارس بتوسط السياسية”[32]..

لكي يتحرى المؤلف دقة الانتقال من الشكل الأول إلى الثاني، بما هو تدشين لقطيعة في الخطاب السياسي.. عمد إلى “توسيع” الترسيمة التقليدية لتطور الحكم في الإسلام من الخلافة القائمة “على الشورى إلى الملك القائم على القوة والغلبة”[33]، وذلك بالدفع بمفهوم “المجال السياسي” –كمفهوم جديد مشتق من خطاب علماء الاجتماع والسياسة- ومعنى ذلك أن الانتقال من الخلافة إلى الملك، يجب أن يفسر بكونه انتقال من “دولة بدون مجال سياسي إلى دولة انبثق فيها مجال خاص تمارس فيه السياسة كسياسة”[34].

هكذا إذا، يستعرض المؤلف خصوصية “المجال السياسي” لتلك المرحلة، بالنظر إلى آليات “العقد السياسي”، الذي اقره معاوية والمبني على أساس المنفعة والغنيمة، مع الالتزام بأن تكون ممارسته للسلطة قائمة على نوع من الليبرالية.. وبالنظر أيضا إلى ثوابت الممارسة السياسية التي نهجها والقائمة على “المجالدة كأساس للحكم، ثم المواكلة والمشاربة الجميلة كاسلوب له، مع الرهان على الشرعية القرشية..[35].

كما يستعرض –في سياق نص “لابن العربي” حول جوهر التحول الذي حصل في بنية الدولة والمجتمع في الإسلام- مجمل التحولات المرتبطة بانبثاق المجال السياسي المذكور “من سياسة معاوية، ودور الخوارج الفكري والعسكري، ودور معتزلة الفتن من قراء وقصاص وعباد”[36]، فضلا عن طبقة الموالي كقوة اجتماعية جديدة، أخذت تنمو خارج مجتمع “القبيلة”، وتتهيأ لتبرز كنقيض معارض للسلطة الأموية..

وفي سياق تفعيل “جينيالوجيا” العقل السياسي، عمل المؤلف على متابعة التحولات التاريخية لهذه القوى المضادة للأمويين، والتي مثلتها من جهة حركة الشيعة، من خلال تتبع حركة “المختار” السياسية –المطالبة بدماء أهل البيت، والدفاع عن الضعفاء..- ومن جهة أخرى حركة الخوارج من خلال “إيديولوجيا التكفير”.. ومع أن الأستاذ الجابري قد استهدف بيان كيف كانت الحاجة ماسة إلى صوت العقل.. أي الحاجة إلى حركة تنويرية عقلانية تخترق حقل التفكير المحاصر بإيديولوجيات لا عقلية: إيديولوجيا الجبر الأموي، إيديولوجيا التكفير، ميثولوجيا الإمامة.. فإن الأمر لا يتعلق بتركيب جدلي تمثله حركة التنوير، بل برصد كيفية تشكل وتطور خطاب مضاد، خطاب متنوع المظاهر، مندمج الرؤيا –أي إسقاط الدولة الأموية- له وضعية الخطاب السياسي-التاريخي –قد أخذ صبغة كلامية (نسبة إلى علم الكلام)- الذي من مظاهره:

– تشكل مخيال مضاد، برموز وشخصيات مضادة (الحسين بن علي، محمد بن الحنفية..)، وذلك في تعارض مع رموز الأمويين (معاوية، يزيد ابنه..).

– تشكل “ذاكرة” مضادة لذاكرة القوة: فإذا كانت ذاكرة الأمويين مبنية على تحقق الانتصارات والتحالفات والمكانة القبلية الممتدة في التاريخ.. مما يثبت ويؤسس “لشرعية” القوة، وشرعية المكانة.. فإن الذاكرة المضادة –التي تمثلها المعارضة- ترى في الانتصارات وجهها الآخر المبني على القهر والاستغلال والقتل والتنكيل.. وبالتالي فإن مصدر السلطة –ليس شرعيا- هو العصبية والغلبة والحروب الدموية..

– تشكل خطاب مضاد كخطاب الجبر الأموي، خطاب يعلن المسؤولية الفعلية للإنسان على أعماله (جهم بن صفوان)، كما يجعل من المسؤولية السياسية “حقا” لأي فرد..(خطاب الخوارج)..

وفي سياق هذا الخطاب المضاد، وفي تحول تاريخي لما هو اجتماعي وسياسي وفكري –قيام الثورة العباسية- عمل المؤلف على بيان مدار التحول المذكور، عبر إدخال مفاهيم جديدة” قادرة على استيعاب ما أفرزته التطورات، التي رافقت الثورة العباسية، أو ظهرت بعدها..[37]

يتعلق الأمر، بإجراء مفاهيمي مزدوج المقصدية:

من جهة: فهم حركة المعارضة –منطق الثورة- بما هي تحالف لقوى فكرية مختلفة (إيديولوجيات متعارضة، ميتولوجيا الإمامة، حركة التنوير، فقهاء..)، مع قوى اجتماعية لها مصلحة في التغيير (عرب، موالي، زعماء قبائل، دهاقين الفرس، فلاحون..) وتفسر المعطيات المذكورة بمفهوم “الكتلة التاريخية”، بدل الزوج الضيق (عرب/عجم)، (عرب/فرس).

ومن جهة أخرى: فهم الترتيب الجديد –منطق الدولة- الذي أصبحت عليه الدولة أو المجتمع في العصر العباسي: “تميز النموذج الجديد للدولة في الإسلام بهيكلة اجتماعية جديدة تنتظمها بنيتان: بنية سطحية وبنية عميقة. أما البنية العميقة فتبقى دائما محكومة بالمحددات الثالثة “القبيلة” “الغنيمة” “العقيدة”(…)، وأما البنية السطحية فيميز فيها بين مفهومين جديدين: مفهوم الخاصة، ومفهوم العامة..” وهي المفاهيم التي ستأخذ إطارا تنظيميا –من خلال نسق ثقافي عام (إنزال الناس منازلهم)- مع انتصار الثورة العباسية: الخليفة في القمة –الخاصة في الوسط- العامة في القاعدة..[38].

يتوقف المؤلف بدقة في رصد التحولات التاريخية للخطاب السياسي الذي دشنه العباسيون، عبر بيان نوعية الإتباثات التي يقدمها هذا الخطاب في التماس شرعية الحكم.. وفي نفس الوقت، العمل على “تفسير” نوع الاستثمار الذي سلكه الخطاب المذكور في علاقته بعدد من ميكانيزمات الفعل الذي يخدم مصالحها السياسية..”[39].

لقد كانت النتيجة الفعلية لتلك الممارسات، وللهيكلة الاجتماعية المرتبطة بها، أن أصبح الخطاب السياسي –في تنوع مستوياته السياسية والإيديولوجية-[40] تدشينا لمنطق الدولة، منطق الأمر والواقع.. وبالتالي تكريس شكل واحد ووحيد من الواقع السياسي..

تأسيسا على هذا النظر بكامله.. فإن مقصدية المؤلف في “تجديد العقل السياسي”، لن تنفصل عن مدار استراتيجيته النقدية في “التجديد من الداخل”.. ومعنى ذلك أن “غرس الحداثة السياسية وترسيخها(…) لا يتحكم فيه شكل نظام الحكم وبنوده الدستورية وحسب، بل هو محكوم أساسا “بتجديد” محدداته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وبالنسبة للعقل السياسي العربي (…) فإن تجديد المحددات لا يمكن أن يتم إلا بالعمل من أجل تحقيق النفي التاريخي لها، وذلك بإحلال البدائل التاريخية المعاصرة، ومن هنا ضرورة المزاوجة بين قد الحاضر ونقد الماضي. إن نقد الحاضر، بما يحمله معه من بقايا الماضي، هو الخطوة الضرورية الأولى في كل مشروع مستقبلي. وبما أن  الماضي والحاضر عندنا لا ينفصلان، إن على صعيد وعينا، وعلى صيد واقعنا، فيجب إذن أن يتجه النقد إليهما معا، إلى ما يؤسس، شعوريا ولا شعوريا، العقل السياسي فيهما: إلى “القبيلة” و”الغنيمة” و”العقيدة”[41]..


[1] – مجلة فكر ونقد، العدد 18، السنة الثانية، أبريل 1999، ص13.

[2] – الفكر العربي المعاصر، العدد 4 و5، آب- أيلول، 1980.

[3] – نحن والتراث، ص19.

[4] – نحن والتراث، ص7.

[5] – نحن والتراث، “لن تكن الفلسفة في المجتمع الإسلامي ترفا فكريا، بل كانت منذ ميلادها خطابا إيديولوجيا مناضلا”، ص37.

[6] – نحن والتراث، ص31.

[7] – نحن والتراث، ص212.

[8] – نحن والتراث، ص248.

[9] – نحن والتراث، ص53.

[10] – بنية العقل العربي، ص5، نحن والتراث، ص20.

[11] – بنية العقل العربي.

[12] – “تستهدف الحفريات وضع اليد على أسلوب مغاير في رصد نظم المعارف وتاريخها، يتمثل أساسا في تصور تاريخ الثقافات كما لو كان سلسلة من النظم المعرفية تتقاسم لفترات تاريخية دائرة الحقيقة، فتبسط استراتيجيتها ومسلماتها على المجال المعرفي بمجمله، هذه النظم المعرفية هي ما يطلق عليه فوكو الإبستيمي”، ص62. أسس الفكر الفلسفي المعاصر، بنعبد العالي، انظر أيضا، حفريات المعرفة، فوكو، ترجمة سالم يفوت.

[13] – بنية العقل العربي، ص41.

[14] – انظر تكوين العقل العربي، ص332 وما بعدها، حفريات المعرفة، فوكو، نظام الخطاب، فوكو.

[15] – تكوين العقل العربي، ص333.

[16] – لن يكون مفيدا هنا أن أكرر ما قدمه الأستاذ الجابري عن هذه النظم سواء أثناء التحليل، أو عند مرحلة الاستنتاج، حيث نقف في كل نظام على إشكاليته الخاصة وضمن مستوى منهجي وأفق رؤيوي مختلفين..

[17] – بنية العقل العربي، ص500.

[18] – العقل السياسي، ص6.

[19] – العقل السياسي، ص50 وما بعدها، انظر خاتمة الكاتب أيضا.

[20] – العقل السياسي، ص31 و ما بعدها.

[21] – العقل السياسي، ص44.

[22] – العقل السياسي، ص48 وما بعدها.

[23] – العقل السياسي، ص46.

[24] – العقل السياسي، ص49.

[25] – العقل السياسي، ص 48.

[26] – ذلك القفز الذي يرصده المؤلف، وفق تشكيل استعار على دال، ضمن صيغتين دوغماتيقيتين:

*صيغة الاستنطاق بالقوة (التعامل البوليسي)

*صيغة الاقتطاف على عجل (التعامل اللصوصي)، نفس المرجع، ص..

[27] – العقل السياسي، ص394.

[28] – العقل السياسي، ص404.

[29] – بل إن هناك من يعتبر المشروع النقدي للجابري –خاصة العقل السياسي- مفعولا لرؤية حزبية لها حساباتها الخاصة (انظر الخاتمة).. والحقيقة أن الاعتبار الموقف المذكور فيه إجحاف واضح في حقل العمل وصاحبه.. فضلا عن أنه ينم عن عدم فهم للتماكنات –بعبارة باديو- الجديدة للفكر الفلسفي المعاصر..

[30] – العقل السياسي، ص250.

[31] – العقل السياسي، ص252.

[32] – العقل السياسي، ص252.

[33] – العقل السياسي،  ص149 وما بعدها..

[34] – العقل السياسي، ص252 وما بعدها.

[35] – العقل السياسي، ص267.

[36] – العقل السياسي، ص252 وما بعدها..

[37] – العقل السياسي، ص355 وما بعدها.

[38] – العقل السياسي، ص360 وما بعدها..

[39] – (…)وقد احتفظوا بصورة “الإمام” كما رسمتها ميثولوجيا الإمامة ولكن مع نزع الطابع الشيعي عنها وإحلال الطابع السني محله.. ص361 وما بعدها. ونفس الأمر بالنسبة لفكرة “الجبر الأموي”، في تضاد مع “إرادة الله واختياره”.. ص362 وما بعدها.

[40] – الإيديولوجيا السلطانية، جليل الكلام، في مضمونه السياسي، ثم فقه السياسة.

[41] – العقل السياسي، ص404.


المصدر

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى