دراسات إسلاميةشعر

التشابه والتطابق بين القرآن والشعر

الغرض الأسمى الذي يستخرج من المتشابهات عند ردها إلى المحكمات لا يتعدى إلى أكثر من إعطائها الوجه المفهوم الذي يزيل الغموض عنها، أما في حالة حصول هذا الوجه عن طريق آخر فهذا يضاف إلى بلاغة القرآن الكريم التي تتطابق مع المصاديق الأخرى التي يحيط بها اللسان العربي بكامل استقامته الناشئة عن البيان الذي يتمثل الجانب الأكبر منه بالشعر وحيثياته التي يجمعها ديوان العرب.


وإن شئت فقل الديوان الجامع لحياتهم وتأريخهم وما يترتب على ذلك من المفاخر والأمجاد التي كان يظن العرب أنها السبيل الأمثل لجعلهم من الأمم التي لا يعلى عليها وما حديث أنف الناقة إلا أحد الشواهد التي تبين ما نحن فيه وكذا ما كان يحدث في سوق عكاظ.


وعند الأخذ بهذا الإتجاه بعيداً عن السلبيات المرافقة له والمناظرات الخارجة عن العرف المتبع نكون قد وضعنا الشعر في المكانة التي يجب أن يكون عليها لما في ذلك من مميزات ومنافع قد تكون أرقى من الأدوات الأخرى التي استعملت في القصة أو أي مكون آخر من مكونات النثر، وذلك لوصوله إلى خلجات النفس بطريقة أقرب من النثر وإن كان الثاني أقدم وأجمع للأجناس الأدبية.


من هنا يظهر أن امتياز الشعر وخضوعه للأوزان يجعل المتلقي لا يجانب هذا التفضيل الذي أخذ بالتنازل بعد انتشار القرآن الكريم إضافة إلى دخول أدوات أخرى باعدت بين الشعر الحقيقي وبين ما يسمى بالشعر الدارج الذي تغلب عليه لهجات القبائل والذي لا يزال تأثيره السلبي قائماً إلى اليوم مما أدى إلى هجرته من قبل أصحاب الذوق السليم،

وهذا من أهم الأسباب التي جعلت الكفة تميل لصالح النثر في وقتنا الحاضر ما جعل أهميته تزداد وتطغى وتتشعب إلى أدوات أخرى كالرواية والمقالة وكذا الكتابات المسرحية وما يتبعها من أعمال أدبية.


فإن قيل: ألا يعتبر القرآن الكريم أحد مصادر النثر التي ذكرتها؟ أقول: القرآن الكريم لا يعتبر من النثر ولا من الشعر فهو فوق ذلك، وعند تبيان الفرق يظهر الأمر جلياً كما هو الحال في التقابل بين القرآن وديوان العرب فالأول يتكون من السور التي تحتوي على الآيات التي تنتهي بالفواصل، أما ديوان العرب فيتألف من القصائد التي تتكون من الأبيات التي تنتهي بالقوافي.

وبناءً على هذا التقسيم يمكن الرجوع إلى الإعجاز البلاغي الذي ترد أسبابه إلى المادة التي نزل بها القرآن الكريم وكذا الثوابت اليقينية التي تطغى على اسرار تلك المادة، وهذا ما أشار إليه تعالى بقوله: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) الإسراء 105.


أي أن سبب إنزاله هو الحق ومادته التي نزل بها هي الحق، وهذا ما يجعل الإتفاق بين اللفظ والمعنى يأخذ هذا المجرى المترتب على الجمع بينهما، ولو فقد هذا التطابق لنتج عنه الاختلاف الذي يفهمه أصحاب الذوق السليم كما قدمنا وذلك لامتلاكهم الأدوات التي يستطيعون بواسطتها أن يحكموا على صدق التنزيل من عدمه دون أن يخرج هذا الإتجاه عن الجانب البلاغي، وهذا من أهم مصاديق قوله تعالى: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) يس 69.


وكذا قوله: (وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون) الحاقة 41. فإن قيل: وماذا عن إتفاق الفواصل ألا يعتبر أقرب إلى متطابقات الشعر كما هو الحال في القوافي؟ أقول: الفواصل لا تعتمد على الاجتماع في جميع الآيات التي تتكون منها السورة.

ومن هنا نجد أن القرآن الكريم قد يباعد بين الفواصل مع حفاظه على النسق الصوتي الذي يتفق مع التركيبة الطولية المعتمدة ضمناً في السياق، كما في قوله تعالى: (طه***ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) طه 1-2. إلى أن قال: (إذهب إلى فرعون إنه طغى) طه 24.

ثم اختلفت الفواصل صوتاً مع الحفاظ على الرسم القرآني وذلك في قوله: (قال ربي اشرح لي صدري) طه 25. إلى أن وصل إلى قوله: (وأشركه في أمري) طه 32. بعدها تغير السياق صوتاً ورسماً، وذلك في قوله تعالى: (كي نسبحك كثيراً) طه 33. وهذا أقرب إلى التناسق الظاهر في سورة ق التي اختلفت فواصلها بتباين الحروف من الدال إلى الباء ثم عادت إلى الدال وهكذا دون أن يكون هناك تنافراً في السياق.


فإن قيل: إذا كان هذا الذي ذكرت يختلف عن الشعر في تركيباته فكيف يمكن أن يستقيم التحدي إذا أخذنا بالاعتبار أوجه التشابه؟ أقول: التحدي يظهر في الجوهر الذي يطغى في مادته على الشعر إذا ما نظرنا إلى عدم اعتماد الشعر على الصدق في غالب الأحيان إضافة إلى التخيلات التي تتحكم فيها الميول المختلفة بين شاعر وآخر وإن كان النص الشعري لا يخرج عن نطاق المادة نفسها.


من هنا يمكن أن نفهم مدى نوعية التشابه والتطابق بين الجانبين، وهذا ما يجعل الألفاظ التي تحمل المعاني ترد إلى أصلها وذلك نظراً إلى ما كان متداولاً من الأشعار التي عني بها عناية كاملة من قبل أفصح الناس لساناً في العصر الجاهلي وصولاً إلى ما ظهر من نتاجاتهم في عصر التنزيل. ويمكن تلخيص تلك النتاجات في بيانها لمعاني الآيات والقواعد القرآنية في مجموعة من النقاط أهمها:


أولاً: الكلمات التي لها أكثر من معنى: كاليأس الذي هو نقيض الرجاء أو يراد منه معنى العلم وذلك حسب وقوعه في الجملة، كما في قول الشاعر:
أقول لأهل الشعب إذ يأسرونني******ألم تأيسوا أني ابن فارس زهدم
أي: ألم تعلموا.. وقول آخر:
ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه******وإن كنت عن أرض العشيرة نائياً
أي: ألم يعلم الأقوام..
وهذا المعنى يدلنا على معرفة اليأس في قوله تعالى: (أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً) الرعد 31.
أي: أفلم يعلم الذين آمنوا..
وكذا الحال في التخوف الذي يحمل على بابه أو يراد منه التنقص، كما في قول الشاعر:
تخوف الرحل منها تامكاً قرداً******كما تخوف عود النبعة السفن
وهذا يدلنا على معنى قوله تعالى: (أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم) النحل 47.
أي: أو يأخذهم على تنقص.. وهذا ما يفهم من بيت الشعر آنف الذكر.

ثانياً: تكرار الكلمات في الجملة الواحدة: كما قال أبو النجم العجلي:
واهاً لريا ثم واهاً واها******هي المنى لو أننا نلناها
وله أيضاً:
أنا أبو النجم وشعري شعري******لله دري ما أجن صدري
تنام عيني وفؤادي يسري******مع العفاريت بأرض قفري
وهذا التكرار للأهمية سواء في المدح أو الذم.. كما في قوله تعالى: (أولى لك فأولى***ثم أولى لك فأولى) القيامة 34-35. وكذا قوله: (والسابقون السابقون) الواقعة 10. وقوله: (فإن مع العسر يسراً***إن مع العسر يسرا) الشرح 5-6. وهذا من الأبواب الواسعة في القرآن الكريم وعسى أن نوفق إلى بحثه في مقال آخر.

ثالثاً: تقييد المعنى باللفظ: كما في قول عنترة بن شداد:

إذا اشتغلت أهل البطالة في الكأس******أو اغتبقوها بين قس وشمّاس
جعلت منامي تحت ظل عجاجة******وكأس مدامي قحف جمجمة الراس

ولفظ: الكأس يقيد معناه في الخمر وقد نزل القرآن بهذا المعنى، كما في قوله تعالى: (إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً) الإنسان 5. وكذا قوله: (يتنازعون فيها كأساً لا لغو فيها ولا تأثيم) الطور 23. وقوله: (ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً) الإنسان 17.

وهناك ألفاظ كثيرة في القرآن الكريم يظهر فيها المعنى المقيد، كما في قوله تعالى: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم) الأنبياء 78. ونفشت.. أي: رعت ليلاً.. ومنه الإسراء الذي يستعمل في الليل فقط، كما في قول المتنبي:


أتوك يجرون الحديد كأنهم******سروا بجياد ما لهن قوائم
فإن قيل: إذا كان الإسراء يستعمل في الليل فقط فلمَ التكرار في قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً) الإسراء 1. أقول: تقييد الإسراء هنا بالليل يبين معنى الجزئية أي: أن الإسراء قد تم في جزء من الليل، وهذا كقوله تعالى: (فأسر بأهلك بقطع من الليل) هود 81. الحجر 65.

رابعاً: العطف دون استعمال الأداة: كما في قول الشاعر:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي******بأخرى الرزايا فهو يقظان نائم
فالشاعر هنا عطف نائم على يقظان دون أن يستعمل أدوات العطف، وقد نزل القرآن بهذا، كما في قوله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين) البقرة 2.

خامساً: أسماء الأضداد: كما في قول الأعشى:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمداً******وبت كما بات السليم مسهداً
وما ذاك من عشق النساء وإنما******تناسيت قبل اليوم صحبة مهدداً
وأراد من السليم معنى اللديغ.. وهذا من الاستعمالات الشائعة عند العرب، وقد نزل القرآن بها، كما في قوله تعالى: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها) البقرة 26. أي: فما دونها.. ومن أراد المزيد فليراجع.. أثر الشعر في التفسير.. وهو من مقالاتنا القديمة.

بالعربيّة

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى