استراتيجيات الخطاب عند طه عبد الرحمن
تستعمل هذه المقالة مفهوم “الاستراتيجية“، الذي يُوظف في مجموعة من الحقول المعرفية، بما يحمل من حمولة غنية بالدلالات، كالتنظيم والتخطيط، وحشد الموارد، وتحديد الغايات (…) أما الخطاب فنقصد به مجموع ما قاله ويقوله طه خطابيا، وما يكتبه من نصوص أو متون، تحمل مضونا أو رسالة تقترح على المتلقي نمطا في الحياة؛ اجتماعيا وسياسيا اقتصاديا.
تتعلق الاستراتيجية بالمعنى السالف بالمشاريع ذات الطابع المادي، كم تتعلق أيضا بالمشاريع ذات الطابع الثقافي، وإلى هذا الصنف ينتمي خطاب طه؛ لذا اختارت المقالة موضوع: “الاستراتيجية الخطابية” التي يعتمدها طه عبد الرحمن لخدمة غايات هي سقف خطابه.
يوظف طه عبد الرحمن ترتيبات، ويعتمد خططا، كما يحشد موارد تأخذ القارئ إلى الغايات التي يريدها تتقوم باعتماد أساليب انشائية محكمة، وتوليد بنية مفهومية كثيفة، وهندسة خطابية صورية محسوبة؛ فقد تحول الخطاب الانشائي عنده، بوصفه منجزا لغويا، إلى سلطة فوق العادة؛
إذ تكاد سلطته اللغوية، والصورية المنطقية، تختزل، إن لم نقل تلغي جميع المكونات التي يتوسلها الخطاب في التبليغ والارسال، مثل البرهان، والانطلاق من الواقع والتأسيس عليه، والاعتماد على التاريخ (…)
وتتعضد هذا الموارد الخطابية، التي تبني “السلطة”، والتي تتحول في النهاية إلى “حجة” لتقرير غايات الخطاب، مثل كثرة التأليف، وتوليد المفاهيم والمصطلحات بشكل مبالغ فيه، وكثرة الكلام عن الفلسفة وتقنيات التفلسف والاقدار عليه (…)؛
وفي المقابل نقد التبعية والتقليد في مجال الفلسفة. لكن القارئ إذا استطاع تجاوز هذا الخطاب الكثيف وطبقاته الانشائية والمفهومية والصورية، واخترقها باتجاه الرسالة؛ أو لنقل المحتوى والمضمون، فسيكتشف شيئا آخر؛ وهو أن الأستاذ طه يكرس عكس ونقيض مضمون الخطاب؛
فهو يستعمل الخطاب ويكرس نقيض مضمونه؛ يتحدث مثلا عن الابداع ويكرس عدم الاقتدار، ويتحدث عن التجديد ويخدم بنفس الخطاب التقليد، ويتحدث عن الحرية ويكرس التبعية والوصاية، ويتحدث عن التأهيل المعرفي للثقافة ويكرس الاخصاء الفكري (الاختلاف الفكري: 90)،
يكثر الكلام عن الفلسفة والتفلسف ويكرس سلطة التصوف الطرقي بوصفه؛ ليس مجرد فلسفة، بل باعتباره متفوقا على الفلسفة إلى درجة يتخذها موضوعا لنقده وتقويمه والكشف عن أسراره، وهو الذي يسميه: “فقه الفلسفة” (فقه الفلسفة 1: 26-29- إذ “يعلو” هذا “الفقه” على الفلسفة. (نفسه: 31).
وفي مجال التراث يلجأ إلى خطاب التعظيم والتبجيل وادعاء التفوق القيمي والفكري والمعرفي (تجديد المنهج: 9)، ولكنه في المقابل يغيب المحتوى والمضمون، فلا يشتغل على قضايا أو موضوعات محددة تعكس العظمة والتفوق والكمال،
يقول معترفا منهجيته في تقويم التراث: “آلية لا مضمونية: فلم تنظر في مضامين الإنتاج التراثي بقدر ما نظرت في الآليات التي تولدت بها هذه المضامين وتفرعت تفرعا” (تجديد المنهج: 421). أما إذا وقع ضحية “سحر” الخطاب وكثافته، فإنه لن يتأت له ذلك، لأن سلطة الخطاب تتحول إلى حاجز مانع بينه وبين الرسالة والمضمون الذي يحمله.
وسنخصص هذه المقالة لخطاب طه عن الفلسفة؛ إذ يدعي أن ما يكتبه يتأطر ضمن حقل الفلسفة والتفلسف، وتقوم “استراتيجيته” في هذا السياق على مجموعة من الخطوات نجملها في الآتي: 1-نقد واتهام المشتغلين بالفلسفة في الثقافة الإسلامية قدماء ومحدثين.
2-القول بخصوصية الفلسفة اليونانية، وبأنها مجرد امكان واحد من إمكانات فلسفية كثيرة. 3-اتهام الفلسفة الحديثة بالاقتباس المتنكر من الدين، وبالفشل في تحقيق ما وعدت به الإنسان بسبب انفصالها عن الدين. (فقه الفلسفة 1: 184).
ويتبع في هذه الاستراتيجية طريقة “النقض و الهدم”؛ يمهد به لطرح ما يعتبره بديلا؛ والبديل الطهائي الجاهز هو “التصوف الطرقي”؛ فهو يتهم المنتسبين إلى الفلسفة في العالم العربي الإسلامي اليوم بالتقليد، وبنقص التحصيل وبعدم التمكن من الفلسفة وآلياتها المنطقية، وبالعجز عن الإنتاج والابداع،
وينتهي إلى ادعاء أنه يعمل هو على ملء الفراغ بالتنظير للإبداع وتعليم هؤلاء تقنيات انتاج الفلسفة (فقه الفلسفة 1: 507)، ليصل بعد ذلك إلى تمرير إمكانية تعايش الفلسفة مع التقليد، في المرحلة الأولى، وبعدها يمرر فكرة اخضاع الفلسفة للتقليد تحت عنوان “فقه الفلسفة” في المرحلة الثانية.
(تجديد المنهج: 290-291). يقول في سياق الرد على الاعتراض على فعل إخضاع الفلسفة، واتخادها موضوعا لغيرها من المعارف: “فقد وضحنا كيف يكون النظر في الفلسفة أشرف من الفلسفة، وكيف تكون المعرفة الطبيعية، أوسع من المعرفة الفلسفية”، ولهذا يمكن أن تتحول إلى موضوع لعلم “ينزل رتبة فوقها ويتسع لما لا تتسع هي له”. (فقه 1: 18-19)
يقوم بذلك من موقع الأستاذية، أو لنقل “الشيخ” الذي أصبح يحمل في سياق كلامه عن الفلسفة والتفلسف، اسم “فقيه الفلسفة”، فيكون هو “شيخ الفلسفة”، والمشتغلون بالفلسفة هم مريدوه؛ “ففقيه” الفلسفة يدرك ما لا يدركه الفيلسوف من أسرار فلسفته، والأسباب التي يتوسلها في إنشائها، ويتهمه بسبب ذلك ب “العمى الفلسفي“. (فقه الفلسفة 1: 19-20)
وفرضت عليه ايديوجيا “التقليد” التي يخدمها في العمق تحت عنوان مقولة “مجال التداول”، مواقف ملتبسة، او لنقل غير صريحة من الفلسفة؛ ففي السياق الإسلامي يعترف تارة بأن الفلسفة منقولة إلى الثقافة العربية الإسلامية.
إذ لم تعرفها هذه الثقافة، أو بعبارة أستاذه الشاطبي “ليست من معهود العرب” (فقه الفلسفة 1: 83- 348)، وتارة يقول بوجود “فلسفة” تحملها العلوم الإسلامية، ويحمل الترجمة مسؤولية تعثر الفلسفة في الثقافة (فقه الفلسفة 1: 84)، وفي سياقه يعمل على “التنظير” للترجمة، وفي العمل تتضح غاية من غايات خطابه وهي “اخضاع” المنجز الفلسفي للآخر لما يسميه “مقتضيات مجال التداول”؛ أي للتقليد.
وسيلاحظ القارئ اضطراب موقف طه ذاك، وتحديدا بين القول بجود فلسفة في المعارف الدينة، وبين كون الفلسفة منقولة إلى الثقافة، وأن المنقول طغت عليه التبعية والتقليد، في المفاهيم والمضامين؛ ومن هنا الحاجة إلى إعادة النظر في الترجمة، التي ينبغي أن تكون “ترجمة تأصيلية”.
يخضع فيها المنقول الفلسفي لأيديولوجيا “مجال التداول”، فيصبح المنقول الخاضع، أو بعبارته “المأصول”، “جزءا” فاقدا لهويته الفلسفية الأصلية، فنصل في الحصيلة إلى نتيجة أن العلوم الإسلامية: “فلسفة” يمكن الاستغناء بها عن أي منقول فلسفي. وهنا لا نستغرب أن طه عبد الرحمن صرح بهذا في أكثر من كتاب.
منها قوله، في سياق الدفاع وتبرير رفض الفقهاء للفلسفة وتحريمها، مخاطبا المتلقي العربي المسلم: “كما أن هذا المتلقي يعرف أن من أهل مجاله التداولي، سواء من تقدموه أو عاصروه، من لم يكونوا يجدون حاجة إلى هذا المنقول ولا توقفوا في نظرهم ولا عملهم عليه؛ بل كان بين أيديهم من العلوم ما كان فيه غناء عن هذا المنقول الفلسفي، هذا، إذا لم يتعاطوا إلى إظهار فضل العلوم الإسلامية على ما سواها من المعارف، ويصيروا إلى القدح في علم من يلتفت إلى هذه المعارف المنقولة“. (فقه 1: 224)
كما أخذته الحساسية من النقد الذي تعرضت له ترجمته “للكوجيطو”، إلى الإفصاح عن موقفه، تحت ضغط الانفعال. يقول مخاطبا منتقديه: “أما نحن وأنتم فلسنا من هؤلاء المتخمين والمغرقين، ولا هذه الفلسفة المتخمة المغرقة تصلح لنا ولكم؛ فزمانهم ليس زماننا ولا دنياهم دنيانا(…) فنحن بضد فلسفتهم أولى منا بعين فلسفتهم، ألسنا إلى فلسفة الجياع أحوج منا إلى فلسفة الشباع“. (فقه الفلسفة 2: 25)
ويقول في سياق هذا الموقف أيضا: “لا يمتنع من حيث المبدأ أن تقرر أمة ما الخروج من عن العقلانية المجردة المألوفة، وتصطنع مناهج وأدوات تتسم هي الأخرى بالعقلانية، ولكنها لا تتوسل بالمقولات المجردة؛ إذ يكفي أن تكون هذه المناهج والأدوات قادرة على تحصيل المعرفة وتبليغها”. (العمل الديني: 49)،
ويقصد هنا مناهج العلوم الدينية ذلك: “أن التصنيع الفلسفي ليس موقوفا على الآلات اليونانية، وإنما يشمل غيرها (…) جاز أن يوجد هذا التصنيع في أمة العرب بغير الطرق التي وضعها الإغريق وفي غير الميادين التي خاضوا فيها (…) ولا يبعد أن نجد آثار هذه الصنعة حيث وجدت مظاهر النظر العقلي عندهم، ومعلوم أن هذه المظاهر لم تستقل بها المعارف المنقولة التي اشتهرت (…) تحت اسم واحد هو: “الفلسفة”؛ وإنما شاركتها فيها المعارف المأصولة التي اختص المسلمون بوضعها من علوم فقه وعلوم عقيدة وعلوم لغة”. (فقه الفلسفة :2 113-114)
ويقول مؤكدا: “والتفلسف، على الحقيقة، إنما هو القدرة على التوسل في الأمور بالأسباب الاستشكالية والاستدلالية، فإذن وجود هذه القدرة في علوم الفقه والحديث والتفسير يوجد فيها فلسفة كما أن وجودها في التصوف وعلم الكلام وأصول الفقه وعلوم النحو واللغة والبلاغة يوجد فيها هي الأخرى فلسفة“. (نفسه: 114)
أسس هذا كله، بعد أن مهد له بالقول أن الفلسفة إمكانات متعددة، وليس امكانا واحدا هو الإمكان الإغريقي قديما، والامكان الغربي حديثا؛ وهذا الإخراج هو الوجه الآخر لما قرره بشأن الحداثة بأنها ليس واحدة، وإنما حداثات؛ إذ لكل ثقافة حداثتها(روح الحداثة: 16 ).
يقول: “التحقيق أن باب التفلسف ليس واحدا لا يدخل فيه إلا من احتذى حذو اليونان حذو النعل بالنعل، وإنما التفلسف إمكانات متعددة ليس النموذج اليوناني إلا إمكانا واحدا منها، غير أن الإمكانات الأخرى أصاب بعضها ابتلاء الزمان، فاندرس اندراسا، وغلب على بعضها النموذج اليوناني، فقضى عليه في مهده قضاء، أما بعضها فقد وقعت نسبة نمطه في التفكير إلى غير التفلسف (…)“.(فقه الفلسفة 1: 23)
لم يشتغل طه على اثبات الدعوى وتحقيقها، كما يقتضي منطق الاقناع، ففضل الهروب من الدعوى الكبرى بقوله: “لا يعنيننا هنا تقصي مداخل النظر الفلسفي في العلوم الإسلامية العربية“. (فقه 2: 114) واكتفى بعرضها بصيغة الاحتمال، بعدما حكم بشكل حاسم بوجود الفلسفة في المعارف الدينية. يقول: “يجوز أن تتضمن الصنعة الفلسفية في المعارف المأصولة آليات وقوانين لتصنيع الفكر الفلسفي لم يتوصل إليها اليونان“. (نفسه: 115)
إن لعبة الإخضاع، التي يسميها “التأصيل” تصل بنا، بعد كثرة الإنشاء عن الفلسفة والتفلسف، إلى حيث نحن ههنا، وإلى حيث كنا في زمن مضى؛ إذ نكتشف أن ما بين أيدينا من معارف إسلامية: “فلسفة”، استغنى بها “أسلافنا” عن الفلسفة الإغريقية، ونحن كذلك، واقتداء بمن يمثلهم في زماننا وعصرنا؛ أي طه عبد الرحمن “بضد فلسفة عصرنا أولى”، كما نص عليه سابقا.
يعود بنا طه، من جديد، إلى حيث نحن، بعد مسار إنشائي آخر في سياق الكلام عن الفلسفة والتفلسف، عبر الترجمة التي حسم خياره بتقدم ما يسميه “الترجمة التأصيلية” على غيرها من الترجمات، التي تقوم على حق المترجم في إخضاع المتن المترجم لأيديولوجية “مجال التداول”، وتوظيف كل ما هو متاح له من آليات الإخضاع؛ من تغيير وحذف وتحوير، إلى الدرجة التي يمحى فيها أي أثر يدل على أصله ومصدره (تجديد المنهج: 291-298 ويصرح بفعل الخضوع في، ص: 313).
يحصر طه “الابداع” الفلسفي في فعل الإخضاع هذا، وبجعله هذا القسم من الترجمة في الرتبة الأولى التي يتعين على المترجم الاشتغال عليها، يخرق المبدأ التربوي والبيداغوجي، الذي يقتضي مراعاة وضع المترجم والمترجم له في السياق العربي الاسلامي.
والذي يعترف هو نفسه، أن هذا المترجم والمتلقي سوية، هم في طور تعلم الفلسفة (فقه الفلسفة 1: 376)؛ فكيف يتأتي له فعل التأصيل-” الإخضاع” وهو في هذا الطور؟ لا علينا لنرى الآن المنتوج الذي ولد من رحم “الترجمة التأصيلية” لطه.
وهو ترجمة “الكوجيطو” وهي “انظر تجد”، أليس هذا المنتوج عود بنا إلى حيث كنا وههنا؟ حيث كشف لنا طه أن “الكوجيطو” هو “نحن-التصوف”؛ فنكون من جديد، في غنى عن معرفة كوجيطو ديكارت فهو قاصر (روح الحداثة: 63)، حيث المطلوب منا ولنا، ليس إثبات الذات واقتدارها، وإنما هدرها وسحقها لأنها أنانية ومنازعة.
وتثرى كشوفات “العود” الطهائي، من مسار خطابي مواز للإنشاء حول الفلسفة، يتصل بنظرة طه إلى الإنسان وإلى الآلية التي بها ينتج الإنسان الفكر والفلسفة وهي” العقل“، وفي سياق هذه النظرة تفرض أسئلة نفسها منها هل الإنسان مسلوب الإرادة والحظوظ (الحقوق) (العمل الديني: 135) والفاعلية يقدر على الفعل، بله فعل الإبداع؟ إنسان طه لا إرادة له ولا فاعلية ولا حظوظ له (العمل الديني: 136-144)؛ وتبعا لذلك،
فعقله قاصر وغير مستقل بالإدراك (العمل الديني: 43+ الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري: 23-24) لذا لابد من تجاوزه إلى “طور إدراكي يفوقه”، ويمهد، بهذا الموقف، الطريق للقول بوجود “عقل” متعالي عن العقل لطبيعي الذي يشترك فيه جميع الناس، والذي يسميه ب “العقل المؤيد“، ويجعله في الرتبة الأولى في تقسيمه الثلاثي، الذي تظهر عليه علامات رد الفعل على التقسيم الثلاثي للمرحوم الجابري.
ما يهمنا في سياق هذه المقالة، هو أن طه يعود بنا من جديد إلى “نحن” حيث هي؛ أي إلى “نحن-عقل الصوفي”، الذي يجعلنا في غنى عن “العقل”؛ على حيث نحن مجرد “أتباع” ل “عقل”؛ هو قطعا ليس هو عقلنا الذي لنا بوصف كل واحد منا إنسانا كامل الإنسانية.
يقوم مشروع طه إذن على العودة بنا إلى حيث كنا؛ فأخطاء ما كنا عليه أقوم وأنفع من صوابنا (تجديد: 82)، ولا نقبل من العلم إلا ما كان موافقا “للنحن” الماضية؛ أي لأصول مجال التداول (نفسه: 85) واقتضى منه ذلك تحديد مهمته في العمل على إخراجنا من العقل إلى “طور إدراكي متفوق عليه” (فقه الفلسفة 1: 180)-185)، وإخراجنا من عصرنا الروحي الذي لا ينبغي لنا غيره (سؤال الأخلاق: 80-110-112)؛ كل هذا يتم تمريره أثناء إنشاء خطاب وكلام كثير حول الفلسفة وباسمها.
فرضت مهمة “إظهار ما عظم من التراث المتفرد” على طه (تجديد المنهج: 9)، والدفاع عنه (تجديد المنهج:12+العمل الديني: 18)، في المقابل مهمة أخرى تتعلق بالعقل وبالبرهان وبالمنطق وبالفلسفة، وهي مهمة العمل على نقضها والتشكيك في قدرتها.
وادعاء قصورها؛ إذ هي شرط لتمرير المهمة الأولى التي أخرجها تحت عنوان ادعى له الصفة الفلسفية وهو “الإئتمانية”؛ وهكذا سنكتشف مع الأستاذ طه أن العقل قاصر (العمل الديني: 43، الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري: 24)، وأن منحه الحرية في البحث والتفكير يؤدي إلى الفوضى والتسيب (فقه الفلسفة 1: 183).
وأن مقدمات البرهان غير يقينية، وبالتالي نتائجه كذلك غير يقينية (فقه الفلسفة 1: 189)، وأن أقوال الفلاسفة مجرد ظنون، وأدلتهم صروح واهية (فقه الفلسفة 1: 217)، وبعد عملية الهدم هذه؛ يسميها “استئصالا” (فقه الفلسفة 2: 12)، يبني على أنقاض المهدوم؛ فيصبح “العقل المؤيد” الذي هو: “عقل أعلى من العقل المعلوم قادر على إدراك الحقائق التي لا يدركها هذا العقل المألوف” (روح الحداثة:51)، بديلا عن العقل،
والجدل الكلامي بديلا عن البرهان؛ فالأول أغنى وأوسع، والثاني فقير وغير مقنع (أصول الحوار وتجديد علم الكلام: 40-60)، والمنطق الطبيعي بديلا عن المنطق الصناعي لأن: “أصول الفلسفة طبيعية وليست صناعية” (أصول الحوار وتجديد علم الكلام: 60)،
و”الإئتمانية” الصوفية الطرقية بديلا عن الفلسفة؛ فيتحقق لنا العود إلى الذات الغنية المكتفية والمستغنية ف: “الإئتمانية تستغني بثراء رصيدها الديني عن تلقيد المفاهيم العلمانية” (المفاهيم الأخلاقية 1: 184)، ففيها غناء عن العقل والبرهان والمنطق والفلسفة، التي لا يمكن أن تكون جميعها، في هذا السياق، إلا نتاج “مجال تداولي” آخر. يقول في كتاب: “روح الحداثة”: “نذكر القارئ بأن المدخل الثاني هو إعادة اكتشاف الذات“. هامش، ص: 148.
ونود في ختام هذه المقالة الإشارة إلى أمرين؛ أولهما يتصل بحصولي، من صديق عزيز، على ملف كامل يحتوي على مقالات نقدية، وتقارير وندوات حول كتاب: “ثغور المرابطة” للأستاذ طه، تتقاطع نتائجها وخلاصاتها مع نتائج عملي النقدي الذي أشتغل عليه؛
فقد كان الكتاب بالنسبة لكثير من أنصار الرجل سببا لفك الارتباط معه ومع فكره؛ إذ كشف الكتاب، في رأيهم، حقيقة مشروحه الخطابي الذي هو أقرب إلى الأيديولوجيا منه إلى أي شيء آخر علمي أو فكري أو فلسفي.
وتعززت أيضا بصدور عمل نقدي قائم بذاته، في الأيام الأخيرة بمدينة أكادير، يحمل عنوان: “الدين والسياسة من السائلية إلى المسؤولية: نقد الأطروحة الإئتمانية لطه عبد الرحمن” لمؤلفه عبد السلام أقلمون؛ وما يهم في العملين في سياق هذه المقالة، هو تأكيد وتعضيد أطروحتها المتعلقة “بتوظيف سلطة الإنشاء والخطاب” لخدمة ما يسميه مؤلف الكتاب المشار إليه ب “العتاقة” (ص:6).
ثانيهما ننوه فيه إلى أن قلم الأستاذ طه لم يتأت له الكثير مما رقنه، لولا شروط أربعة، هي بمثابة مبادئ لأشغاله وخطابه وهي: 1-تجاهل التاريخ وتغييبه؛ تاريخ التراث، وتاريخ الثقافات، وتاريخ الدين أو الأديان، ويكفي أن نمثل له بطريقة مقاربته لحدث تراثي كبير يتعلق بحدث “جمع القرآن”.
(المفاهيم الأخلاقية: 239) 2-تجاهل وتغييب الواقع العربي الإسلامي؛ فرغم ما يعرفه واقع المسلمين من تخلف وانحطاط وضعف (…) ينيط بهم مسؤولية “تخليق” العالم، بدعوى أن الزمن الاسلامي هو زمنهم الأخلاقي والروحي الذي ظهرت فيه الحداثة.
3-موقفه من العقل، كما سبقت الإشارة إليه، ويبقى ما اوردناه بخصوصه مجرد أمثلة، ونضيف هنا نصا يكشف سبب هذا الموقف ومن المنطق عامة. يقول في كتاب: “تجديد المنهج”: “وإذا نحن تبينا الآفات العقدية الثلاثاء التي يقع فيها المنطقي (…) ووضعنا في الاعتبار إمكان تعرضه لأكثر من آفة واحدة،
بل إمكان دخول أعظم آفة عقدية عليه، وهي آفة الجحود، أدركنا كيف أنه يخشى على الأصل التداولي العقدي من الممارسة المنطقية: أليست هذه الممارسة تفقده قوة الاشتغال التي تكون جانب التسديد العملي من العقيدة. ولا بدع حينئذ أن توجه إلى المنطق انتقادات تنسبه إلى القرمطة وأن يتعرض صاحبه إلى التهمة بالزندقة“. (ص: 324)
4-الإشتراط على العلم بضرورة الموافقة لأيديولوجية مجال التداول؛ وهو بهذا الموقف، يعيد نفس الشرط الذي وضعته السلفية القديمة في وجه “الرأي” و”العلم” والذي صاغه أبو اسحق الشاطبي بشكل صريح، وهو أن أي “علم لا يقبل إلا أذا كان جزءا من “معهود العرب”.
يقول: “فكل العلوم، نقلية كانت أم عقلية، يجب أن تكون خادمة للحقيقة الغيبية. وكل مشتغل بهذا العلم أو ذاك، لابد أن يصل إلى إدراك جانب منها، وأن يستزيد التقرب منها، وإلا كان علمه غير خادم للمقصود الأصلي منه، وكان لا يستحق أن يوصف بوصف العلم النافع، حتى إن الباحث المسلم يكون مطلوبا أن يخرج معارفه والنتائج العلمية التي يتوصل إليها على مقتضى دلالة هذه الحقيقة الإلهية“. (العمل الديني: 149، سؤال الأخلاق: 189).
جعلت هذه المبادئ طه عبد الرحمن في حل من القواعد التي يقتضيها الاشتغال العلمي، فأخذ يؤسس الدعاوى، ويصدر الأحكام، واعتبار ما يريد هو “مسلمات”.
إعداد : حسن العلوي.