فكر وفلسفة

سرمدية الزمان

 

ذهب معظم الفلاسفة من بعد أرسطو أن سرمدية الزمان ليست في سبب عدم إدراكنا له لغيابه في مجاهيل الكون الذي لا نهاية مدركة له, بل إعتبروا سرمدية الزمان هي في وجوده الحاضر الدائم الذي يحكم الطبيعة والانسان والحياة, وليست السرمدية هي ألازلية التي لا نعيشها ولا ندركها في حاضرنا الزماني الارضي, ولا نهائية الزمان لا تقاس إلا بإدراك الوجود الحاضر الذي يلازمه الزمان بلا توقف ولا إنقطاع, معتبرين حقيقة سرمدية الزمان هي الآنية الحاضرة التي بها يحيا العقل وكذلك تحيا بها النفس في حاضر قابل للقسمة بين ماض ومستقبل, وبذلك نسفوا مقولة كلا من افلاطون وارسطوالسابقة بأن زمن الحاضر وهم زمني غير موجود لعدم إدراكنا العقلي له بدلالة الاشياء والموجودات المدركة حركيا به.


ولا حتى بدلالة التحقيب الارضي للزمان في توسيط الحاضربأعتباره نقلة تجسيرية تربط الماضي بالمستقبل من خلال تشظيتها الانشطارية الموزّعة بين جذب الماضي وشد المستقبل…لذا ذهب ارسطو وافلاطون إعتبارهما الزمان الحاضر وهما إفتراضيا لا حقيقة فيزيائية له. وفي هذه المقولات مغالطة فإدراك الاشياء صحيح لا يكون إلا بدلالة الزمان, لكن إدراكنا الاشياء لا يعني إدراكنا الزمان المتلازم معها كينونة جوهرية منفصلة عنها… فالزمان يصبح وهما دلاليا بتحققنا من موجودات الاشياء إدراكا حركيا أنطولوجيا والتي لا ندرك زمانها الملازم لها بالإدراك المغاير لها بالمجانسة الماهوية والصفات.


رغم أن هذه الفرضية لا تطابق الواقع ولا صحيحة فأدراك زمانية الشيء لا تنفصل عن ملازمة الزمان له في إدراكنا للاشياء مكانيا في حالتي حركتها وسكونها وفي حال عدم إدراكنا لها…لكن رغم ذلك تبقى عدم المجانسة بين الاجسام والزمان الذي يحتويها قائما أبدا…فأدراك الشيء بدلالتي المكان والزمان لا يعني أنعدام عدم المجانسة الماهوية والاختلاف بين ماهية الشيء المدرك بإختلافه عن ماهية الزمان غير المدرك الذي يحتويه وبدلالته نعرفه. لا يتجانس الزمان إلا مع ذاته كزمان ماهيته الجوهرية هي وحدة كلية من التجانس ذاتيا وبإستقلالية ترفض التداخل النوعي غير التجانسي معه بالكيفية والصفات .. .


الزمان ليس علة وسبب وجود الأشياء وأنما هو دلالة إدراكية منفصلة عن الأشياء كجوهرين غير متجانسين بالصفات وبالماهية. لنرى ما يقوله بعض المفكرين بهذا المجال: (وجرى تقسيم الزمان الى جوهر حقيقي قائم بذاته هو جوهر يقيس الكون والفساد. يليه الزمان الطبيعي الموجود في الحركة وليس له جوهرا قائما بذاته كون الوجود الذي يدركه الزمان عبارة عن كائن وحادث طاريء بإستمرار والحاضر غير المنقسم ينتسب للسكون الثابت الذي يقيس الحركة الدائمة وهو العلة المولدة للزمان).1 (ويعتبرون السرمدية جوهرا قائما بذاته وليس جوهرا مقترنا بالزمان الذي هو الاخر جوهر سرمدي قائم بذاته)2. عبارات تحاول خلط الزمان كوحدة متجانسة بذاتها بميتافيزيقا الإدراك الشيئي.


  • الملاحظات التعقيبية النقدية التي يمكننا تثبيتها على هاتين العبارتين :

وجود الزمان كجوهر ملازم للاشياء ليس تعويضا عن عدم إدراكه بدلالته إدراكنا الاشياء في العالم الخارجي, بمعزل عن إدراك ماهية الزمان وكيف يعمل في تحقق إدراكنا العالم من حولنا؟.إدراك الاشياء والاجسام في ملازمة الزمان لها لا يترتب عليه إدراكنا الزمان منفصلا عنها الذي يحتوي حركة تلك الاجسام المادية كجوهر قائم بذاته منفصل عنها بالمجانسة بالماهية والصفات. الزمان ليس موضوعا يدركه العقل لوحده بغير دلالة حركة الاشياء والاجسام فيه.

الحاضر حسب إدعائهم ينتسب للحركة وليس للسكون, وكل ساكن مدرك يصبح حقيقة, وهو ما لا ينطبق على الحاضر أنه ثبات ودلالة تسير نحو إضمحلال وتلاشي مستقبلي حتمي. وبالتالي لا يكون مقياسا للحركة كونه ساكنا والسكون لا تتولد عنه حركة فالحركة تلزم بالحتمية السببية التعالقية الضرورية أن تسبقها حركة وتعقبها حركة أيضا بعدها.. الحركة تتوسط حركتين قبلية وبعدية.. .

والأهم هو قولهم الحاضر المنقسم الذي ينتسب للسكون الثابت الذي يقيس الحركة العلة المولدة للزمان, وهو ما يترتب علينا دحضه, فالحاضر غير مدرك لأنه جوهر متشظ غير ثابت ولا ساكن وإلا كان موضوعا مدركا وليس وهما لاحقيقة له كما يصفه ارسطو وافلاطون.

يمكننا وصف تشظية الحاضر الى ماض يحكمه سكون, وبالعكس منه الى مستقبل تحكمه الحركة والتغيير. بهذا المعنى يصبح الحاضر عند افلاطون وفلاسفة آخرين وهما زمانيا زائفا لعدم إدراكنا له لا بدلالة الماضي الذي يحتويه ولا بدلالة المستقبل الذي يعمل على تذويته فيه.

الحاضر أو الآنية كما ذكرنا هو تشظية يتوزعها ماض ساكن ومستقبل متحرك بسيرورة دائمية لا تعرف التوقف ولا الثبات لذا المستقبل لا يدرك إلا بدلالة الحاضر المنقسم المتشظي بين الماضي والمستقبل. المفارقة أن الحاضر يستطيع التعبير عن الماضي , ويستطيع بنفس الوقت التعبير عن المستقبل لكنه في كلتا الحالتين لا يستطيع الحاضر إثبات حدسه كوجود لا بمعيارية الماضي ولا بمعيارية المستقبل ويبقى محتفظا بخاصية التجسير بينهما فقط.

كما أن السكون لا يتولد عنه حركة وكيف يمكن قياس الحركة بدلالة السكون ؟ إلا إذا إعتبرنا كل ساكن هو رهينة زمانية يتحكم بها الانسان بمعزل عن ملازمة صفة الزمان الساكن لها بلا تداخل إنساني. ولا يتحكم بها لا الزمان ولا هي تحتكم لذاتها لافي الحركة ولا في السكون وهو تصور محال يدركه العقل. الزمان صحيح هو دلالة معرفة مقدار حركة الاجسام ألا أن الزمان بأعتباره أحد قوانين الطبيعة الثابتة يعمل باستقلالية تامة عن ادراكات العقل للاشياء بمعزل عن إدراكه منفردا كجوهر قائم بذاته, ولا يرتبط الزمان بعلاقة إنقيادية للانسان. ولا وصاية للانسان على عمل الزمان. الحقيقة التي لا يتقبلها الانسان بسهولة أن الزمان يقود الانسان بالادراك ويقود الانسان نحو الشيخوخة والمماة والإندثار.


  • الزمان بين وجوده الحقيقي والوهمي

ورد على لسان عبد الرحمن بدوي مقطعا مفاده ” ومن الناس قال كيف يقال عن الزمان الذي لا يتصور وجود شيء إلا فيه أنه لا وجود له؟ بل له وجود أسبق وأحق من كل ما يوجد فيه. وذاته باقية لا تتغير وذلك هو الدهر”3 , بدءا العبارة سليمة جدا ولا يشوبها نوع من الخطأ وهي عبارة تنسب لفلاسفة العرب.

وفي تعليقنا على هذه العبارات المستمدة عن فلاسفة عرب مسلمين, هم يعنون الزمان الارضي المحدود بقابليته على التحقيب الوقتي الى ماض وحاضر ومستقبل, ولا يقصدون الزمان الكوني الازلي غير المحدود. لذا سيكون التعليق لا يخرج عن المجال الذي أختاروه وهو الزمان الارضي الذي هو تحقيب يتوزعه الماضي والحاضر والمستقبل الذي يقوم على الثوابت التالية:

  • أولا الزمان لا يدرك إلا بدلالة حركة موجوداته في داخله, وهو ما يؤكد على أن الزمان في كل الاحوال وأينما وجد هو جوهر متجانس مع ذاته فقط غير مدرك ماهويا ولا هو موضوع يدركه العقل.
  • ثانيا أن الزمان هو مقدار كمّي في قياس حركة الاجسام داخل الزمان وليس مقدارا عدديا للاجسام بداخله. والزمان يدركه العقل بدلالة موجوداته وليس بدلالة ماهيته النوعية هو كموضوع لا يدركه العقل لا في الماهية ولا بالصفات.
  • ثالثا إدراك الزمان الارضي بمحتوياته الموجودية داخله, إنما يقوم على تحقيب تاريخي له ندركه على الارض كماض وحاضر ومستقبل. وهذا التحقيب الارضي لا يغيّر في ماهية الزمان ولا في حقيقته كجوهر يحمل دلالة غيره من أجسام يحتويها داخله, وليس كموضوع معرفة يدركها العقل منفردا. لذا يبقى الزمان محتفظا بخصائصه الذاتية غير المعروفة وغير المدركة عقليا, وهذه الذاتية الزمانية تكون في الوقت المزامن لكل الموجودات التي يحتويها بالإدراك, تبقى منفصلة بغير المجانسة مع خصائص وماهيات ألاشياء التي تتحرك داخله كفضاء زماني محدود تتم بدلالته معرفة مقدار حركة الاجسام.
  • رابعا حين يدرك العقل الاشياء بمزامنة الزمان في وجودها فهذا لا ينسحب على أن معرفة وإدراك موجوداته يقود بالضرورة الى إدراك زمانها كموضوع يدركه العقل منفصلا مستقلا كما هو إدراكه الاشياء في مقدار حركتها داخل الزمن.
  • خامسا ألقول الزمان لا يمتلك حقيقة وجودية إلا فقط بدلالة الاشياء التي يحتويها. وبتجريد الزمن الإدراكي عن تلك الموجودات لا يكون هناك بعدها عملية إدراكية للاشياء وليس للزمان هي صحيحة, الاشياء لا يدركها العقل مجردة عن زمانها , كذلك لا يدرك العقل الزمان بدلالة أخرى غير حركة الاجسام بداخله التي يحتويها. علما أنه من المحال أن يدرك العقل الاشياء من غير ملازمة زمانها لها, كذلك الأهم محال إنفصال الزمان عن موجودات داخله تتعين حركتها بدلالة الزمان وليس بدلالة ذاتية حركية الاجسام التي تمتلكها.
  • سادسا المكان بمجمله الكلي كمفهوم , والمكان كتجزيء منقسم على نفسه تبقى إستحالة إدراكه خارج احتواء الزمان له قائمة لا يمكن تجاوزها. الاشياء مكانا تدرك بملازمة زمانها, ولو نحن إستطعنا إخفاء شيء مادي بمعزل إفتراضي بتجريده عن زمانيته, تكون حصيلة هذه الفرضية المستحيلة توّقف العقل عن الإدراك لذلك الشيء نهائيا.المكان هو مدرك زماني أيضا والمكان لا يمكن إدراكه بتجريد الزمان عنه.

خاتمة

بعد مغادرة ارسطو مقولته في الآنية أو الحاضر على أنها وهمية وشرحنا تفسيرنا لها على أساس أن آنية الحاضر متشظية في إنشطارها الوجودي كزمان يتوزعها الماضي من جهة والمستقبل من جهة أخرى معاكسة, فالماضي يحتم على الآنية تذويتها به, والشد المستقبلي المعاكس يعتبر الحاضر بداية تصنيع مستقبل زماني في حالة من السيرورة منفصل عن الحاضر التوليدي له.

يعود ارسطو القول ( الزمان هو المعدود, بمعنى هو العدد المشار له في كل لحظة حاضرة يمر بها, وأن الوجود الحقيقي يقاس بآنات الحاضر فقط )4, وبدورنا نخلص الى أن الاشكالية تتلخص بالاساسيات التالية :

الزمان الارضي المحكوم بالتحقيب التاريخي الموزع بين ماض وحاضر ومستقبل, هو غيره الزمان المطلق الكوني الازلي ليس على صعيد إختلاف الماهية فالزمن هو الزمن أينما يكون وأينما يوجد بدلالة معرفة غيره به, لكن تحقيب زمان الارض لايتقبله مطلق الزمان الكوني الازلي ولا يسري عليه, وقولنا هذا أن تحقيب الزمان الارضي أصبح يمتلك زمانا مغايرا للزمان المطلق الكوني بالماهية والصفات ليس صحيحا كوننا ندرك زمن الموجودات الارضية ولا ندرك الزمان جوهرا منفصلا عنها.

فالزمان واحد ولا يقاس بدلالة زمان آخر ولا بدلالة جزء منه وهو مستحيل في إمكانية قسمة الزمان ولا قابلية تجزئته.في مغايرة الوحدة الزمانية الكلية لزمان المطلق أنه لا يتقبّل التحقيب الكوني كما في زمان الارض. تحقيب الزمان الارضي كما قلنا هو بدلالة حركة الارض والمجموعة الشمسية, فكيف لنا وبأي معيار نستطيع تحقيب مطلق الزمان الكوني, هل بدلالة حركة ملايين الكواكب والمجرّات مثلا؟؟ مسألة يرفضها العقل والمنطق.الزمان الكوني يقاس بمقدار حركة جسم مثل مركبة فضائية أو مسبار فضائي أو صاروخ وغير ذلك ويتوقف معرفة زمان ذلك الشيء المتحرك بقدرة ذاتية هو الوقود المزود به ذلك الجسم, وكتلة ذلك الجسم وسرعته والمسافة التي يقطعها وعامل الاحتكاك بالمجال الجوي وغيرها.

الزمان في حالتي الوحدة الكلية المطلقة كونيا غير القابل للإنقسام على نفسه ولا ألإنقسام بدلالة غيره. هو زمان واحد يجمع كل الازمنة بوحدة كلية من الماهية الزمانية, وهذه الوحدة الكلية تقوم على إدراك العقل للزمان بقياس مقدار السكون والحركة بالاشياء والموجودات داخله.

كون الزمان ثابت في ملازمته حركة الاجسام. حركة المدرك مكانا لا يجعل من الزمان الراصد له تابعا حركيا له. الزمان يدرك المتحرك مكانا والساكن مكانا في ثباته الزماني, فحركة الجسم لا تسحب معها حركة الزمان بالضرورة التبعية وإلا لما كنا نحتاج قياس الزمان بمقدار حركة الجسم داخله…لتوضيح الإلتباس الزمان ثابت في قياس مقدار حركة الاجسام التي هي متحركة بدلالة إحتواء الزمان مقدار حركتها داخله.

الزمان لا يتغير بالماهية الذاتية له في جميع الأوقات ومختلف الظروف, وكلية الزمان كجوهر ثابت لا يتقبّل القياس بحركة زمنية تجانسه ماهويا بل بحركة أجسام مختلفة عنه بالصفات, من حيث حقيقة الزمان تعرف بدلالة حركة الجسم وتقاس به. والزمان ليس حركة بذاته بل هو دلالة مقدار حركة غيره من ألاجسام داخله.

الشيئ الاخير أن الزمان مفهوم ميتافيزيقي وليس موضوعا مدركا من العقل. بمعنى أن العقل يدرك الاشياء فقط ولا يدرك مزامنة الزمان لها, فهو يدرك محتوى الزمان من أجسام ولا يدرك الزمان كموجود أو ماهية منفصلة لوحدها. وهنا يمكننا تشبيه الزمان كمفهوم ميتافيزيقي بمفهوم الوجود الميتافيزيقي, فالوجود يدرك بمحتوياته ولا يدرك بماهيته كموضوع مجرد.

كذلك نحن ندرك الزمان بمحتوياته من الاجسام وليس إدراكه هو كماهية ذاتية يمكن أن تكون موضوعا لإدراك العقل. فالزمان ماهية بخصائص إنفرادية لا تلتقي مع ماهيات غيره من أجسام يحتويها كأجسام متحركة داخله. وما يجمع الزمان بمحتوياته من الاجسام هو الإدراك العقلي بقياس مقدار الزمان الكمي بدلالة حركة الاجسام بداخله.ولا يدرك الزمان مجردا عن محتوياته.


الهوامش

الهوامش 1, 2, 3, 4عبد الرحمن بدوي /الزمان الوجودي/ الصفحة 68

 

علي محمد اليوسف

علي محمد اليوسف؛ من مواليد 1944م بمدينة الموصل العراقية. مارست الكتابة الصحفية والثقافية منذ سبعينات القرن الماضي. طبعت منذ عام 2004 أكثر من 18 مؤلفاً في الفلسفة والفكر. متفرغ حاليا للكتابة بمجال الفلسفة فقط؛ وأنشر على خمسة مواقع إلكترونية عربية غالبيتُها تصدر في المهجر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى

You cannot copy content of this page