التداولياتلسانيات

التداولية الاستدلالية

إن الاستراتيجية المؤسسة لهذا المحور؛ هي توضيح و تبسيط مجمل الإشكالات و التصورات التي أطرت النموذج الاستدلالي، لذلك فإن الإطار العام الذي سنتخذه منطلقا هو سبيربر و ويلسن (1986).


تنطلق التداولية الاستدلالية في إطار دراستها للتواصل الإنساني من محاولة الإجابة عن إشكال أساسي يتلخص في كيف يتم التواصل؟

إن التواصل إجراء يقوم على إنتاج و تأويل التلفظات اللغوية، و هو يتضمن آليتين إجرائيتين – للمعلومة information-processing devices يوجزهما سبيربر و ويلسن(1989) كالآتي:
– الآلية الأولى تعدل المحيط الفيزيائي للسامع، فالتواصل الشفوي مثلا هو تعديل يحدثه المتكلم في المحيط السمعي للسامع.

– الآلية الثانية تبني تمثيلات مشابهة للتمثيلات المخزنة في الآلية الأولى على اعتبار أن الآلية الأولى يترتب عنها إضافة السامع لأفكار مشابهة لأفكار المتكلم و فرضياته و معلوماته.

إذا انطلقنا من هذا التحديد للتواصل، فيحق لنا أن نتساءل مع سبيربر ويلسن: كيف يمكن لمثير فيزيائي أن يحدث توازيا في الأفكار، هذا التوازي الذي يعد شرطا لإنجاز العملية التواصلية علما بأنه ليس هناك تشابه بين المثير و الأفكار الموازية له؟

إن هذا الإشكال الجوهري قد قاد مجمل النظريات التواصلية إلى صياغة نماذج نظرية توخت تقديم إجابات وافية. غير أنه رغم تعدد المقاربات يمكن أن ننمطها وفق نموذجين:

– نموذج الشفرة: و هو نموذج يجمع كل النظريات التواصلية التي تقوم على اعتبار أن التواصل يتأسس على المزاوجة بين تشفير الرسائل اللغوية وتفكيكها.

– النموذج الاستدلالي: وهو نموذج اقترحه عدة فلاسفة من أمثال غرايس ودافيد لوفيس david lewis و يقوم على اعتبار أن التواصل يتم بواسطة تفعيل الإجراءات الاستدلالية.

تتبنى المنظورات التقليصية أحد النموذجين. في مقابل هذا التوجه نجد سبيربر و ويلسن (1989 :3) اتجها إلى تبني منظور توفيقي من منطلق أن النموذجين متكاملان. ينبني هذا التكامل على اعتبار أن التفاعل الكلامي يتضمن نمطين من الإجراءات إجراءات التشفير والإجراءات الاستدلالية.

إن التواصل يمكن تحقيقه بواسطة تشفير الرسائل و تفكيكها كما يمكن تحقيقه أيضا بواسطة توضيح الاستدلال المقصود.

غير أنهما مع ذلك يؤكدان على أن الإطار الصحيح العام لدراسة التواصل ينبغي أن يحدده النموذج الاستدلالي، و بالتالي ينبغي تأسيس نظرية استدلالية للتواصل.

لكن في نفس الآن يؤكدان على أنه لا ينبغي النظر إلى النموذج الاستدلالي باعتباره نظرية عامة للتواصل و الأمر نفسه يصدق على نموذج الشفرة، فكل واحد منهما يلائم صيغة مختلفة من التواصل و كل منهما خاضع لقيود عامة تطبق على كل أشكال إجراء المعلومة information processing .

وبالتالي من الخطأ جعل أحدهما نظرية عامة للتواصل. من هنا نستنتج أن نظرية التواصل تتضمن نموذجين نموذج الشفرة و النموذج الاستدلالي و لا يمكن أن يغني أحدهما عن الآخر.


1- نموذج الشفرة:

ننطلق في مقاربتنا لهذا النموذج من التعريف الذي ساقه سبيربر و ويلسن (1989 :4) للشفرة بكونها نسقا يزاوج بين الرسالة و العلامة. تعد الرسالة تمثيلا داخليا لآلية التواصل communicating device في حين تعد العلامة تعديلا للمحيط الخارجي.
انطلاقا من هذا التحديد يصوغان نموذج التواصل الكلامي كالتالي:

حيث يتضح أن التواصل الكلامي ينطلق من إجراءات الفكرة المركزية، و ينتهي إليها، و ذلك عبر المرور بمسار محدد مبدِؤه المشفر اللساني الذي يعد خرجا في الحالة الأولى أي الحالة الخاصة بالمتكلم و المحلل اللساني الذي يعد دخلا في الحالة الثانية أي في الحالة الخاصة بالسامع. يشير سبيربر و ويلسن (1989 : 4) إلى أن المشفر اللساني و المحلل اللساني كليهما يحيلان على المهارات اللغوية الموظفة في عملية تشفير و تفكيك الرسالة اللغوية.
يؤسس هذا النموذج للتواصل الكلامي لفرضيتين أساسيتين نصوغهما كالتالي:
– اللغة شفرة
– هذه الشفرة تجمع الأفكار بالأصوات. و بالتالي تتخذ من الهواء الذي يحمل العلامات السمعية قناة لتمرير هذه الأفكار.
انطلاقا من هذا الفهم لنموذج الشفرة يعتبر سبيربر و ويلسن (1989) أنه ترجمة للبيان الذي قدمه شانون و وويفر shannon & weaver ( 1949) كالتالي:

الرسالة العلامة العلامة المتلقاة االرسالة المتلقاة

و الجدير بالذكر أننا ينبغي أن نفهم هنا إجراء التشفير و إجراء التفكيك الذي ينبني عليهما نموذج التواصل في شموليتهما، إذ يتعدى هذان الإجراءان النسق اللغوي ليشملا أنسقة تواصلية أخرى من نحو التواصل عند النحل الذي يقوم بدوره على هذين النمطين من الإجراءات: إجراء التشفير المتمثل في الخطة المتبعة في الرقصة و إجراء التفكيك الذي يتمثل في توصل النحل إلى معرفة مكان الرحيق من خلال هذه الرقصة و كلا الإجراءين محكومين بالسيرورة التي نصوغها على النحو التالي:
معرفة مكان الرحيق إجراء (المتمثل في الرقصة) معرفة مكان الرحيق

نموذج الشفرة إذن يقوم على تشفير الأفكار في أصوات و هو يزاوج بين التمثيلات الصوتية و التمثيلات الدلالية. يشير سبيربر و ويلسن إلى أن هذا النموذج مترسخ في الثقافة الغربية إلى درجة اعتباره معطى قائما، و يعتبران أن هذا النموذج له ايجابيات كثيرة من ضمنها قدرته التفسيرية( )،

لكنه إلى جانب ذلك له سلبيات من ضمنها أنه لا يحقق الكفاية الوصفية و يشيران إلى وجود ثغرة بين التمثيلات الدلالية للجمل و الأفكار التي يتم تبليغها فعليا بواسطة التلفظات. في هذا الإطار يقدم ويلسن و سبيربر حلا لسد هذه الثغرة . إن هذا الحل لا يكمن في اللجوء إلى المزيد من التشفير و إنما يكمن في اللجوء إلى الاستدلال inference.

وهو حل أملته نظرتهما المغايرة لعملية الفهم التي يقوم بها السامع.إن عملية الفهم – حسب تصورهما- لا تقتصر على مجرد تفكيك العلامة اللغوية بل هي متضمنة لأكثر من هذا الإجراء. و هذه النظرة المغايرة لعملية الفهم هي التي أدت إلى تجاوز نموذج الشفرة code model of communication لطرح نموذج بديل و هو ما عرف بالنموذج الاستدلالي، الذي ينطلق من فكرة أساسية مفادها أن التواصل إجراء يؤدي إلى التعرف الاستدلالي على المقاصد التواصلية.

2- النموذج الاستدلالي:

إذا كان النحو التوليدي يقوم على المزاوجة بين التمثيلات الصوتية و التمثيلات الدلالية للجمل، فإن النموذج الاستدلالي يتخذ منحى آخر إذ لا ينظر إلى التمثيلات الدلالية للجمل باعتبارها توازي بشكل دقيق الأفكار. يقول سبيربر و ويلسن(1989 : 9):

” إن رسم صورة عامة للتفاعل الكلامي يجعل تجاهل الاختلافات بين التمثيلات الصوتية للجمل و التحقيقات الصوتية للتلفظات مشروعا، و لكنه لا يجعل تجاهل الاختلافات بين التمثيلات الدلالية و الأفكار التي نستعمل التلفظات للتعبير عنها مشروعا.”

إذا عدنا إلى التمثيل الدلالي كما يتم إسناده في النحو التوليدي نجده لا يأخذ بعين الاعتبار الخصائص غير- اللغوية من نحو زمن و مكان التلفظ و هوية المتكلمين و مقاصدهم، أما النموذج الاستدلالي فإنه يقيم تمييزا بين التمثيل الدلالي للتلفظات و تأويل التلفظات على اعتبار أن الأول ينتمي إلى النحو، أما الثاني فينتمي إلى التداوليات. لتوضيح ذلك يسوق سبيربر و ويلسن (1989 : 10):
1- أنا سآتي غدا.
2- عمر طويل.

لا يقدم النحو التوليدي أي تحديد للضمير المتكلم “أنا”، كما لا يقدم أي تحديد لعمر. زد على ذلك أنه لا يقدم أي معلومة عن الكيفية التي تمكن السامع من القيام بهذا التحديد من خلال توظيفه للمعلومة غير اللغوية. إن هذه المظاهر من التأويل تتضمن تفاعلا بين البنية اللغوية و المعلومة غير اللغوية و هي مظاهر لا يتناولها النحو التوليدي الذي يساعد فقط على تحديد إمكانات التأويل،

أما كيف سينتقي المتكلم من بين هذه الإمكانات الإمكان الملائم لتأويل التلفظ فهذا إشكال لا نجد له إجابة في النحو التوليدي، و إنما نجد له إجابة في التداوليات التي تضع من ضمن معايير الكفاية تقديم إجابة وافية عن هذا الإشكال.

بالإضافة إلى هذين المثالين اللذين نلحظ من خلالهما قصور النحو التوليدي على تقديم التأويل الصحيح، يسوق سبيربر و ويلسن ( 1989) معطيات أخرى تبين اتساع الهوة بين معنى الجملة و تأويل التلفظ، فإذا انطلقنا من الجملة التالية:

3- ستغادر.
فسيتضح لنا أن تأويل هذه الجملة التأويل الصحيح يستلزم بالضرورة تجاوز الفكرة المعبر عنها، للكشف عن علاقة المتكلم بمضمون الجملة و موقفه القضوي. إن هذا التجاوز هو الكفيل بتمكيننا من أن نحدد التأويل الصحيح للجملة، إذ من خلاله نتمكن من معرفة هل المتكلم يخبر السامع بقرار المغادرة أم أنه يستفهم أم يؤكد أم يعبر عن غضبه. إذن تأويل الجملة لا يمكن أن يتم بالاقتصار على الفكرة المعبر عنها و التي تحتمل أكثر من قراءة واحدة، و الأمر نفسه يصدق على الجملة التعجبية من نحو:
4 – ما أشد إخلاص الصديق أحمد.

لا تمكننا هذه الجملة من تحديد هل المتكلم ينقل خبرا أم أنه يسخر من محتوى الجملة، هل يقصد المعنى الحرفي أم المعنى المجازي. و ما يلاحظ على الجملة التعجبية يمكن أن نلاحظه على الجملة الاستفهامية من نحو الجملة التي أوردها ويلسن و سبيربر 1989
5 – هل تعرف كم الساعة؟

و هي جملة قد تفيد الاستفهام و قد تفيد اقتراحا بالذهاب و قد تفيد الاستنكار و قد تفيد غير ذلك.
إن النماذج التمثيلية السابقة تبين الطرق المختلفة للتمثيل الدلالي، و تؤكد في الآن نفسه على أنه للوصول إلى التأويل الصحيح لابد من استحضار السياق. من هنا نخلص إلى القول مع سبيربر و ويلسن إن التلفظات لا تستعمل فقط للنقل الأفكار، بل أيضا للكشف عن موقف المتكلم من المحتوى القضوي أو علاقته بالفكرة المعبر عنها.

لكن هذه الخلاصة لا تشكل دحضا لنموذج الشفرة في التواصل الكلامي، فهذا النموذج يضيف مستوى تداوليا خارجيا و يعتبره أداة ذهنية تتضمن مستوى متمايزا من المهارة اللغوية. من هنا ساد القول بوجود قواعد التأويل التداولي تقف إلى جانب قواعد التأويل الدلالي و تم اعتبار أن هذه القواعد تشكل نسقا يضاف إلى النحو بالمفهوم التقليدي. يشير سبيربر و ويلسن (1989 : 12) بهذا الخصوص إلى أن هناك ظواهر تداولية تخضع لهذا النوع من المقاربات و يمثلان لذلك بالآلية قد تتضمن قواعد التأويل من نحو ما نجده في القاعدتين (8 ) و( 9):

8- عوض أنا بالإحالة إلى المتكلم.
9- عوض غدا باليوم الذي بعده.
فالسامع المجهز بمثل هاتين القاعدتين سيعرف أن المتكلم في الجملة 1 هو أحمد و أن زمن التلفظ هو 30 نونبر لذلك سيؤول فورا التلفظ.
10- أ أنا سآتي غدا.
ب – سيأتي أحمد في 1 دجنبر.
إذن هذه الآلية يمكن تفعيلها لتأويل العديد من التلفظات، لكن المشكل الذي يطرح أن أغلب مظاهر تأويل التلفظ لا يمكن تناولها بهذه السهولة. للتدليل على ذلك يسوق سبيربر و ويلسن (1989 : 12) الجملتين التاليتين:
11- رباط عنقه متسخ.
12 – هذا مهم.
إن إسناد الإحالات في هاتين الجملتين أكثر تعقيدا، و هو تعقيد يتوجب معه اللجوء إلى قواعد تدمج آليا خصائص السياق مع الخصائص الدلالية للتلفظات. إن القواعد التي تدمج خصائص السياق هي نفسها القواعد التي ينبغي اعتمادها لرفع اللبس و ضبط المواقف القضوية و التأويلات المجازية و المعنى الضمني و هي قواعد يسجل سبيربر و ويلسن (1989) غيابها في نموذج الشفرة.
يقول سبيربر و ويلسن ( 1989 : 13) :
” ما يحدد نموذج الشفرة أنه ينطلق في عملية التأويل من العلامة و ينتهي بالكشف عن
الرسالة المرتبطة بالعلامة بواسطة شفرة تحتية، في حين أن التداوليين يعتبرون أن
الفهم إجراء استدلالي ينطلق من مجموعة من المسلمات premises و ينتهي إلى
مجموعة من النتائج التي تستنتج منها منطقيا أو على الأقل تعلل انطلاقا منها. و هذه
خاصية غائبة في نموذج الشفرة، حيث لا ارتباط بين الخلاصات و لا تعليل تقدمه
العلامات للرسائل التي تنقلها.”
لتبسيط الاختلاف القائم بين إجراءات التشفير و إجراءات الاستدلال، نعود مرة أخرى إلى النماذج التمثيلية التي يسوقها سبيربر و ويلسن. لاحظ 13-14
13- أ – إما أن تكون فاطمة مبكرة و إما أن يكون عمر متأخرا.
ب – عمر لا يأتي أبدا متأخرا.
15 – فاطمة مبكرة.
إن ج(15) يمكن أن يستدل عليها من الجملتين في (13أ- ب) اللتين تعتبران مقدمتين، لكن إذا اعتمدنا إجراء التفكيك فإنه لن يمكننا من الوصول إلى (ج 15) انطلاقا من(13أ – ب) لأنه ليس هناك شفرة تحقق (13) باعتبارها علامة و (15) باعتبارها الرسالة المرتبطة بها.
انطلاقا من هذا التحليل يعتبر سبيربر و ويلسن (1989) أن تأويل التلفظ إجراء استدلالي و هو اعتبار تؤكده التجربة العادية لنتأمل الجملة التالية:
16 – اشترى جان التايمز.
تعد الجملة ملبسة (16 )، إذ تحتمل تأويلين (17) أو (18):
17- اشترى جان نسخة من التايمز.
18 – اشترى جان المطبعة التي تنشر التايمز.

إن السامع العادي في ظروف عادية، سيقوم تلقائيا باختيار أحد المعنيين بدون أن ينتبه إلى أنه قام بانتقاء أحدهما. لكن حينما يتم تنبيهه إلى أن الجملة ملبسة و حينما يسأل عن كيف عرف أن التأويل الذي اعتمده هو التأويل الصحيح فسيسعى إلى تقديم حجج منطقية مبتورة من قبيل إن المتكلم يقصد هذا التأويل عوض التأويل الآخر لأنه هو التأويل الوحيد الذي يعد صحيحا أو لأنه هو التأويل الوحيد الذي يقدم المعلومة المطلوبة أو لأنه التأويل الوحيد الذي له معنى.

إن الفرضية الثاوية خلف هذه الحجج تتلخص في أن المتكلم يضع بعض المعايير الخاصة بالصدق truthfulnss و المعلومية Informativeness و الفهم Comprehensivity و هكذا و يحاول الاقتصار على تبليغ المعلومة التي تستجيب لهذه المعايير. إن هذه المعايير هي التي تسهل عملية التواصل و الفهم لذلك يحرص المتكلم على مراعاتها

حاول التداوليون الذين يتبنون تصور غرايس تقديم وصف لهذه المعايير و توضيح الكيفية التي توظف بها في الفهم.و قد اتفقوا على اعتبارها معايير استدلالية و هي بالتالي تختلف تمام الاختلاف عن إجراءات التفكيك decoding. يشير سبيربر و ويلسن أنه في إطار نموذج الشفرة يمكن أن نعتبر إجراء الاستدلال جزءا من إجراء التفكيك.

لكن الإشكال الذي يطرح بهذا الخصوص هو في إطار التواصل الكلامي العادي، هل التوازي الذي يقيمه المتكلم بين المسلمات و قواعد الاستدلال هو نفسه الذي نجده عند السامع؟ إذا كان الجواب بالنفي فإننا في هذه الحالة لا يمكننا أن نعتبر أن الإجراءات الاستدلالية المتضمنة في عملية الفهم إجراءات تفكيكية.
لكي ندافع عن نموذج الشفرة لابد من أن نبين كيف أن المتكلم و السامع يمتلكان نفس المجموعة من المسلمات التي يطبقان عليها نفس القواعد الاستدلالية بطرق متوازية.

إذا انطلقنا من اعتبار أن المتكلمين عموما يكتسبون المهارات اللغوية نفسها رغم الاختلاف في المعطيات اللغوية فيمكن القول إنهم يكتسبون المهارات الاستدلالية بنفس الطريقة التي يكتسبون بها المهارات اللغوية فأي تطبيق لقاعدة استدلالية سيكون منطلقا لتبنيها من هنا مهما اختلفت التجارب التي تطبق فيها الإجراءات الاستدلالية فإنها ستتلاقى كلها في نفس النسق المنطقي. لكن المشكل هو أن الأنسقة المنطقية تسمح باشتقاق نتائج مختلفة من نفس المسلمات إذن كيف يمكن للسامع أن يوظف الاستدلال للوصول إلى ضبط قصد المتكلم؟
يسوقنا هذا الإشكال إلى الحديث عن السياق.

السياق: السياق بناء سيكولوجي و هو يتأسس انطلاقا من مجموع المسلمات المستعملة في تأويل التلفظ.: إنه جزء من فرضية السامع بخصوص العالم. إن هذه الفرضيات التي يبنيها السامع بخصوص العالم هي التي تؤثر في تأويل التلفظ و هي تهم المعلومة الخاصة بالمحيط الفيزيائي المباشر و المعلومات الخاصة بالتلفظات السابقة المباشرة و الترقبات و الفرضيات العلمية و الاعتقادات الدينية و الذكريات و الفرضيات الثقافية العامة و أيضا ما يعتقده بخصوص الوضع الذهني للمتكلم كل هذه الفرضيات يمكن أن تقوم بدور في التأويل. و هي في مجموعها تؤسس ما يعرف عامة بالسياق.

إذا كنا نعتبر أن أفراد العشيرة اللغوية يتقاسمون اللغة نفسها، فمن المعقول أن نعتبر أيضا أنهم يتقاسمون المهارات الاستدلالية نفسها بالرغم من كونهم لا يتقاسمون نفس الفرضيات حول العالم. لسبب عام يرتبط بالجنس البشري فكل الأفراد مقيدون بالمهارات المعرفية الخاصة – بالجنس البشري species- specific cognitive abilities هذه المهارات تمكنهم من بلورة تمثيلاتهم حول العالم، و لسبب خاص يرتبط بالمجموعة الثقافية إذ كل أفراد المجموعة الثقافية يشتركون في نفس التجارب و التعلمات و المنظورات، رغم وجود بعض التمايزات. لكن ما ينبغي تسجيله هو أن الاختلافات في الحياة تؤدي بالضرورة إلى اختلافات في المعلومة المخزنة، فحادثة واحدة يمكن أن تبنى بتمثيلات مختلفة.

يسجل سبيربر و ويلسن أن المهارات الاستدلالية مثلها في ذلك مثل النحو لا تتغير من لفظ إلى آخر أو من استدلال إلى آخر.إنها ثابتة.إن كل تلفظ جديد يصاغ بتوظيف نفس النحو و بتوظيف أيضا نفس المهارات الاستدلالية في مقابل ذلك هذا الثبات نجد أن السياق المستعمل في تأويل التلفظ متغير. مرد ذلك إلى أن السياق يحتوي عموما على المعلومة المشتقة مباشرة من التلفظات السابقة. و بالتالي يشترط كل تلفظ جديد سياقا مختلفا نوعا ما. إن الإشكال المركزي بالنسبة للنظرية التداولية هي وصف كيف يمكن للسامع أن يقدم لكل تلفظ سياقا يمكنه من فهمه بشكل ملائم.

إن المتكلم الذي يتوخى أن يتم تأويل ما يتلفظ به بطريقة محددة يجب أن يتوقع أن يكون السامع قادرا على التزود بالسياق الذي يتيح له ذلك التأويل. إن أي تنافر بين السياق الذي يتوقعه المتكلم و السياق الذي يستعمله السامع يمكن أن ينتج عنه سوء فهم. إذا كان أغلب التداوليين يفسرون سوء الفهم بأنه ناتج عن كون آليات التواصل الكلامي لم تطبق بالشكل المطلوب فإن سبيربر و و ويلسن (1989: 17) يعتبران أن هذه الآليات لا تشكل ضمانة للتواصل الناجح،

و إذا كان نموذج الشفرة يلح على وجود معرفة مشتركة هي التي تؤسس للتواصل الناجح فإن سبيربر و ويلسن (1989: 20) ينصان على أن المعرفة المتبادلة ينبغي إما أن تكون يقينية أو لا وجود لها، و بما أنها ليست يقينية فلا وجود لها. من هنا ينتهيان إلى اعتبار أن المعلومة المشتركة فرضية غير قائمة معتبرين أنه حتى في حالة وجودها و حتى في حالة تحديدها مجموعة من السياقات المحتملة الاستعمال في تأويل التلفظ، فإنها لا تتبين كيف سينتقى السياق الملموس و لا تبين دور السياق في عملية الفهم.

نستخلص إذن أنه إذا كان نموذج الشفرة يتبنى فرضية المعلومة المشتركة، فإن سبيربر و ويلسن يعتبران أن هذه فرضية غير قائمة و يقترحان بديلا مغايرا يستقيانه من المقاربة التي قدمها كرايس.
مقاربة كرايس للمعنى و التواصل
ينطلق سبيربر و ويلسن (1989: 21 ) من التعريف الذي صاغه كرايس(1957) للمعنى
” يعني م شيئا ب س معادل ل م يقصد من التلفظ س إحداث تأثير في السامع بواسطة
التعرف على قصده.”

إن هذا التعريف يربط بين التلفظ اللغوي و السلوك اللغوي و قد شكل النقطة التي انطلق منها سبيربر و و ويلسن لصياغة النموذج الاستدلالي في التفاعل الكلامي، و ذلك بالتمييز بين نمطين من التلفظ:

– التلفظ الذي يحقق القصد بشكل مباشر، و يمثل سبيربر و ويلسن لذلك بقصد ماري بأن تخبر بيتر بأن لديها التهاب في الحنجرة. في هذه الحالة ما عليها سوى إسماعه صوتها. إن عملية التلفظ هنا تحقق القصد بشكل مباشر بدون أن يستنتج بيتر أن ماري قد قصدت إخباره بذلك .

– التلفظ الذي يحقق القصد بشكل غير مباشر و يمثل سبيربر و ويلسن لذلك بقصد ماري أن تخبر بيتر بأن حنجرتها كانت ملتهبة الشهر الماضي، حيث تتوسل ج :
– أصبت بالتهاب في الحنجرة في الشهر الماضي.

في كلا النمطين من التلفظ تم نقل معلومة محددة. غير أن النمط الثاني هو الذي يعد صورة من التواصل مادام يقدم الأثر المباشر لمقاصد المتواصل. إن هذا النمط هو ما يسميه سبيربر و ويلسن بالتواصل الاستدلالي. إنه استدلالي لأن السامع يستدل على قصد المتكلم انطلاقا من الأثر الذي قدم لهذا الغرض.

في هذا الإطار ينجح التواصل ليس فقط حين يتعرف السامع على المعنى اللغوي للتلفظ، و إنما أيضا حينما يستدل على معنى المتكلم انطلاقا من المعنى اللغوي. إن للاستدلال أهمية خاصة فهو الذي يمكن السامع مثلا من معرفة أن المتكلم أساء استعمال كلمة أو وقع في زلة لسان، و من ثمة يمكنه من استبعاد المعنى الخاطئ. المعنى المستبعد ليس بالضرورة سيئ- التكوين أو غير قابل للتفكيك. إنه خاطئ فقط لأنه يقدم أثرا مضللا لمقاصد المتكلم.

خلاصة الأمر، إذا كان نموذج الشفرة يعتبر أن التواصل يتم انطلاقا من تشفير الرسائل و تفكيكها، فإن النموذج الاستدلالي يعتبر أن التواصل يتم عن طريق تقديم المتكلم لأثر لمقاصده و استدلال السامع على هذه المقاصد انطلاقا من هذا الأثر.

إن وصف التواصل انطلاقا من المقاصد و الاستدلالات هو نوعا ما يرتبط بالحس العام commonsensical لكن بناء هذه الفكرة في عمل غرايس ستراوسن و سورل و شيفر و غيرهم اتخذ شكل منحى بعيد عن الحس المشترك، لكن مع ذلك لا يمكن اعتبار تحليل كرايس بديلا أصيلا لنموذج الشفرة و إنما هو إغناء له بحسب رأي أغلب التداوليين.

يشير سبيربر و ويلسن بهذا الخصوص إلى أن أصالة كرايس لا تكمن في اقتراحه أن التواصل الإنساني يتضمن التعرف على المقاصد. و إنما تكمن في اقتراح أن هذه الخاصية كافية: ما دام هناك طريقة للتعرف على مقاصد المتكلم فالتواصل ممكن. إذا كان غرايس على صواب، فإن المهارات الاستدلالية التي يستعملها الناس عادة في إسنادهم الانتباه لبعضهم البعض يمكن أن يجعل التواصل ممكنا و لو في غياب الشفرة.

خضع تحليل كرايس إلى جملة من الانتقادات منها ما أشار إليه سورل الذي يذهب إلى اعتبار أن هذا التحليل لا يبين الترابط القائم بين ما يعنيه الشخص بما يقوله و ما يقوله فعلا.

و هي الثغرة التي حاول سورل سدها باللجوء إلى توضيح الترابط بين معنى المتكلم و المعنى اللغوي و ذلك من خلال التركيز على ” المعنى الحرفي” الذي حدده انطلاقا من مقاصد المتكلم. إن المتكلم يسعى إلى التعريف و هو يوظف في هذا المسعى معرفته بقواعد الجملة المتلفظ بها، بعبارة أخرى المتكلم يقصد أن يفهمه السامع عن طريق تفكيك تلفظه. ليس هناك شك في أن أغلب حالات التواصل تتضمن استعمال شفرة.

إذا نظرنا إلى الشفرة باعتبارها مجموعة من الاصطلاحات المشتركة بين جميع المشاركين في الإجراء التواصلي. فإن السامع يستعمل معرفته بهذه الاصطلاحات من جهة و معرفته بالعلامة و بالسياق من جهة أخرى للاستدلال على الرسالة. هذا يعني أن التواصل الاستدلالي يكون باللغة غير أن هذا لا ينفي وجود تواصل استدلالي محض لا يتم اللجوء فيه إلى إنتاج التلفظات.

إن وجود هذا النوع من التواصل لا يتلاءم مع نموذج الشفرة على خلاف النموذج الاستدلالي الذي يتنبأ بهذا النوع من التواصل، و بالتالي يحقق الكفاية في دراسته. في هذا الإطار يقدم ويلسن و سبيربر(1989 :26) مثال روميو و جولييت اللذين اتفقا على أن ربط منديل أبيض في الشرفة يعني أنه يمكنه المجيء و حينما يرى روميو يستدل على إمكان المجيء.

إذا عممنا هذا المثال يمكن أن نستنتج أن كل تفكيك، بما فيه التفكيك اللغوي يتضمن إجراء استدلاليا عاديا يمكن تمييزه فقط بواسطة معطى أنه يتضمن مقدمات تتأسس على معرفة الاصطلاحات اللغوية.

نستنتج إذن أن التواصل يستند إلى نمطين متمايزين من الإجراءات: إجراءات التشفير و التفكيك و الإجراءات الاستدلالية. إذا قارنا التواصل عند الإنسان بالتواصل عند النحل الذي يمتلك شفرات محددة جينيا، فسنلاحظ أن نسق التواصل عند النحل يختلف عن الأنسقة الاستدلالية من ناحيتين:
1- أن التمثيلات التي تربطها لا تحتاج إلى أن تكون مفهومية.

2- و القواعد التي تربط هذه التمثيلات لا تحتاج إلى أن تكون استدلالية.
من هنا يستنتج ويلسن و سبيربر (1989 :27) أن المعرفة اللغوية لا تسهم في إجراء الفهم عن طريق تقديم مسلمات للاستدلال. يمكن أن يؤالف التواصل بين النموذجين: نموذج التشفير و النموذج الاستدلالي. مثلا التواصل الاستدلالي يمكن أن يتضمن استعمال علامات مشفرة التي تقصر في تشفير المقاصد و تقدم فقط أثرا غير تام لها.

إن التفاعل الكلامي هو صورة معقدة من التواصل تتضمن التشفير و التفكيك اللغويين، لكن المعنى اللغوي لا يشفر ما يعنيه المتكلم: إنه فقط يساعد السامع على الاستدلال على ما يعنيه. إن خرج التفكيك decoding يعالجه السامع باعتباره جزءا من الأثر الخاص بمقاصد المتكلم. بعبارة أخرى إجراءات التشفير – التفكيك خاضعة لإجراء الاستدلال الكرايسي.

يوافق هذا الاستنتاج الفرضية القائلة إن الشفرة و صيغ الاستدلال التواصلية يمكن أن يتآلفا. إن الناس الذين يمكنهم التواصل لديهم لغة مشتركة (و لديهم أيضا عدة شفرات صغرى). إن هذه اللغة المشتركة تمكنهم من إنتاج أثر أكثر قوة و دقة لمقاصدهم أكثر فيما ما لو كانت هذه الشفرة المشتركة غائبة. لكن من غير المعقول تحديد التواصل باعتباره يتم بالضرورة باستعمال الشفرة.

إن الكائنات الإنسانية هي أجهزة مفعلة –للمعلومة و هذه الخاصية هي الأصل في تمييزها عن الكائنات الأخرى، لكن ما هو العنصر الفعال في أجراة المعلومة processing information . الفعالية efficiency يمكن تحديدها فقط بالنظر إلى الهدف. إن الفعالية بالنظر إلى الأهداف المطلقة ترتبط بتحقيقها بأقل تكلفة (الوقت المال المجهود …) أما بالنظر إلى الأهداف النسبية فإن الفعالية هي مسألة موازنة بين درجة الإتمام و المجهود. في الحالة الخاصة التي يكون المجهود ثابت (هو متاح في كل وقت و يمكن قضاؤه بأي طريقة – تقتضي الفعالية تحقيق الهدف بدرجة أكبر.

يحدد ويلسن و سبيربر(1989 :68) الاستدلال باعتباره إجراء يتم بواسطته قبول فرضية باعتبارها صحيحة أو من المحتمل أن تكون صحيحة من هنا يحاولان أن يقدما نموذجا للمهارات الاستدلالية المتضمنة في الفهم انطلاقا من فرضيتين اثنتين هما:
– إجراء الفهم الاستدلالي غير – الإظهاري فالسامع لا يمكن أن يحلل و لا أن يستنتج القصد التواصلي للمتكلم. إن أفضل ما يمكنه القيام به هو بناء فرضية انطلاقا من الأثرالذي يقدمه المتكلم من خلال سلوكه الإظهاري.
– لا يمكن لأي معلومة متاحة للسامع أن تستعمل بوصفها مقدمة في إجراء الاستدلال. بعبارة أخرى نفترض أن إجراء الفهم الاستدلالي “كلي” بمعنى أن كل المعلومات التصورية يمكنها الوصول إليه في الذاكرة.
إن الاستدلال غير – الإظهاري يفعل مع الوصول الحر للذاكرة التصورية . لا تتضمن الفهم الاستدلالي أي ميكانيزمات خاصة
مفهوم الملاءمة: ينطلق سبربر و و ويلسن (1989) من منظور عام للمعرفة و للإجراءات المعرفية. يتلخص هذا المنظور في اعتبار أن الإجراءات المعرفية التي يفعلها المشاركون في العملية التواصلية تهدف بالأساس إلى استحضار المعلومة الأكثر ملاءمة من ضمن المعلومات المتاحة. و الغاية من وراء ذلك تتمثل في إنجاز آثار معرفية أكثر بجهد أقل.إذن مفهوم الملاءمة هو مفهوم أساسي في تصور سبربر و و ويلسن من هنا سميت النظرية التي قدماها بنظرية الملاءمة. يقول ويلسن و سبربر1989
” يتطلب التواصل استرعاء انتباه الآخر و بالتالي، فأن نتواصل يعني أن نعتبر أن
المعلومة ملائمة.”
فتفسير التواصل الإنساني لا يمكن أن يتم في غياب مبدأ الملاءمة، على اعتبار أن التأويل اللفظي لا يمكن أن يتم إلا باستحضار تفاعل المعاني اللغوية و العوامل السياقية.

ربيعة العربي

ربيـعة العربي: باحثة وأكاديمية مغربية، أستاذة التعليم العالي بجامعة ابن زهر كلية الآداب و العلوم الإنسانية بمدينة أكاديـر. خبيرة في اللسانيات و العلوم الاجتماعية لدى منظمة الإيسيسكو، نائبة رئيس جمعية لسانيات النص و تحليل الخطاب، منسقة لفريق المعجم و الترجمة، كاتبة عامة لجمعية الباحثات بجنوب بالمغرب، عضو في مركز الأبحاث حول قضايا المرأة و الأسرة، عضو في مختبر المجتمع و اللغة و الخطاب، عضو هيئة تدريس ماستر لسانيات النص و تحليل الخطاب، مشرفة على منتدى فريق البحث الطلابي في اللسانيات، عضو في العديد من مجموعات البحث والجمعيات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى