الخطاب النقدي العربي ما بين التخصص والانطباعية
لعلّ أكثر ما يعيب نقدنا العربي المعاصر هو الجنوح نحو المجاملة في بعض الأحيان، والبحث عن إرضاء مؤلف النص، أو مهاجمته مباشرة من دون مناقشة النص بطريقة مختلفة تبحث عن مكامن القوة والضعف فيه؛ من دون السقوط في مواجهة مؤلفه، سواء بالإيجاب أو بالسلب.
فالتفكير في إسعاد المؤلف، أو العكس، لا يخدم النقد العربي في شيء، وإنما يزيد الطين بلة، ويقدم نظرة سلبية للمؤلف حول الناقد، ويخلق نزاعًا خفيًا بينهما، أو علاقة غير سليمة تربط علاقتهما كمبدعين يساهمان في إنتاج المعرفة والثقافة العربيتين بشكل نوعي وكيفي.
ونلاحظ من خلال المتابعة اليومية لما يكتب في النقد العربي من مقالات وكتب أننا في إطار نوع من الكتابة النقدية الغزيرة، التي تفتقر في بعض محطاتها إلى التخصص النقدي الأكاديمي المبني على نظريات واضحة وبارزة في الفكر النقدي الحديث والمعاصر؛ وهذا ما يؤكد أن هنالك نوعًا من الانجرار نحو الكتابة الانطباعية حول ما ينشر من إبداعات، وما يصدر من كتب جديدة يصعب على النقد العربي أن يجاريها، أو يتعاطى معها، نظرًا لغزارتها، ولتعدّد كتابها ومبدعيها، الذين أصبحوا يسابقون الزمن لنشر ما يكتبون وما يخطون من كتب ونصوص من دون مراجعة وتمحيص يقيها الأخطاء والزلات.
إن النقد العربي يصعب عليه أن يتصدى لكل ما ينشر هنا وهناك، سواء على مستوى المطبوعات الصادرة عن دور النشر، أو على مستوى شبكة الإنترنت التي أصبحت تضم مواقع ومنصات لنشر الكتب والمخطوطات، كيفما كان نوعها وجنسها الأدبي، وحتى كيفما كانت قيمتها المعرفية؛ لأن هدف هذه المواقع هو عدد الزوار الذين يتابعون ما تنشره، وليس جودة العمل المنشور.
إن أحد أهداف النقد هو الوقوف على مكامن الضعف في النص الأدبي، ومحاولة تنبيه مؤلفه إلى ذلك من أجل مراجعته في الطبعة الثانية إن أمكنه ذلك، أو على الأقل إعادة النظر في ما سيحاول كتابته في ما بعد من نصوص.
ولعل الكتب التي تبرز إلى العلن، وتسابق بعض دور النشر العربية الكثيرة إلى نشر كل ما يقع بين أيديها من مخطوطات يؤكد هذه النظرية؛ حيث نصطدم، كقراء ونقاد، بغزارة الكتب في مجال الأدب عامة، وفي الرواية خاصة. وإن كنا نؤكد على أن العديد من دور النشر العربية تحترم الحد الأدنى من شروط النشر المعلن عنها، خاصة على مستوى الشكل والمضمون والموضوع.
يستند النقد الأدبي المتخصص على الخصوص إلى النظرية التي تعين الناقد على التفريق بين اللغة النقدية الأكاديمية، وبين اللغة الانطباعية الصحافية التي لا تهدف إلى قراءة النص الأدبي قراءة تأويلية خاصة، بقدر ما تهدف إلى تقديم المنتج الأدبي تقديمًا وافيًا للقارئ العادي الذي يحتاج إلى من يوجهه في اختياره لما يقرأه.
أما النقد المتخصص فيرتبط أساسًا بمنهج معين ومُحدّد يرسم معالمه انطلاقًا من نظريات وتجارب نقدية أخرى سبقته إلى القراءة؛ سواء كان هدفه هو إبراز الطاقات الإبداعية والفكرية والأدبية، أو كان هدفه تأسيس نظرية أدبية عربية قائمة الذات؛ حيث يكون لزامًا عليه أن يكافئ مقدرة مؤلف النص الأدبي على إبداعه وتميزه فيه؛ من خلال الحكم على جودة النص، وقوة لغته، وتمكنه السليم منها، ومن المعاني التي يستحضرها فيها.
فالقراءة المتخصصة للنص تنتج نوعًا من الوعي لدى القارئ العربي بأهمية ما يقرأه من أدب، ويقيه السقوط في أدب ضعيف، أو لا يستحق القراءة. في حين تكون القراءة الانطباعية القائمة أساسًا على تقديم النص الأدبي تقديمًا أوليًا يحيط بموضوعه وقضاياه التي يعالجها بشكل سطحي، أو تحليلي بسيط، بمثابة المعين الأساس للقارئ لمعرفة ما يقدم على قراءته من دون معرفة عميقة بالنص، وما يحاول إيصاله إلى القارئ عامة من شيفرات وأفكار وأسرار.
إن الحاجة إلى الناقد المتخصص ضرورية في زمن الإسهال الأدبي والكتابي الذي نعيشه اليوم؛ وفي الوقت نفسه نحن في حاجة إلى الناقد الانطباعي الذي يتابع عن كثب ما ينشر في سوق الكتابة والإبداع، حيث يقوم بعملية أساسية ومهمة في تقديم ما استجد من نصوص ومؤلفات للقارئ العربي بأسلوب جيد وبطريقة تقدمها على مستوى الموضوع والإبداعية والقضايا التي تعالجها.
فالقراءة المتخصصة تحتاج إلى قراءات متعددة للنص قبل الانخراط في تحليله وتأويل أسراره وأفكاره المطروحة؛ أما القراءة الأولية والانطباعية فتحتاج إلى قراءة واحدة، أو اثنتين فقط، من أجل توصيل الفكرة الأساسية والقضايا المطروحة إلى قارئ متعطش للقراءة، وباحث عن المتعة فيها.
ولعل ما تنشره “ضفة ثالثة”، مثلًا، من مقالات وقراءات متميزة على مستوى الطرح والفكرة لكتب جديدة أفضل مثال على أن القراءة التحليلية والأولية تبقى أساسية بالنسبة للقارئ العربي حتى يتشبع بفكرة الكتاب قبل اقتنائه وقراءته.
فأسرار النص التي يراها الناقد المتخصص الذي يستغرق زمنًا لا بأس به في القراءة تختلف عن ما يراه الناقد الانطباعي للنص؛ نظرًا لأن الأول يحاول جاهدًا البحث عن أشياء خفية في ثنايا النص، ويحاول استكناه أفكار قد تكون غامضة لدى الثاني، ولدى القارئ العادي أيضًا، فيعمل على استكشافها مستخدمًا نظريات نقدية وأدبية مهمة ومعارف اكتسبها من قبل قادرة على مساعدته في فك شيفرات النص الأدبي المغلقة.
فناقد من هذا النوع يعكس عناصر التطور النقدي العربي وملامح نظرية أدبية عربية جديدة نحن في حاجة إليها كأساس لبناء ثقافة عربية متجددة تحارب الاجترار النقدي، وكل ألوان التقليد الأعمى الذي يحاول بعضهم تكريسه في مدونتنا النقدية العربية في بعض جامعاتنا العربية على المستوى الأكاديمي.
وتدخل في حقل الدراسات الثقافية على المستوى الأكاديمي مجموعة من النظريات؛ نذكر منها: النظرية الاجتماعية، والنظرية السياسية، والتاريخ، والفلسفة ونظرية الأدب، النظرية النسوية، ونظرية وسائل الإعلام، ودراسات الفيلم والفيديو، ودراسات التواصل، والاقتصاد السياسي، والترجمة ودراسات المتاحف، ونقد الفن… وغيرها، إلى دراسة الظاهرة الثقافية في مختلف المجتمعات.
بحيث أن هذه الدراسات، حسب أحمد بوحسن “تبحث عن كيفية تخلُّق المعنى، وكيف يُبنى ويَخرج ذلك المعنى من الأوساط أو الحقول السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأدبية والفنية داخل ثقافة ما. المعنى الثقافي، إذن، معنى مركب من جماع إفرازات تلك الأوساط، أو الحقول، وتلك الممارسات.
وإن ذلك المعنى المركب هو الذي يساهم في إعطاء الثقافة لونها السياسي، أو الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو الديني، أو الفني. وقد يتحول إلى فعل ساكن، أو فعل متحرك. وقد يتخذ أشكالًا معتدلة ومتزنة، أو أشكالًا متطرفة”(1).
وفي هذا الصدد، يتطرق الباحث أحمد بوحسن، أيضًا، إلى مسألة غاية في الأهمية ترتبط أساسًا بكون الدراسات الثقافية تركز على أن النقد المتخصص ينحو في اتجاه مختلف الخطابات الثقافية التي تنتجها المدونة الثقافية والنقدية في مختلف المجتمعات، وعلى مستوى المثاقفة بين تلك الثقافات، وعلى أنواع من الثقافات الخاصة والعامة والهامشية المرتبطة بتعدد الرؤى والأفكار والمعارف، وبالخصوص الهيمنة الثقافية في اتجاهات مختلفة.
ولقد ظهرت، في رأيه، بعض النظريات المؤثرة للهيمنة الثقافية وفعلها من حركة الدراسات الثقافية مثلما هو الشأن بالنسبة لمعظم نظرية التواصل التي تحاول تفسير القوى الثقافية الموجودة وراء النظام العالمي الجديد، وبالعولمة(2).
تأثّر العرب منذ عقود بالنقد الأدبي الغربي في العصر الحديث، حيث عاصروا أهله من خلال الانفتاح على الشعوب الغربية على مستوى الثقافة والفكر؛ بل كان اختلاط الأجناس وتبادل الثقافات والأفكار، وتداولها المستمر والمنفتح على جميع المعارف والنظريات، سببًا للبحث في مناهج النقد الغربي التي بدت متنوعة ومختلفة عن النقد الأدبي التي كانت سائدة في العصور السابقة لدى العرب على مر العصور.
فأصبحت له قواعد ومبادئ منهجية وفكرية وفلسفية تدفع الناقد المتخصص في علوم الأدب الذي يتميز بالنظرة الثاقبة والوعي الناقد والمؤسس على الموهبة النقدية والمعرفة الشمولية والموسوعية. ولقد تعدّدت الآراء النقدية الحديثة، حسب صلاح فضل، واختلفت نظرًا لاتّساع توجهها، وعالمية الأدب، وامتزاج الثقافات؛ إذ ظهر إِثْرَها كثيرٌ من المناهج والمدارس النقدية الحديثة التي تعمل على هدف واحد، رغم اختلاف نظمها وأنساقها الفكرية(3).
وتبقى الإشارة إلى أنني قد قرأت العديد من النصوص الأدبية في مختلف الأجناس (شعر، رواية، قصة، مسرح)، واصطدمت بنصوص لا تستحق النشر، حيث كان على مؤلفيها أن لا يغامروا بنشرها، بل كان عليهم مراجعتها على جميع المستويات؛ فمن ناحية الأخطاء اللغوية حدث ولا حرج، ومن ناحية الشكل والمضمون الأمر يكاد يتعلق بانطباعات شخصية وخواطر عادية للكاتب لا تستحق الاهتمام.
قد يقول قائل: لماذا لم تتصدَّ لها، وتبين للقارئ مدى ضعفها، وفشل مؤلفيها في الكتابة؟ والجواب بسيط للغاية، وهو أنني أولًا لا أستطيع كما غيري من النقاد الكتابةَ عن الكم الهائل الذي ينشر من هذه المنشورات الأدبية التي لا قيمة لها؛ وثانيًا، فإنني أختار تجاهلها نهائيًا على أن أكتب عنها وأقدمها للقارئ الكريم حتى لا تجد صداها لدى البعض من القراء العاديين الذين لا يملكون القدرة على القراءة النقدية التي تجعلهم قادرين على التفريق بين الغثّ والسمين.
الهوامش:
(1) أحمد بوحسن، “الدراسات الثقافية والنقد المغربي المعاصر”، مجلة رباط الكتب، مقال منشور بتاريخ: 23 مارس 2013، رابط المقال: http://ribatalkoutoub.com/?p=966.
(2) المصدر نفسه.
(3) صلاح فضل، مناهج النقد المعاصر، ميريت للمعلومات والنشر، القاهرة، ط. 1، 2002، ص. 6.