كيف يبقى العلماء مُطلعين على أحدث الأبحاث؟
لم يعد على العلماء أن يخشوا من عدم الإلمام بالتطورات التي تشهدها مجالات تخصصهم، ويرجع الفضل في ذلك إلى الأدوات البرمجية التي تُسلِّط الضوء على أحدث الأبحاث المهمة.
في كل مرةٍ يتاح فيها لـ”إيدي سموليانسكي” بضع لحظات يخلو فيها بنفسه، يحاول أن يبقى مُطلعًا على المطبوعات الجديدة في مجال تخصصه. لكن بحلول عام 2016، كان هذا الباحث المتخصص في مجال الرؤية الحاسوبية -والمقيم في تل أبيب بإسرائيل- يتلقى يوميًا مئات التوصيات المؤتمتة بالأبحاث المطلوب الاطلاع عليها.
يقول سموليانسكي: “في مرحلةٍ ما، لم تعد فترات دخول دورة المياه كافية”، مضيفًا أن التوصيات كانت “كثيرة للغاية على نحوٍ يستحيل معه متابعتها”.
يعاني كثير من الأكاديميين من “إرهاق المتابعة” مثل سموليانسكي؛ فأدوات التنبيه الأكاديمية، التي صُمِّمت في الأساس من أجل تركيز الانتباه على الأبحاث ذات الصلة، صارت هي ذاتها عائقًا؛ إذ تُغمَر صناديق الرسائل الواردة لدى كثير من العلماء على مستوى العالم بسيلٍ من الرسائل.
يقول كريج كابلان، اختصاصي علم الأحياء بجامعة بيتسبرج بولاية بنسلفانيا الأمريكية: “لم أقرأ حتى نتائج البحث المؤتمتة على محرك البحث «بَبمد» PubMed مؤخرًا لأنها كثيرة للغاية حقًا. صدقًا لا أستطيع مواكبة نشر الأبحاث الجديدة”.
لكن التغيير قادمٌ. ففي عام 2019، شارك سموليانسكي في تأسيس أداة «كونيكتد بيبرز» Connected Papers، وهي إحدى أدوات جيلٍ جديد لرسم خرائط الأبحاث والتوصية بها. وثمة خدمات أخرى متاحة أيضًا تَعِد بتقليل الحمل الزائد من المعلومات، إذ تجمع بين تغريدات تويتر والأخبار اليومية والأبحاث.
- قصة الاستدلال
لا تُرسل أداة «كونيكتد بيبرز» قائمةً يومية بالمقالات الجديدة عبر البريد الإلكتروني، وبدلًا من ذلك تستخدم “دراسة استدلالية” واحدة من اختيار المستخدم لوضع خريطة بالأبحاث المترابطة، بالاعتماد جزئيًا على التداخل بين المصادر. وقد تجاوز عدد مستخدمي هذه الخدمة مؤخرًا مليون شخص، حسبما يقول سموليانسكي.
تكون الخرائط مشفرة لونيًا بحسب تاريخ النشر، ويمكن للمستخدمين التنقل بين الأبحاث الأصلية «السابقة» والأعمال «المشتقة» اللاحقة المعتمدة عليها. والفكرة أن العلماء يمكنهم أن يبحثوا عن “الدراسة الاستدلالية” التي تُثير اهتمامهم،
وأن يروا من خلال الخريطة الناتجة أي الدراسات الحديثة جذبت الانتباه في مجال تخصصهم، وإلى أي مدى ترتبط تلك الدراسات بالأبحاث الأخرى، وكم عدد الاستشهادات التي حظيت بها.
يقول سموليانسكي: “لم يعد علينا متابعة هذا السيل المتدفق من الأبحاث وتفحُّص كل بحث جديد يخرج للنور خشية أن يفوتنا”، مضيفًا أن العلماء يمكنهم الاستفادة من هذه الأداة أيضًا عندما يريدون التعمق في مجالٍ جديد تمامًا؛ إذ تقدم لهم رؤيةً عامة عن الأبحاث الأساسية في هذا المجال.
وتُعد «أوبن نوليدج مابس» Open Knowledge Maps أداة أخرى للخرائط البصرية، وهي خدمة تقدمها مؤسسة غير ربحية مقرها فيينا وتحمل الاسم نفسه.
تأسَّست تلك المؤسسة عام 2015 على يد بيتر كريكر، وهو باحث سابق في مجال التواصل الأكاديمي بجامعة جراتس للتكنولوجيا في النمسا.
تنشئ «أوبن نوليدج مابس» خرائطها بالاعتماد على الكلمات المفتاحية بدلًا من الاعتماد على مقالةٍ محورية، كما تعتمد على تشابه النصوص والبيانات الوصفية لمعرفة مدى الارتباط بين الأبحاث.
وتعمل الأداة على ترتيب 100 بحث في مجالات فرعية متشابهة في صورة فقاعات تُوحي مواضعها النسبية بالتشابه بينها؛ فعند البحث مثلًا عن مقالة بخصوص «تغير المناخ»، قد تظهر فقاعة عن «إدراك المخاطر».
يمكن تشكيل خرائط تلك الفقاعات في غضون نحو 20 ثانية، ويستطيع المستخدمون تغييرها لتشمل أحدث 100 دراسة منشورة ذات صلة، أو مصادر أخرى. ولا تضم أداة «أوبن نوليدج مابس» مقالات الدوريات فحسب.
وإنما تشتمل أيضًا على محتوى مثل مجموعات البيانات، والبرامج الحاسوبية البحثية. وقد صمَّم مستخدموها أكثر من 400 ألف خريطة حتى الآن، على حد قول كريكر.
تُعد آمي فيرز -التي تدرس اللغة في جامعة إكس مارسيليا بفرنسا- إحدى المتحمسات لأداة «أوبن نوليدج مابس» حسبما تصف نفسها.
تقول فيرز: “ثمة شيء لطيف للغاية يتعلَّق بأداة «أوبن نوليدج مابس» وهو أنك تستطيع البحث في موضوعات واسعة النطاق للغاية مثل «إنتاج اللغة»، ويمكن للأداة تصنيف الدراسات إلى موضوعات ربما لم تخطر ببالك”.
فمثلًا، عندما بحثت فيرز عن «مناطق الدماغ الفونولوجية» -وهي مناطق الدماغ التي تعالج الصوت والمعنى- اقترحت أداة «أوبن نوليدج مابس» مجالًا بحثيًا فرعيًا بخصوص الفروق العمرية في عملية المعالجة.
تقول فيرز: “لم يكن قد خطر لي من قبل البحث في الدراسات المتعلقة بالسن عن معلومات تتعلق بهذا الموضوع، لكنني سأفعل الآن”.
لكن على الرغم من حماس فيرز لهذه الخدمة، لا تزال تميل إلى البحث عن الأبحاث الجديدة عبر إشعارات التنبيه من «جوجل سكولار»؛ وهي الأداة المهيمنة في هذا المجال، وتوضِّح أنه من الأسهل عليها أن تخوض غمار مهمة البحث، متعقبةً سلسلة من الأبحاث التي يقتبس بعضها من بعض.
- التوصية بنقرة واحدة
تقدِّم «جوجل سكولار» توصيات الأبحاث بناءً على المقالات التي كتبها المستخدمون ووضعوها في قائمة ملفاتهم الشخصية. صحيحٌ أن الخوارزمية غير مُعلَنة للجمهور، لكن الشركة تقول إن التوصيات تعتمد على “موضوعات مقالاتك،
والدوريات التي تنشرها فيها، والباحثين الذين تعمل معهم وتقتبس منهم، والباحثين الذين يعملون في المنطقة نفسها التي تعمل بها، وخريطة الاقتباسات”.
ويمكن للمستخدمين إعداد إشعارات تنبيه إضافية يدويًا بناءً على عمليات البحث بالكلمات المفتاحية أو باستخدام أسماء باحثين معينين.
يحصل آرون تاي -وهو أمين مكتبة بجامعة سنغافورة للإدارة، ويدرس أدوات البحث الأكاديمية- على توصيات بالأبحاث المتعلِّقة بمجاله من «تويتر» و«جوجل سكولار»، ويجد أن «جوجل سكولار» غالبًا ما تلفت انتباهه إلى المقالات نفسها التي يوصيه بها زملاؤه، وإن كانت تتأخر بضعة أيام. يقول تاي إن «جوجل سكولار» “تكاد تصيب الهدف دائمًا تقريبًا”.
ويوضِّح تاي أنه إضافةً إلى المقالات المنشورة، قد تنتقي «جوجل سكولار» مسوَّدات بحثية و”أطروحات ورسائل علمية منخفضة الجودة”. لكنه يستدرك قائلًا إنه رغم ذلك، “يحصل المرء على جواهر ربما لم يرها من قبل”.
(بدأت قاعدة بيانات منافسة مختصة بالأبحاث المنشورة ويطلق عليها اسم «سكوبوس» Scopus، وتملكها دار نشر «إلسيفير» Elsevier التي يقع مقرها في أمستردام، إدراجَ المسوَّدات البحثية في وقتٍ سابقٍ من العام الحاليّ، حسب أحد متحدِّثيها الرسميين. لكنها لا تُفهرس الأطروحات والرسائل العلمية.
يقول المتحدث: “ستكون هناك عناوين لا تتوافق مع معايير «سكوبوس»، لكن «جوجل سكولار» تغطِّيها”).
لا تكشف «جوجل سكولار» حجم قاعدة بياناتها، لكن من المعروف على نطاقٍ واسع أنها أكبر قاعدة بيانات موجودة، إذ يقترب عدد مقالاتها من 400 مليون وفقًا لأحد التقديرات (M.Gusenbauer Scientometrics 118, 177-214; 2019).
وفي الوقت ذاته، أُنشئت أداة «أوبن نوليدج مابس» على محرك البحث الأكاديمي مفتوح المصدر «بيليفيلد» Bielefeld Academic search Engine، الذي يزخر بأكثر من 270 مليون وثيقة، بما في ذلك المسودات البحثية، ويخضع للإشراف لحذف الرسائل غير المرغوبة.
تستخدم أداة «كونيكتد بيبرز» المحتوى المعلوماتي المتاح للعامة الذي جمعته أداة «سيمانتيك سكولار» Semantic Scholar -وهي أداة أسسها معهد آلن للذكاء الاصطناعي عام 2015 في سياتل بواشنطن- ويقترب هذا المحتوى من 200 مليون مقالة، من بينها المسودات البحثية.
ويُقرُّ سموليانسكي بأن هذا التباين في الحجم معناه أنه من النادر جدًا أن تجد «جوجل سكولار» “دراسةً متخصصة يعود تاريخها إلى سبعينيات القرن العشرين” لا تجدها «سيمانتيك سكولار».
يضع نظام الإشعار الذي تستخدمه «سيمانتيك سكولار» -الذي يطلق عليه اسم التلقيم البحثي التكيفي- قائمةً بالأبحاث الموصَى بها يمكن للمستخدمين تدريبها عن طريق الإعجاب أو عدم الإعجاب بالمقالات التي يطالعونها.
ولتحديد أي الأبحاث يُشبهها، يستخدم هذا النظام نموذجًا قائمًا على تعلم الآلة مُدرَّبًا على الاقتباسات المتبادلة، وعلى نوعية المقالات التي طالعها مستخدمو «سيمانتيك سكولار» على نحو متتابع. ويبلغ عدد مستخدمي النظام نحو ثمانية ملايين مستخدم شهريًا.
- لا داعي للانزعاج بعد الآن
يستخدم تطبيق «فيدلي» Feedly -الذي دُشِن في عام 2008- أيضًا طريقة التصويت الإيجابي والسلبي لمعرفة أي الأبحاث الأكاديمية الجديدة أكثر ملاءمة للمستخدم، وهو يستخدم مساعد ذكاء اصطناعي يمكن تدريبه على كلماتٍ مفتاحية أو موضوعاتٍ بعينها.
غير أن «فيدلي» لا يستهدف الباحثين تحديدًا، وإنما يستهدف أن يكون منصة شاملة لرصد الأخبار وتلقيمات «آر إس إس» RSS (التي توفر طريقةً لتنبيه المستخدمين لأي محتوى جديد على المواقع الإلكترونية)، ومنتدى «ريديت» Reddit، وموقع «تويتر»، والنشرات الصوتية «بودكاست».
ثمة نسخة مجانية متاحة من التطبيق، لكن السمات الإضافية، مثل القدرة على تتبُّع أكثر من 100 مصدر وإخفاء الإعلانات تُكلِّف ستة دولارات أمريكية أو أكثر شهريًا (على عكس أغلب الأدوات الأخرى المذكورة هنا،
والتي هي مجانية بالكامل؛ ثمة بديل آخر بأجر هو «ريسيرتش جيت +بلاس» ResearchGate +Plus، الذي يُعزِّز رؤية المستخدمين ويُوفر إحصائيات متقدمة).
يصف القائمون على تطبيق «ريسيرتش رابيت» ResearchRabbit -الذي أُطلق بالكامل في أغسطس 2021- أنه بمثابة “«سبوتيفاي» Spotifyالأبحاث العلمية”. يبدأ المستخدمون حفظ الأبحاث ذات الصلة ضمن مجموعة.
ومع إضافة كل بحثٍ جديد، يعمل «ريسيرتش رابيت» على تحديث قائمته للمقالات المُوصَى بقراءتها، على نحو يحاكي النهج الذي تتبِّعه المنصات الموسيقية –مثل «سبوتيفاي»- في عرض التوصيات بناءً على الأغنيات التي يضيفها المستخدمون إلى قوائم التشغيل الخاصة بهم.
ولم تكشف الشركة التي ابتكرت هذه المنصة -ومقرها في سياتل، واشنطن- بالضبط الكيفية التي تُقيِّم بها مدى الصلة بين المقالات، على الرغم من أنها تقول إنها تُركز على التوصيات الدقيقة بدلًا من الكم الهائل من إشعارات التنبيه.
يقول مايكل ما، الرئيس التنفيذي للشركة: “كل ما نريده هو إرسال الأبحاث الأكثر ملاءمةً إلى مستخدمينا”.
وترى إمبر براون رويز -طالبة الدكتوراه في مجال التعليم الخاص وسياسة الإعاقات بجامعة فيرجينيا كومونولث في ريتشموند- أن إشعارات «ريسيرتش رابيت» ذات طابع شخصي أكثر من «جوجل سكولار»، التي تزوِّدها بأبحاث تبدو ظاهريًا أنها تشبه أبحاثها لكن يتبين لها لاحقًا أنها بعيدة كل البعد عن مجال تخصصها.
لذا تستخدم رويز «كونيكتد بيبرز» للبحث عن مقالات جديدة. صحيحٌ أنها تجد هذه الأداة أقل أتمتة من «جوجل سكولار»، التي تُرسل الأبحاث الجديدة عبر البريد الإلكتروني، “لكنني أستطيع التعامل يدويًا مع الأمر ومعرفة أي المقالات هي الأحدث”، على حد قولها.
الشيء الذي يجمع بين كل هذه الأدوات أنها تستخدم نوعًا ما من الذكاء الاصطناعي لصياغة توصياتها. غير أن بعض الباحثين يستمتعون باللمسة البشرية، إذ يُقدِّرون التوصيات التي تأتيهم من زملائهم ومعارفهم على موقع «تويتر» مثلًا.
وتقول «ريسيرتش جيت» -المنصة التي بدأت نشاطها منذ فترة طويلة وتُروِّج لنفسها بوصفها نوعًا من شبكات التواصل الاجتماعي للعلماء- إنها تجمع بين أفضل ما في العالمين.
تأسَّست «ريسيرتش جيت» عام 2008، وهي تُرسل توصياتها بالأبحاث عبر البريد الإلكتروني كما تُزود بها المستخدمين عبر تلقيمٍ مستمر عند تسجيلهم الدخول إلى المنصة. (ويستطيع المستخدمون أيضًا الاطلاع على ملف أخبار مرتب ترتيبًا زمنيًا للأبحاث التي ينشرها معارفهم على المنصة).
وعلى الرغم من أن المنصة لا تعلن خوارزميتها، فإنها تستخدم معلومات تتعلق بمنشورات المستخدمين والمنشورات التي طالعوها على المنصة من أجل فهم اهتماماتهم.
وبعد ذلك، تُجري المنصة عملياتها الحسابية للمقالات ذات الصلة على أساس الاقتباسات المشتركة والموضوعات والكلمات المفتاحية المستخلصة. وتضم منصة «ريسيرتش جيت» في الوقت الحاليّ نحو 149 مليون صفحة منشورة ولديها 20 مليون مستخدم.
يقول جوزيف دبروين، مدير منصة «ريسيرتش جيت» لإدارة المنتجات والمقيم في لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا: “المكون السري في خلطة منصة «ريسيرتش جيت» هو الجمع بين شبكة تواصل اجتماعي نشطة ومخطط بحثي ضخم”.
وهكذا، بعد خمس سنوات من إدراك سموليانسكي أنه كان يغرق وسط سيل من الأبحاث الجديدة، أصبح في النهاية قادرًا على التخلص من هذا الخوف الذي يراود العلماء من أن تفوتهم الأبحاث الجديدة. يقول سموليانسكي: “لم يعد هناك ما يدعو للخوف من فوات فرصة الاطلاع على الأبحاث الجديدة“.