بعض مهام اللسانيات في السياق المعرفي
- تقديم
نجمل في ما يلي مجموعة من العناصر التي تبدو لنا واردة في تعيين بعض المهام النظرية والتجريبية المنوطة باللسانيات عموما واللسانيات العربية على وجه الخصوص، من منطلق اعتبار هذا العلم علما معرفيا بامتياز، ومن وجهة النظر التي نتبناها في إطار الدلالة التصورية أو هندسة التوازي النحوي[1] وذلك من خلال محورين.
ندافع في أولهما عن مبادئ هندسة التوازي في نظرية الدلالة التصورية باعتبارها نظرية معرفية تعنى بتنظيم ظواهر الدلالة اللغوية ووصفها وتفسيرها وربطها بغيرها من الظواهر اللغوية الأخرى والمعرفية غير اللغوية.
ونستدل في ثانيهما على الكيفية التي تنسجم بها الهندسة النحوية في الدلالة التصورية مع الخصائص الهندسية الملاحظة في باقي الأنساق غير اللغوية داخل بيئة الذهن/الدماغ المعرفية العامة.
- 1 في المبادئ وهندسة النحو
إن التطور الهائل الذي تحققه بكيفية مطردة مختلف مكونات العلوم المعرفية، كعلم النفس البشري والحيواني بفروعهما، والذكاء الاصطناعي وفلسفة الذهن وفلسفة اللغة والإناسة المعرفية والأحياء، الخ، أصبح يفرض على اللسانيات، باعتبارها علما معرفيا، أخذ نتائج هذا التطور بعين الاعتبار والاندماج بصورة طبيعية في البحث الساعي إلى بلورة ما أصبح يسمى اليوم نظرية صورية للمعرفة.
ومما يعنيه هذا الاندماج ربط دراسة اللغة بدراسة كل ملكات الذهن/الدماغ (لدى الإنسان والحيوان) وعلى كافة المستويات، بما في ذلك البنيات الذهنية غير اللغوية التي قطع البحث في خصائصها أشواطا هامة كالبنيات البصرية والموسيقية وبنيات العمل والمعرفة الاجتماعية.
ومن القضايا الأساسية المتصلة بالاندماج هنا ما يتعلق بتعيين مظاهر التمثيل اللغوي التي تشترك فيها قدرات أخرى، كالبنية السُّلَّمية والتكرار اللامحدود والتمثيل للمتغيرات، والمكونات المرؤوسة، الخ. وذلك مثلما هو الحال بخصوص البنية السّلّمية والتكرار اللذين ثبت حضورهما في القدرات المعرفية البشرية العليا، وربما لدى بعض الحيوانات أيضا، خلافا لما دافع عنه هاوزر وشومسكي وفيتش (2002)[2].
فاللغة تتفرد ليس بخاصية التكرار في حد ذاتها ولكن بكونها نسق التواصل الطبيعي الوحيد الذي تملك إشاراته بنية سلّمية تكرارية تعكس إلى حد معين البنية السلّمية التكرارية في الإرسالية المراد إرسالها.
ومن القضايا الهامة أيضا المتصلة بالاندماج ما يتعلق بالوِِجاهات (interfaces) التي تصل اللغة بقدرات أخرى، فتمكننا من استخدام أنساقنا السمعية والحركية لاستقبال الكلام وإرساله، ومن استخدام اللغة للتعبير عن إدراكاتنا وأفكارنا، كما هو الحال في الأعمال التي تدرس الوِجاه الواصل بين المعنى اللغوي والنسق البصري (والفضائي)، والأعمال التي تنظر في تأثير اللغة في عملية التفكير ومضمونه[3] .
إن دمج اللسانيات في العلوم المعرفية لا يمكن أن يتم، إذن، إلا بوضع دراسة الملكة اللغوية ضمن مجال دراسة باقي الملكات المعرفية الأخرى؛ وذلك على طريق بلورة نظرية صورية للمعرفة، كما سبق، تنسجم فيها الهندسة النحوية اللغوية مع الخصائص الهندسية الملاحظة في باقي الأنساق غير اللغوية داخل بيئة الذهن/الدماغ المعرفية العامة. ويبدو أن هذا بدوره لا يمكن أن يتم إلا بالتخلي عن بعض أهم الافتراضات التي بني عليها التيار الرئيس في النحو التوليدي (لدى شومسكي)، وأبرزها التقانة الاشتقاقية ومركزية التركيب.
فإلقاء نظرة على المجالات المعرفية التي تمت دراستها حتى الآن يبدو أنه يكشف عن نتيجة هامة مفادها عدم وجود قدرة معرفية أخرى تقبل أن توصف على أساس اشتقاقات خوارزمية، بل يظهر أن الأمر يتعلق عموما بأنساق من القيود المتفاعلة[4]. وهذا ما تبلوره نظرية الدلالة التصورية القائمة على تقانة القيود عوض القواعد الاشتقاقية.
وخلافا لمركزية التركيب تقوم نظرية الدلالة التصورية كذلك على تصميم نحوي ذي هندسة متوازية أساسها أنساق نحوية مستقلة، من جهة، لامتلاكها أولياتها ومبادئها التأليفية وقدرتها التوليدية الخاصة، ومتفاعلة، من جهة أخرى، عبر الوِجاهات التي تقيم بينها توافقات جزئية، كما سنرى. على أن نظرية الدلالة التصورية، إذ تعيد النظر في الافتراضات السابقة، لا تتخلى عن أهم الأسس التي قام عليها النحو التوليدي وأبرزها الموقف الذهني والتأليفية[5].
هكذا يكون من الأهداف الرئيسة التي تتوخى تحقيقها نظرية الدلالة التصورية إعادة إدماج النحو التوليدي، بما في ذلك نظرية الدلالة، في العلوم العصبية والمعرفية بكيفية تجعله يتلاءم بصورة طبيعية مع الهندسة الواسعة للذهن/الدماغ.
على أن هذا الهدف ليس وليد اليوم وإنما يرتبط بوعد قطعته اللسانيات التوليدية على نفسها منذ كتاب شومسكي مظاهر النظرية التركيبية سنة 1965 الذي جاء فيه: “لنلاحظ أننا لا نقصد، طبعا، أن وظائف اكتساب اللغة تنجزها مكونات منفصلة تماما في الذهن المجرد أو الدماغ الفيزيائي […] وبالفعل، فمن مشاكل علم النفس الهامة أن نحدد إلى أي حد تقتسم مظاهر أخرى للمعرفة خصائص اكتساب اللغة واستعمالها، وأن نحاول، في هذا الاتجاه، تطوير نظرية للذهن أغنى وأوسع”[6].
وقد كان السؤال ملحا في السنوات التي سبقت كتاب المظاهر حول كيفية ربط البنية التركيبية بالمعنى. وتبعا لافتراض تقدم به أولا كاتز وبوسطل (1964)، بلور شومسكي (1965) الافتراض المثير القائل إن المستوى التركيبي الوارد في تحديد المعنى هو البنية العميقة. وهو افتراض يعني، في صيغته الضعيفة، أن اطرادات المعنى تكاد تكون مرمزة مباشرة في البنية العميقة.
فعقدت آمال كبيرة على هذا الجزء من النحو التوليدي لدى الباحثين في مجالات العلوم المعرفية خاصة، على اعتبار أن آليات النحو التوليدي إذا قادتنا إلى المعنى، أمكنها أن تقودنا إلى الكشف عن خصائص الفكر والطبيعة البشريين.
لكن المسار الذي سار فيه بعد ذلك التيار الرئيس في النحو التوليدي بقيادة شومسكي لم يساعد على بناء نظرية للمعنى في الإطار التوليدي النفسي، ولا على تثبيت منزلة اللسانيات التوليدية ضمن العلوم المعرفية المهتمة بمختلف خصائص الذهن/الدماغ البشري. ومرد ذلك أساسا إلى حصر الخاصية التوليدية الإبداعية للغة في المكون التركيبي، واعتبار الصواتة والدلالة مكونين “تأويليين”، أي أن خصائصهما التأليفية مشتقة من تأليفية التركيب.
- 1.1 من مركزية التركيب إلى هندسة التوازي
لقد كان على شومسكي أن يستدل على أن اللغة تتطلب نسقا توليديا يمكن من التنوع اللانهائي للجمل. لكنه افترض، بدون حجج حقيقية (انظر مثلا الصفحات: 16، 17، 75، 198، من كتاب شومسكي (1965))، أن التوليدية تكمن في المكون التركيبي للنحو-الذي يبني المركبات انطلاقا من الكلمات-، وأن الصواتة (أي تنظيم أصوات الكلام) والدلالة (أي تنظيم المعنى) مكونان “تأويليان”.
وقد كان هذا الافتراض معقولا في الستينيات، إذ كان الأساس تبيان أن شيئا ما في اللغة توليدي. فبدا المكون التركيبي المكون “الناضج” لأخذ هذه المنزلة المركزية في النحو. وذلك مقارنة بالمعطيات الهزيلة آنذاك في مجالي الصواتة والدلالة. فقد اعتبرت الصواتة مستوى أدنى مشتقا من التركيب الذي ينظم الكلمات ويضعها في الترتيب المطلوب لتكتفي الصواتة بتحديد نطقها. ولم يكن في المجال الدلالي سوى الاقتراحات الأوَّلية لكاتز وفودور (1963) وكاتز وبوسطل (1964)، وأعمال بيرفيتش (1967) و(1969)، وفنريش (1966). فلم يكن هناك أي داع لوضع الافتراض الذي يحصر التعقيد التأليفي كله في التركيب موضع السؤال[7]. لكن تقدم البحث وتراكم النتائج في الصواتة والدلالة سيكشفان تدريجيا عن ضرورة إعادة النظر في هذه “المركزية التركيبية”.
فطرأ التحول في تصور موضوع الصواتة في أواخر السبعينيات مع ظهور الأعمال الرائدة عند ليبرمان وبرينس (1977) وكولدسميث (1979)، لتتطور الصواتة سريعا إلى مكون يمتلك بنيته التوليدية السّلّمية المستقلة عن التركيب، والقائمة على بنيات فرعية متوازية أو صفوف (tiers). ومثال السّلّمية الصواتية التنظيم السّلّمي الذي تقوم عليه البنية المقطعية. فنواة المقطع تأتلف مع الذيل لتشكيل القافية؛ وتأتلف القافية بدورها مع الاستئناف لتشكيل تمام المقطع؛ وتأتلف المقاطع في وحدات أوسع كالقدم والكلمات الصواتية؛ وتأتلف الكلمات الصواتية كذلك في وحدات أكبر كالمركبات الصواتية.
والأساس هنا أن هذه البنيات السُّلَّمية ليست مكوّنة من أوليات تركيبية كالأسماء والأفعال والحدود، وإنما من عناصر ملازمة للصواتة كالسمات الصواتية المميزة والقطع والمقاطع والمحيط التنغيمي، ومن مبادئ كالبنية المقطعية وقواعد النبر والانسجام الحركي. كما أن هذه البنيات، وإن كانت سُلَّميَّة، فهي ليست تكرارية، بالمعنى الحصري الملحوظ في التركيب والظاهر مثلا في ورود مكون داخل مكون آخر من نفس النمط، إذ المقطع مثلا لا يرد داخل مقطع آخر. ومن ثمة فإن المبادئ التي تحكم البنيات الصواتية ليست مشتقة من التركيب وإنما تشكل نسقا مستقلا من القواعد التوليدية.
وبالإضافة إلى المبادئ التوليدية التي تصف هذه البنيات المتوازية، هناك مجموعة من القواعد الوِجاهية (أو قواعد التوافق) التي تضبط الكيفية التي تتوافق بها البنيات المتوازية المستقلة داخل النسق. وهي قواعد من أهم خصائصها أنها لا تقيم بين البنيات سوى تشاكلات جزئية، أي أنها لا “ترى” كل مظاهر البنيات التي تربط بينها. ومثال ذلك داخل النسق الصواتي أن القواعد الوجاهية التي تربط بين المحتوى المقطعي والشبكات العروضية (metrical grids) لا “ترى” تماما استئناف المقطع، فلا تهتم (قواعد النبر) إلا بما يجري في القافية.
ومثلما تظهر خصائص الربط الجزئي في القواعد الوجاهية داخل النسق الصواتي، تظهر كذلك في القواعد الوجاهية الرابطة بين النسق الصواتي برمته والنسق التركيبي. ومثال ذلك أن الصواتة قد “ترى” بعض الحدود التركيبية لكنها لا “ترى” عمق الإدماج التركيبي، إذ تشكل أداة التعريف والاسم في المعطى: القط، مثلا، كلمة صواتية واحدة، لكن هذا المعطى في التركيب مقولتان اثنتان: الحد والاسم. كما أن التركيب لا “يرى” المحتوى القطعي للكلمات الصواتية، ولذلك ليس هناك قاعدة تركيبية لا تنطبق إلا على الكلمات المبتدئة بباء مثلا.
- 2.1 في الأوليات والصفوف التصورية
إن ما ذكر بخصوص تطور الصواتة وقع كذلك في المجال الدلالي. فخلال السبعينيات والثمانينيات تطورت عدة نظريات دلالية مختلفة جذريا عما سبق. منها، مثلا، الدلالة الصورية (بارتي 1976)، والنحو المعرفي (ليكوف 1987، وفوكونييه 1984، ولينكيكر 1987، وتالمي 2000)، والدلالة التصورية (جاكندوف 1983، 1990، وبنكر 1989، وبوستيوفسكي 1995)؛ إضافة إلى أعمال هامة تمت في إطار اللسانيات الحاسوبية وعلم النفس المعرفي. وهي أطر مهما كانت الاختلافات بينها، تتفق كلها في أن الدلالة نسق توليدي مستقل بخصائصه التأليفية، ولا يقوم على وحدات تركيبية كالمركبات الاسمية والفعلية، وإنما يمتلك أولياته الدلالية ومبادئه الذاتية الخاصة[8].
وتخصص نظرية الدلالة التصورية المعنى باعتباره تمثيلات ذهنية مبنية في صورة تنظيم معرفي هو البنية التصورية. والبنية التصورية ليست جزءا من اللغة في حد ذاتها، وإنما هي جزء من الفكر. إنها المحل الذي يتم فيه فهم الأقوال اللغوية في سياقاتها، بما في ذلك الاعتبارات الذريعية والمعرفة الموسوعية، إنها البنية المعرفية التي ينبني عليها التفكير والتخطيط.
فيعتبر هذا المستوى المفترض للبنية التصورية المقابل النظري لما يسميه الحس المشترك “معنى”. وهو نسق تأليفي مستقل عن البنية التركيبية وأغنى منها إلى حد بعيد، أولياته كيانات تصورية مثل الأفراد والأحداث والمحمولات والمتغيرات والأسوار. وبخلاف علاقات العلو والترتيب الخطي التي نجدها في التركيب، فإن البنية الدلالية تقوم على مبادئ تأليفية ذاتية كالروابط المنطقية وعلاقات الدالات بموضوعاتها، والأسوار بالمتغيرات المربوطة، والعلاقات النعتية، وعلاقة الأقوال بالتضمنات[9]. وتنتظم هذه الأوليات والمبادئ، كما هو الحال في الصواتة، في صفوف دلالية/تصورية؛ كالصف الوصفي والصف الإحالي وصف بنية المعلومة.
ولتقديم فكرة مجملة عن طبيعة هذه الصفوف[10]، نأخذ المثال (1)، حيث يقع النبر على زيد، ونمثل في (2)، باختصار، للمعلومات التصورية التي يهتم بها كل صف:
(1) ذهب زيد إلى الرباط
(2) أ. الصف الوصفي:[وضع ذهب([موضوع زيد]1، [مسار إلى([مكان الرباط]2)])]3
ب. الصف الإحالي:
1 2 3
$ س زيد س $ص الرباط ص (ذهب س إلى ص)
ج. صف بنية المعلومة: 1
[+ بؤرة]
فيهتم الصف الوصفي بتخصيص الأوليات (أو المقولات) التصورية وتنظيم الدالات والموضوعات. ويهتم الصف الإحالي بالإفادة الإحالية أو الوجودية المتعلقة بالمكونات التي توافق أفرادا في العالم كما يتصوره المتكلم؛ فتوافق القرينتان 1 و 2 السورين الوجوديين على زيد والرباط، وتفيد القرينة 3 قيام حدث ذهاب زيد إلى الرباط، وهو ما يوافق التسوير الوجودي المتعلق بمتغير الحدث عند ديفدسن. أما صف بنية المعلومة فيهتم بتمييز المعلومة الجديدة (البؤرة)، أي زيد في (1)، من المعلومة القديمة (الاقتضاء).
ومثلما هو الحال في الوِجاه بين التركيب والصواتة فإن الوجاه بين التركيب والدلالة لا ينبني على التشاكل التام. فبعض مظاهر التركيب لا تمس الدلالة. مثال ذلك أن البنية الدلالية في لغة معينة تبقى كما هي سواء وسم التركيب تطابق الفعل والفاعل، أو تطابق الفعل والمفعول، أو إعراب الرفع والنصب. ولا يهم البنية الدلالية أن يضع التركيب الفعل بعد الفاعل (كما في الأنجليزية) أو في آخر الجملة (كما في اليابانية). فبما أن هذه المظاهر التركيبية لا تربطها صلة بالدلالة، فإن المكون الوجاهي لا يلتفت إليها.
كما أن بعض مظاهر الدلالة لا تأثير لها في التركيب. ومن الأمثلة المعروفة في هذا الباب أن صورة الاستفهام التركيبية يمكن أن تستخدم لدلالات مختلفة، كطلب الحصول على المعلومة في نحو:
(3) أ. هل زيد مريض؟
أو لامتحان شخص ما نحو:
ب. هل الإعراب كلي؟
أو للتعبير عن السخرية نحو:
ج. هل البابا كاثوليكي.
ومن الأمثلة كذلك أن الفاعل “المعني” في (4) ليس هو الكيان الذي يحيل عليه عادة الفاعل الظاهر في التركيب:
(4) أ. [يقول النادل للنادل الآخر]:
يريد طجين اللحم شايا آخر
[ تأويل:”يريد الشخص الذي طلب/يأكل طجين اللحم…”]
ب. يوجد شومسكي في رف المكتبة الأعلى بجوار أفلاطون
[تأويل: “يوجد الكتاب الذي ألفه شومسكي…”]
فمثل هذه الحالات المسماة “تحويل الإحالة” منذ نونبرك (1979) لا تتضمن أي أثر تركيبي للأجزاء المشار إليها بخط مائل في التأويل. ولا يمكن إزاحة مثل هذه الظواهر واعتبارها “ذريعية” تقع خارج النسق النحوي، لأن تحويل الإحالة يمكن أن يكون له أثر نحوي غير مباشر. ومن أمثلة ذلك أن نتصور المرحوم ياسر عرفات يحضر مسرحية بعنوان “فلسطين في تل أبيب” وما وقع كالتالي:
(5) صُعِق ياسر عرفات حين رأى نفسه يغني معانقا شارون
فالذي يغني معانقا شارون، هو الممثل الذي يمثل شخصية عرفات، ومن ثمة فتأويل نفسه يستلزم تحويل إحالة. والحال، أننا لا يمكن أن نقول إن ما وقع هو (6):
)6) (على الخشبة) صُعِق ياسر عرفات حين رأى نفسه يقف ويخرج غاضبا
أي أن الضمير المنعكس المحيل على الشخصية الممثلة (في المسرحية) يمكنه أن يعود على الفرد الواقعي، إلا أن العكس غير صحيح. وبما أن استعمال الضمائر المنعكسة مركزي في النحو، فإن تحويل الإحالة لا يمكن اعتباره ظاهرة خارج النحو[11].
ومن الأمثلة أيضا مثال “التأليف المغنى” المرتبط بحالات لا يكون فيها لبعض أجزاء المحتوى الدلالي ما يوافقها بتاتا في البنية التركيبية والصواتية. ومثال ذلك الجملة (7) التي تفيد التكرار رغم خلوها من أي صرفية أو وحدة معجمية ظاهرة تعني ذلك:
(7) سعل زيد حتى {نهاية الرحلة، الصباح}
ف سعل زيد تعني أساسا: سعل مرة واحدة، أي أنها تعبر عن حدث محدود ذاتيا يعني أن السعال وقع ثم انتهى معلنا عن نهاية الحدث. كما أن حتى متلوة بهدف فضائي أو زمني، لا تفيد تكرار النوم مثلا في (8):
(8) نام زيد حتى {نهاية الرحلة، الصباح}
لذلك يجب البحث عن تأويل التكرار في (7) ليس في وحدة معجمية وإنما في تفاعل المحتويات الدلالية داخل الجملة، أي على مستوى التأليف الدلالي المشترك. إن حتى تضع، من حيث دلالتها، حدا زمنيا (أو فضائيا) لسيرورة غير محدودة زمنيا. فـ نام زيد في (8) تعبر عن سيرورة تتصور باعتبارها غير محدودة، لذلك يمكن أن تحدها حتى معلنة عن نهايتها.
لكن سعل زيد تعبر، كما سبق، عن حدث محدود ذاتيا، فلا يمكن إخضاعه لحد ثان خارجي تفرضه حتى. لذلك، فإن (7) تؤول على متوالية من السعال تشكل سيرورة يمكن أن تحدها حتى؛ أي أننا بصدد إسقاط الحدث “النواة” على متوالية تكرره عددا نونيا من المرات. وهو تكرار يمكن أن يمتد إلى ما لا نهاية فيسوغ حده بعبارة مثل حتى[12].
ومن أمثلة الربط الوجاهي الجزئي بين الدلالة والصواتة العلاقة التي يقيمها الوجاه الصواتي-الدلالي بين النبر والتنغيم في النسق الصواتي والبؤرة في بنية المعلومة في النسق الدلالي بخصوص الجملة (1) سابقا. وهو مظهر لا علاقة له هنا بالتركيب.
- 2 هندسة التوازي وبنية الذهن/الدماغ
يتبين مما سبق أن هندسة النحو المتوازية في نظرية الدلالة التصورية تقوم على ثلاثة مكونات توليدية من قواعد التكوين الصواتية والتركيبية والدلالية، يحدد كل مكون منها نمطه الخاص من البنيات التي المترابطة والمتفاعلة في ما بينها عبر مكونات وجاهية.
فتخصص سلامة تكوين الجملة، في هذا الإطار، بسلامة تكوين بنياتها الثلاث الصواتية والتركيبية والدلالية، بكيفية مستقلة، وبسلامة التوافق بينها عبر الوجاهات. ومن القواعد الوجاهية الأولية بين الصواتة والتركيب أن الترتيب الخطي للوحدات في الصواتة يوافق الترتيب الخطي للوحدات الموافقة في التركيب.
ومن القواعد الوجاهية الأولية بين التركيب والدلالة أن الرأس التركيبي (سواء أكان فعلا أم اسما أم صفة أم حرفا) يوافق دالة دلالية، وأن موضوعات الرأس التركيبية (كالفاعل والمفعول) توافق موضوعات الدالة الدلالية. وما ينتج عن هذين المبدأين الوجاهيين الأوليين، أن التركيب يملك، إلى حد كبير، ترتيب الصواتة الخطي، لكنه يملك البنية الإدماجية للدلالة.
تمكن هذه الهندسة النحوية، أولا، من ربط بساطة التصميم النحوي بالكفاية التجريبية. فإذا كانت هندسة التوازي تمكن، مثلا، من رصد أفضل للمحيط النغمي أو لعلاقة البؤرة بالنبر، فإن ذلك يحسب لصالحها. كما تمكن من ربط علاقة التركيب بالدلالة بميزان القوى بين مكونات النحو. والنتيجة ألا نجد أنفسنا دائما، كما هو الأمر في نظرية المركزية التركيبية، أمام السؤال: ماذا يجب أن نضيف إلى التركيب حتى نتمكن من رصد هذه الظاهرة أو تلك؟ بل يصبح السؤال: إلى أي مكون تنتمي الظاهرة؟ إلى التركيب أم الدلالة أم الوجاهات؟
وتمكن هندسة التوازي، ثانيا، من إعادة دمج نظرية القدرة اللغوية، أو اللسانيات بكيفية شاملة، في بيئة الذهن/الدماغ المعرفية إلى جانب العلوم المعرفية والعصبية الأخرى، كما كان هذا مطلب اللسانيات التوليدية منذ الستينيات ومثلنا له بما عبر عنه شومسكي (1965) في النص الذي أوردناه في الفقرة 1. ذلك أن النظر إلى نظرية البنية اللغوية في علاقتها بنظرية الذهن/الدماغ وإقامة ربط طبيعي بين النظريتين أضحى اليوم من معايير التقويم ومستلزماته التي تساعد على ترجيح نظرية على أخرى.
وتسمح نظرية التوازي، كما سبق، وخلافا لنموذج المركزية التركيبية، بدمج فعلي للسانيات في العلوم العصبية المعرفية الأخرى، نظرا إلى التوافق القائم بين الهندسة اللغوية التي تفترضها هذه النظرية وهندسة الذهن/الدماغ العامة التي تتصف بها باقي الأنساق المعرفية والإدراكية، إذ تقوم هذه الأخيرة كذلك على أنساق تأليفية متوازية مستقلة تربط بينها مبادئ وجاهية تقيم تشاكلات جزئية.
ونمثل لذلك بمثالين يهمان الكيفية التي ترتبط بها البنية اللغوية بباقي الذهن/الدماغ، هما العلاقة بين الصواتة والنسق السمعي لإدراك الكلام والنسق الحركي لإنتاجه، والعلاقة بين النسق البصري والدلالة.
- 1.2 الصواتة ونسقا إدراك الكلام وإنتاجه
عند الربط بين تحليل التردد في الإشارة الكلامية والبنية الصواتية للقول، نجد أن بعض مظاهر الإشارة الكلامية لا تلعب أي دور في البنية الصواتية ويجب أن تحلل خارجها. وذلك كالطابع الفردي لصوت المتكلم، ونبرته الشخصية، ودرجة تدفق الكلام عنده، الخ. فمثل هذه المظاهر في الإشارة الكلامية تستعمل لأغراض معرفية أخرى، ولكن ليس لأغراض الكلام. ومن ثمة نرى أن الربط بين النسق السمعي والصواتي يتسم بنفس السمات العامة التي تتسم بها الوجاهات داخل اللغة، أي إقامة توافقات جزئية بين مظاهر بنيات ذهنية منفصلة.
وتصدق نفس الملاحظات في حالة إنتاج الكلام. فمظاهر البنية الصواتية لا توافق كلها مظاهر التحكم الحركي عند تشغيل القناة الصوتية. من ذلك أن حدود الكلمات لا توافق تماما الوقفات عند إنتاج الكلام. كما أن مظاهر التحكم الحركي لا تراقبها كلَّها البنية الصواتية، إذ يمكن للمتكلم أن يتكلم ويبين وغليونه في فمه، فلا يغير تأثر التحكم الحركي بذلك من البنية الصواتية شيئا. زد على هذا أن نفس عضلات القناة الصوتية تستخدم للمضغ والاحتساء وما شابه ذلك. فيتضح أن نفس المبادئ الوجاهية تنطبق في مثل هذه الحالة أيضا.
- 2.2 النسق البصري والدلالة
تقدم العلوم العصبية المتعلقة بالنسق البصري نفس الصورة الهندسية. فهناك عدد من المناطق الدماغية المستقلة، كل واحدة تختص بمظهر بصري معين، كالحجم والحركة واللون والعلاقات الفضائية، وتتفاعل في ما بينها عبر وجاهات محددة؛ ولا توجد منطقة يتشكل فيها دفعة واحدة التمثيل التام للحقل البصري.
وهذا يوافق هندسة التوازي في اللغة حيث تتوزع “الجملة” أو “المركب” بين عدد من البنيات تتواصل في ما بينها عن طريق مكونات وجاهية. ومقارنة بهذا، لا نجد ما يشبه هندسة المركزية التركيبية في بقية الذهن. فليس “للنسق الحاسوبي” (في برنامج الحد الأدنى القائم على المركزية التركيبية)[13] الذي يولد البنيات التركيبية ويحدد البنيات الصواتية والدلالية، أيُّ نسق يوازيه في الذهن/الدماغ.
وحتى يمكن لنسق دلالي معين أن يتأثر بالإدراك، يجب أن يكون هناك وجاه يربط بين البنية التصورية/الدلالية والأنساق الإدراكية، حيث “العالم” (أي البناء التصوري الذي يملكه المدرك عن العالم الفيزيائي) منظم في صورة أشياء ثلاثية الأبعاد تملأ الفضاء.
ويملك هذا الوجاه البصري- التصوري الذي يمكننا من أن نتحدث عما نراه، نفس الخصائص المشار إليه سابقا، أي أنه تشاكل جزئي بين بنيات شبه جبرية (algebraic) ترمز المعاني اللغوية، وبنيات شبه هندسية/موضعية ((topological ترمز المعرفة الفضائية[14]، فلا يرى، مثلا، خصائص البنية الدلالية كأحياز الأسوار والقوة الإنجازية وخصائص التأليف الدالّي، بخلاف خصائص الأشياء وحركتها وتفاعلها الفضائي. ومثال ذلك أن كثيرا من المعلومات المتعلقة بخصائص الأشياء أو الأحداث التي تدرجها الأدبيات الدلالية في التمثيل الدلالي عن طريق السمات التعريفية، تنتمي في الواقع إلى هذا الوجاه. إن تخصيص مدخلي كلمتين مثل: بطة وإوزة يتضمن سمات مثل: [حي]، [طائر].
لكن فهمهما يقتضي كذلك معلومات عن الفروق بين مظهريهما. فيبدو رصد هذه المعلومات عن طريق سمات دلالية لغوية مثل: [ ± عنق طويل] مشكلا بل عبثيا. وكذلك الأمر في سمة مثل [± ذو متكأ] للفرق بين مظهر الكرسي ومظهر المقعد المستدير. فسمات كهذه بعيدة عن أن تكون أوليات، كما أن إخضاعها لمزيد من التفكيك يبدو غير مضمون الجدوى.
ويسمح إطار هندسة التوازي برد المشكل الذي يعترض التعامل مع مثل هذه السمات إلى ارتباط الخصائص المظهرية للأشياء بمعلومات بصرية أساسا، أي بنسق إدراكي غير لغوي يوفر صورة للتمثيل البصري ترمز الخصائص الهندسية والموضعية للأشياء ويمكن الذات من تعيينها ومقوَلتها. فتكون المسألة مرتبطة، كما سبق، بالوجاه البصري-الدلالي اللغوي الذي يسمح بترجمة المعلومات البصرية إلى صور لغوية ويمكننا من الكلام عما نراه[15].
- خاتمة
حاولنا في الفقرات السابقة تفحص الدواعي التي فرضت تجاوز موقف المركزية التركيبية في اللسانيات التوليدية وبلورة موقف هندسة التوازي؛ واستدللنا على ورود هذا الموقف الأخير بحجج تجريبية تتعلق بطبيعة الأوليات والمبادئ اللغوية الخاصة التي تميز كل مكون من المكونات الثلاثة المتوازية التركيبية والصواتية والدلالية، والتي لا يمكن أن يكون بعضها مشتقا من البعض الآخر كما تفترض نظرية المركزية التركيبية القائلة باشتقاقية المبادئ التأليفية الصواتية والدلالية من التركيب.
واستدللنا كذلك على ورود نظرية هندسة التوازي بحجج نظرية تهم على الخصوص توافق هذه الهندسة مع الهندسة التي تطبع الأنساق المعرفية والإدراكية الأخرى؛ وهي نتيجة تسمح لهندسة التوازي النحوي بالاندماج الطبيعي في بيئة الذهن/الدماغ المعرفية الواسعة.
- الهوامش والإحالات:
-[1] انظر تفاصيل نظرية الدلالة التصورية في جاكندوف (1983) و(1987) و(1990) و(2002)؛ وانظر غاليم (1999) و(2007).
-[2] انظر بنكر وجاكندوف (2005)؛ وانظر الفصل الرابع في غاليم (2007).
[3] انظر جاكندوف (قيد النشر).
-[4] أنظر كوليكوفر وجاكندوف (2005)؛ وجاكندوف (2007أ)، ص. 6.
-[5] انظر الفصل الأول في غاليم (2007).
[6] -انظر شومسكي (1965)، ص. 207 من الهوامش.
[7]-انظر جاكندوف (2007ب)، صص. 33-36 .
[8]- نفسه، صص.38-43. وانظر الفصل الأول في غاليم (2007).
[9]- انظر جاكندوف (2002)، صص. 123-124.
[10]- انظر التفاصيل في جاكندوف (2002)، الفصل 12 على الخصوص.
[11]- انظر جاكندوف (2007ب)، صص.44-46.
[12]- انظر جاكندوف (2002)، ص. 388. وانظر غاليم (2007)، صص. 129-130.
[13]- انظر مثلا شومسكي (1995) و(2005). وانظر دراسة مفصلة لبعض جوانب تركيب اللغة العربية في إطار برنامج الحد الأدنى في الرحالي (2003).
[14]- انظر جاكندوف (2007ب)، صص. 64-66.
[15]- انظر جاكندوف (1992)، صص. 43-45، وغاليم (2007)، صص. 120-121.
مراجع:
غاليم، محمد، 1999، المعنى والتوافق، مبادئ لتأصيل البحث الدلالي العربي، منشورات معهد الدراسات والأبحاث للتعريب بالرباط.
غاليم، محمد، 2007، النظرية اللسانية والدلالة العربية المقارنة، مبادئ وتحاليل جديدة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء.
الرحالي، محمد، 2003، تركيب اللغة العربية، مقاربة جديدة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء.
Bierwisch, M. 1967, Some Semantic Universals of German Adjectivals, Foundations of
Language3.
Bierwisch, M. 1969, On Certain Problems of Semantic Representation, Foundations of
Language5.
Chomsky, N. 1965, Aspects of the Theory of Syntax, Cambridge, Mass.: MIT Press.
Chomsky, N. 1995, The Minimalist Program, Cambridge, Mass.: MIT Press.
Chomsky, N. 2005, Three Factors in Language Design, Linguistic Inquiry, V.36, N.1.
Culicover, P. W. and Jackendoff, R. 2005, Simpler Syntax, Oxford University Press.
Fauconnier, G. 1984, Espaces mentaux, Minuit.
Goldsmith, John, 1979, Autosegmental Phonology, New York: Garland Press.
Hauser, M., Chomsky, N. and Fitch, T. 2002, The Faculty of Language: What is it, who has it,
And how did it evolve? Science 298.
Jackendoff, R. 1983, Semantics and Cognition, MIT Press.
Jackendoff, R. 1987, Consciousness and the Computational Mind, MIT Press.
Jackendoff, R.: 1990, Semantic Structures, MIT Press.
Jackendoff, R. 1992, Languages of the Mind, MIT Press.
Jackendoff, R. 2002, Foundations of Language, Brain, Meaning, Grammar, Evolution, Oxford University Press.
Jackendoff, R. 2007a, A Whole Lot of Challenges for Linguistics,
ase.tufts.edu/cogstud/incbios/RayJackendoff/georgia.
Jackendoff, R. 2007b, Language, Consciousness, Culture, Essays on Mental Structure, MIT Press.
Jackendoff, R Forthcoming. The role of Linguistics in cognitive science: The state of the art, The Linguistic Review.
Katz, J. and Fodor, J. A. 1963, The Structure of a Semantic Theory, Language 39.
Katz, J. and Postal, P. 1964, Théorie globale des descriptions linguistiques, traduction française de Pollock, J.Y., Mame 1973.
Lakoff, George 1987, Women, Fire and Dangerous Things, University of Chicago Press.
Langacker, R. 1987, Foundations of Cognitive Grammar, vol. i, Stanford University Press.
Liberman, M. and Prince, A. 1977, On Stress and Linguistic Rhythm, Linguistic Inquiry 8.
Nunberg, Geoffrey, 1979, The Non-Uniqueness of Semantic Solutions: Polysemy, Linguistics and Philosophy 3.
Partee, B. (ed.) 1976, Montague Grammar, New York: Academic Press.
Pinker, S. 1989, Learnability and Cognition: The Acquisition of Argument Structure, MIT Press.
Pinker, S. and Jackendoff, R. 2005, The faculty of language: What’s special about it? Cognition 95.
Pustejovsky, J. 1995, The Generative Lexicon, MIT Press.
Talmy, L. 2000, Toward a Cognitive Semantics, MIT Press.
Weinreich, U. 1966, Explorations in Semantic Theory, in: Steinberg, D. and Jakobovits, L. (eds.), Semantics: An Interdisciplinary Reader in Philosophy, Linguistics and Psychology, Cambridge University Press.