اللسانيات في الثقافة العربية وإشكالات التلقي
اللسانيات علم انبثق عن الحوض المعرفي الغربي، وفيه تهيأت لـه كل شروط الإمكان والتحقق ليغدو معرفة طيعة وآلة ذلولا آتت إخصابها في مجالات معرفية شتى . وقد كان من نتائج ذلك أن اللسانيات عرفت طريقها إلى ثقافات إنسانية متباينة، فكان للثقافة العربية حظها من هذا العلم الوافد.
غير أن المتتبع لخريطة البحث اللساني في المجال التداولي العربي، يجد أن اللسانيات العربية مازالت لم تبلغ مستوى نظيرتها في الغرب؛ وذلك على الرغم من مرور ردح من الزمن على تعرف ثقافتنا على اللسانيات، و على الرغم أيضا من وجود أبحاث لسانية عربية لا تقل شأوا ومنزلة عن مستوى نظيرتها في الغرب .
إن أسباب الواقع الراهن للسانيات العربية يصعب الإلمام بكل جوانبه في مثل هذا المقال لذلك سنركز بشكل خاص على أهم الإشكاليات التي تطرحها الكتابة اللسانية التمهيدية.
يتشكل موضوع الكتابة اللسانية التمهيدية أو التبسيطية مما تقدمه النظريات اللسانية الحديثة من مبادئ ومناهج جديدة في دراسة اللغة البشرية بصفة عامة. وتعتمد هذه الكتابة المنهج التعليمي القائم على التوضيح والتبيان والشرح وما يتطلبه كل ذلك من وسائل مساعدة كالأمثلة والرسوم البيانية. وتروم هذه الكتابة تقديم اللسانيات ومفاهيمها النظرية والمنهجية بشكل مبسط قصد تيسير المعرفة اللسانية للقارئ العربي سواء كان يلج عالم التخصص أو قارئا ينشد التسلح باللسانيات للاستفادة منها في مجالات فكرية أخرى من فكر عربي أو نقد أدبي أو تاريخ أو ما شابه ذلك
من خلال التعريف السابق، يتضح أن موضوع الكتابة اللسانية التمهيدية هو النظريات اللسانية: مبادؤها ، ومناهجها، واتجاهاتها وأعلامها. أما غايتها فهي تبسيط المعرفة اللسانية للقارئ المبتدئ . فهل نجحت الكتابة اللسانية التمهيدية في بلوغ هذا المسعى؟
تشكل الغاية التعليمية الهدف الذي يروم تحقيقه هذا الصنف من اللسانيات، لهذا من المفروض أن يكون كل مؤلف من المؤلفات اللسانية التمهيدية بنية خطابية متكاملة علميا و منهجيا، بدءا بعنوان الكتاب ، مرورا بمقدمته ، و عناوين أقسامه ، و أبوابه ، و فصوله ، وصولا إلى خاتمته.
و سنحاول بتتبعنا لبعض المؤلفات اللسانية التمهيدية أن نكشف عن إشاراتها الخارجية و الداخلية ، و ما تحمله من وظائف دلالية و تداولية معتمدين ، في ذلك ، منطلقا في التحليل يركز على العتبات (seuils) أساسا قد يسعفنا في إرساء قواعد جديدة للكشف عن تجليات التلقي . و سنركز، بشكل خاص ، على العناوين والخطاب المقدماتي .
- قراءة في عتبات الكتابة اللسانية التمهيدية :
لقد أولت المناهج الحديثة و المعاصرة ، في نظريات القراءة، و سيميائيات النص، و جماليات التلقي، أهمية كبيرة لعنوان النص و مقدمته، و اعتبرتهما مكونين أساسين، و دالين ؛ فقد جعلهما جيرار جينيت (Gérard Génétte) من النصوص الموازية Paratextes الدالة التي ترافق النصوص الرئيسة والتي لا يمكن الاستغناء أو التغاضي عنها .
وتكمن أهمية هذين المكونين ( العنوان و المقدمة) في كونهما أول المؤشرات التي تدخل في حوار مع المتلقي ، فتثير فيه نوعا من الإغراء، و الفضول العلمي و المعرفي، و إليهما توكل مهمة نجاح الكتاب في إثارة استجابة القارئ بالإقبال عليه و تداوله ، أو النفور منه و استهجانه.
- عناوين الكتب :
تنبثق أهمية العنوان ، بشكل عام ، من كونه مكونا نصيا لا يقل أهمية عن المكونات النصية الأخرى، فالعنوان يشكل سلطة النص وواجهته الإعلامية، و هذه السلطة تمارس على المتلقي » إكراها أدبيا ، كما أنه [ أي العنوان ] الجزء الدال من النص، و هذا ما يؤهــله » للكشف عن طبيعة النص و المساهمة في فك غموضه« بـــل يعين مجموع النص و يظهر معناه،
و هذا يعني أن العنوان هو مرآة النسيج النصي، وهو الدافع للقراءة، وهو الشرك الذي ينصب لاقتناص المتلقي، و من ثمة فإن الأهمية التي يحظى بها العنوان نابعة من اعتباره مفتاحا في التعامل مع النص في بعديه الدلالي و الرمزي، بحيث لا يمكن لأي قارئ أن يلج عوالم النص أو الكتاب، و تفكيك بنياته التركيبية و الدلالية ، و استكشاف مدلولاته و مقاصدها التداولية، دون امتلاك المفتاح ، أعني العنوان .
العنوان إذن هو الثريا التي تضيء فضاء النص، و تساعد على استكشاف أغواره، فيكون العنوان بكل ذلك ضرورة كتابية تساعد على اقتحام عوالم النص؛ لأن المتلقي » يدخل إلى ” العمل ” من بوابة ” العنوان ” متأولا لــه، و موظفا خلفيته المعرفية في استنطاق دواله الفقيرة عددا و قواعد تركيب و سياقا، و كثيرا ما كانت دلالية العمل هي ناتج تأويل عنوانه، أو يمكن اعتبارها كذلك دون إطلاق« كما يأخذ العنوان أهميته من كونه علامة كاملة تحمل دالا و مدلولا.
- بنية العناوين التركيبية :
لا تخضع العناوين لبنية تركيبية متماثلة إلا في حالات نادرة ، و تتوزع بين الطول و القصر و التوسط ، و تتألف من كلمة واحدة أو كلمتين أو أكثر، و قد تكون عنوانا رئيسا فقط، و قد تجمع بين عنوان رئيس و عنوان فرع، و قد تكون غير هذا . و يقسم جنيت (Génétte) العــنوان إلـى : » 1. العنوان (الأساس أو الرئيس) ، 2.العنوان الفرعي3. التعيين الجنسي.
هذه هي أهم خصوصيات العنوان كما تحددها الدراسات النقدية الحديثة و المعاصرة، وهي المعطيات التي سنعتمدها منطلقا في تحليلنا للكتابة اللسانية التمهيدية.
بتتبعنا لبعض مؤلفات الكتابة اللسانية التمهيدية، نلاحظ أنها تركز على الغاية التعليمية باعتبارها هدفا أسمى، و هذا ما تنطق به عناوينها و تعبر عنه بشكل صريح ،
- وظائف العناوين :
العناوين منطلقات ضرورية للقراءة بالنظر إلى الوظائف التي تؤديها ، و التي يحددها جيرار جينيت في » أربعة وظائف هي :الإغراء – الإيحاء – الوصف – التعيين. غير أننا نجد من الباحثين من يذهب أبعد من ذلك ، حيث يتم الربط بين الوظائف التي يؤديها العنوان ووظائف اللغة كما يحددها ياكوبسون ، فيعطي العنوان بذلك وظائف أخرى هـي : » الوظيفة المرجعية (المركزة على الموضوع ) و الوظيفة الندائية ( المركزة على المرسل إليه )، و الوظيفة الشعرية ( المركزة على الرسالة) ؛ ”
وقد تتسع هذه الوظائف لدى هنري ميتران (Henri Mitterand) لتشمل “الوظيفة التعيينية ، و الوظيفة التحريضية (حث فضول المرسل إليه و مناداته)، و الوظيفة الإيديولوجية ” ” و هذه جميعها تسور العنوان بسلطة تروم إخضاع المرسل إليه.
بهذا يكون العنوان هو البنية الرحمية لكل نص ، و تشكل هذه البنية سلطته وواجهته الإعلامية ، فتمارس على المتلقي إكراها أدبيا يسهم بشكل أو بآخر في توجيه عملية القراءة . فكيف تحضر الوظائف السابقة في الكتابة اللسانية التمهيدية؟ و كيف تساهم في توجيه القراءة و التلقي ؟
- الوظيفة التواصلية :
إن الهدف من الوظيفة التواصلية هو تبئير انتباه المتلقي و ربط نوع من التواصل بينه و بين الكتاب، إضافة إلى خلق نوع من التقارب بينهما ، لتحريض المتلقي على القراءة و التلقي، و محاولة تقليص المسافة بينه و بين الكتاب، و هي وظيفة تؤديها عناوين الكتابة اللسانية التمهيدية بدون استثناء .
- الوظيفة الانفعالية / التأثيرية/ الإغرائية :
إن متلقي الكتابة اللسانية التمهيدية قارئ مبتدئ غايته التعرف على مبادئ اللسانيات باعتبارها علما جديدا، لذلك يتوجب على من يؤلف في هذا اللون من الكتابة أن يختار ما يراه مناسبا لجلب القارئ، و إثارة انتباهه،و إغرائه بعبارات محبوكة توحي بالتبسيط و التسهيل، و تروم الانتفاع ؛ لخلق نوع من التفاعل و الانسجام بين النص و القارئ. و تؤدي عناوين الكتابة اللسانية التمهيدية هذه الوظيفة بدرجات مختلفة و متفاوتة، كما يتم التركيز على كلمة مفتاح تشكل بؤرة العنوان وهدف الكتاب الأسمى،
- الوظيفة الأدلوجية:
وهي ذات حضور لافت في كل المؤلفات التي تسعى إلى التعريف باللسانيات، و التي تضع نصب أعينها هدفا معينا، سواء عبر عن ذلك صاحب الكتاب تصريحا أو تلويحا، و هذا ما تومئ إليه عناوين هذه الكتابة . و يأتي في طليعة تلك الأهداف التعريف باللسانيات باعتبارها علما قائم الذات، و يتخذ التعريف شكل تحديد شامل لأهم مقاصد اللسانيات، أو لأحد قطاعاتها، و الهدف هو جعل القارئ ينخرط في دائرة البحث اللساني ، و من ثمة فخلفية الكاتب و نواياه المبيتة عادة ما تفسر بهذه الوظيفة الأدلوجية .
الدكتور؛ حافيظ إسماعيلي علوي
السلام عليكم ورحمة الله
شكرًا سعادة الأستاذ. الدكتور على ما قدمته، وددت أن أحصل على الايميل الخاص به وشكرا