الدراسات اللغويةرقمنة ومعلوميات
أخر الأخبار

الوسائط التواصلية من الشفاهي إلى الرقمي

الإنسان كائنٌ تواصليٌّ بامتياز، فهو دائمُ السَّعي والبحثِ عن وسائلَ وطُرُقٍ وآلياتٍ جديدةٍ وفعّالةٍ لتحقيقِ رغبتِه الجامحة واللاّمحدودة في الاتصال والتواصل، ليس فقط مع بني جِلدتِه من البَشَر، بمن فيهم الأقوام والأمم الغابرة التي استطاعَ فكَّ كثيرٍ من رُموزِها اللغويَّة وفَهْمَ جانبٍ مهمٍ من أسرارِها الحياتيَّة.


بل امتدَّ هذا الجموحُ إلى محاولة جادَّةٍ للتواصل مع الكائنات الأخرى التي تعيشُ معه على الأرض، وفَهْمِ مَنطِقها وفكّ شِفرتِها اللغوية. وهو يسعى منذُ عقودٍ إلى بثّ رَسائل وموجاتٍ تواصلية عبر الفضاء الخالي، بحثا عن أقوامٍ أو أُمَمٍ أو مخلوقاتٍ أخرى، تستوطن مَجرَّتَنا؛ ولا نَعلَمُ عنها شيئا.


في البدء كان الكلام، سَنُقِّرُّ هذه الحقيقةَ ونَبْنِي عليها طَرحنا. ونُنَحِّيَ النظريات التي تقول؛ إن اللغة الشفاهية “خاصيَّةٌ تَطَوَّرتْ عند الإنسان البدائي عبر آلاف أو ملايين السنين. عندما بدأتْ بَوادر التَّحَضُّر تظهر عليه، والـمُتمثلة في إنتاج الطَّعام بدل البحث عنه؛ وتخزينِه، وصُنعِ الأدوات؛ وتنظيم القبيلة؛ وبناءِ المساكن. أما وسيلتُه التواصلية البدائية؛ فكانت الحركات والإشارات والرَّسم أو النحت على الصخور”.


  • المُشافهة / الشفاهي:

الـمُشافهة أو الكلام أو اللِّسان أو القَوْل (الصوت)؛ كانت الوسيلة الأولى والوحيدة التي كان يتواصل بها الإنسان، ليس فقط في الأمور الحياتية، وإنما في الأدب والعلوم والثقافة والفن كذلك. فعند العرب (مثلا) كانت الفصاحة أو البلاغة الشفاهية؛ هي ذروة التواصل، فكان الشعر شفاهةً؛ والخُطَبُ شفاهةً؛ والسَّرد شفاهة، حتى تفاخرت القبائل على بعضِها في الفصاحة والبيان. فكان التواصل والاتصال شفاهيا صِرفا. واعتُبِرتْ الكتابة في العصر الجاهلي عُملة نادرة، بل وَسُبَّةً ومَذَمَّةً ونقصا.


وتَذْكُرُ بعض مصادر اللُّغة؛ أن بعض العرب كانوا يتعلمون الخط (الكتابة) على الرِّمال تحت ضوءِ القمر ليلاً، كي لا يراهم أحدٌ؛ ثمَّ يطمسونَه (الخط) قبل أن ينصرفوا، حتى لا يبدو للناس عندما تُشرِق.


واستمرّ الأمر على هذا النحو إلى مجيء الإسلام واستدعاءِ محمد صلى الله عليه وسلم بَعْضَ الصحابة لكتابة الوحي، ثم كِتابة مراسلات الرسول إلى زعماء العالَم (الروم – الفرس)، ثم جاءَ عَصرُ التدوين (أواخر القرن الأول الهجري). حيث فرضتْ مجموعُ الظروف التي أعقبتْ الرسالة المحمدية (اتساع الدولة الإسلامية – اختلاط الألسن) تدوينَ الحديثِ وجمعَ القرآنِ وحِفظَ الأنساب والسِّيَر.

– الشفاهيّ رغم أهميتِه وفاعليتِه إلا أنه يتسم بالهشاشة.  

ظلت الكِتابة (المخطوط) محدودَة الإنتاجِ والانتشار؛ وبطيئةَ التأثيرِ والتَّأَثُّر بسببِ صعوبةِ النَّسخِ والتَّوضِيبِ والتجليدِ.

  • الكتابة:

انتعشتِ الكتابة بشكلٍ لافتٍ في أواخرِ القرن الأول الهجري؛ مع محاولاتِ أبي الأسود الدؤلي جمع اللغة العربية وتقعيدِها، وظهورِ المدارس النحوية في البصرة والكوفة وبغداد. استمرّت الكتابة موازاةً مع  الشفاهي في توسيع خيارات التواصل والاتصال بين العرب والمسلمين وبين العرب والأمم الأخرى، حيث عرفت المرحلة العباسية أوجَ ازدهار الكتابة، حيث انفتحت الحضارة الإسلامية على اليُونانِ والفُرس.


وتُرجمتْ كُتبُ الفلسفة وعِلم المنطق إلى العربية، ودخل عِلم الكلام؛ وأُنشئتْ المكتبات وأندية الفكر ودُورِ النَّسخ والتجليد، وازدهرت تجارة الكتب إلى أن بلغتْ أوجَها في عهد الخليفة المأمون؛ الذي كان يُكافئُ على كُلِّ كتابٍ يؤلَّف بوزنِهِ ذهباً. واستمر الأمر على هذا النحو بين طفرة وركود، وصعودٍ وانحطاطٍ، وظلت الكتابة رديفا للمشافهة في الاتصال والتواصل إلى حدود سنة 1900م.


مراحل تطور الكتابة

  • النقش والرسم على الصخور وجدران الكهوف
  • الخط على الرمال
  • استعمال الحبر
  • اختراع الطباعة
  • اختراع القلم السائل
  • اختراع الآلة الكاتبة
  • اختراع القلم الجاف
  • اختراع آلة الرقن (لوحة المفاتيح)
  • اختراع اللوحة الإلكتروني

  • الطباعة

مع مطلع القرن التاسع عشر، تَمَّ اختراع آلة الطباعة، ومع هذا الاختراع؛ انتشرت الكتب بشكل غير مسبوق، ورَخُصَ ثمنُها، وانتعشتْ الترجمات والتأليف بشكل عام، ونشطت ْتجارة الورق، وظهرتْ الصحف والجرائد والمجلات والقصص والروايات والمسرحيات المكتوبة.

وكانت سمة هذه المرحلة هي غزارة الإنتاج وسرعة التفاعل. لقد تعزَّر التواصل البشري أكثر بفعل الطباعة في القرن 20، حيث احتلت الكتابة الصدارة في التواصل والاتصال بين الفئات المثقفة، وتعزز هذا التواصل أكثر بين الشعوب والأمم الأخرى، بفعل حركة الترجمة التي أصبحت نشطة وأكثرَ فاعلية وأكثرَ غزارة أيضا.

أتاحت المطبعة غزارةً في الإنتاجِ وسرعةً في التَّفاعل.

  • الوسائط الجماهيرية

في منتصف القرن الـ20 (1950م)؛ ظهرتْ الوسائط الجماهيرية، حيث تم اختراعُ مُكبر الصوت والمذياع وآلة التصوير والتلفاز والتيليغراف والسينما، فتعزّزتْ بذلك وسائل التواصل بأدوات ووسائل جديدة، فأضيفت الصورة والصوت المسجَّل إلى الكتابة.

لقد لعبتْ هذه المخترعات دورا كبيرا جدا في تمتين عملية الاتصال والتواصل بين قارات العالم، واختزلت الزَّمن والمكان على موجات الإذاعة وخطوط التيليغراف؛ أو في صورة شمسية ثابتة؛ أو على شاشة التلفاز وشاشات السينما؛ حيث تمت المزواجة بين الصوت والصورة والحركة.

أتاحت الوسائط الجماهيرية تسجيل الصوت وحِفظِه، ونَسْخِ الصورة. وساعدَ اختراعُ التلفاز في تحرير الصورة ومزجِها بالصوت والحركة.

الاتصال والتواصل في مرحلة الكتابة والوسائط الجماهيرية ظلَّ ذو بُعدٍ واحد وهو البعد الخَطّيّ:

مِن المرسل ــــــــــــــــــــــــــــــ>  إلى ـــــــــــــــــــــــ> المتلقي

  • الرِّقـــــامة

في حدود سنة 1985م تم اختراع أول حاسوب  شخصي (حاسوب بالمواصفات المعروفة)، وقد مهد هذا الاختراع الجبّار لتوالي الابتكارات في المجال الرقمي حيث تطور الهاتف وأصبح نحيفا وقابلا للحمل، ويمزج بين الصوت والصورة والحركة.

كما يُتيح خدمات متعددة كالتي يُتيحها الحاسوب وأكثر. كما ظهرت لوحات اللمس الإلكترونية، موازاة مع ذلك تطورت الأجهزة الأخرى التي تساعد على تشغيل الحواسب أو التي تستعمل في تخزين المعلومات فقد عوَّضت الشريحة الدقيقة ذات السعة الكبيرة جدا، عوَّضت الأقراص العادية والأقراص المدمجة، كما حصلت ثورة كبيرة جدا في تقليص أحجام هذه الأجهزة خصوصا بعد اكتشاف مادة السيليكون.

الاتصال والتواصل في مرحلة الوسائط الرقمية أصبح ذو أبعاد متعدِّدة:

المرسل  <ــــــــــــــــــــــــ وسائط متفاعلة ـــــــــــــــــــــــــــــــ>  المتلقي

لقد أحدثت هذه الأجهزة الرقمية ثورة هائلة في مجال الاتصال والتواصل، وجعلت من كوكب الأرض غرفة صغيرة، يمكن معاينتها من خلال شاشة هاتف ذكي، ودون أن تحتاج إلى تنقّل. كما أن تجميع البيانات والمعلومات والتحكم بها وبمصادرِها صار اليوم يتم بضغطة زر. فشريحة صغيرة لا يكاد حجمُها يُعادل عقلة الأصبع، يمكنها تخزين مكتبات كاملةٍ بما حوَتْ.

لقد كان هذا الأمر في القرون القليلة الماضية ضربا من المستحيل؛ بل لا يكاد يتقبَّل عقل. فالمعتمد بن عباد الذي كان مولعا بقراءة الكتب، وكان ينقل معها مكتبتَه العامرة في حلِّه وترحالِه، ويكفي أن نستحضر حجم الكتب في تلك الأيام ووسائل النقل التي كانت متوفّرة  ليتبين لنا الفرق؛ لقد كانت قوافل كبيرة، يقوم عليها رجال أشداء كُثُرٌ.

ظل التواصل والاتصال قائمين منذ ظهور البشرية ولا يزال الهاجس الأكبر الذي يؤرق الإنسان ويحثُّه على بَذْلِ مزيد من الجهد في مجال تطوير وسائل الاتصال والتواصل، ليس بين بني البشر فحسب وإنما مع الكائنات الفضائيات الأخرى التي يرجع كثير من العلماء احتمال وجودِها في مجرات تبعد عنا آلاف السنوات الضوئية.

وقد باشر الإنسان هذا المشروع فعلا سنة 1977م عندما أطلق أول مسبار لاستكشاف الكائنات الفضائية أو أي مظاهرٍ من مظاهر الحياة في الكون الفسيح. ويحمل هذا المسبار رسالة من الجنس البشري إلى الفضاء الخارجي عبر الكون الفسيح، باحثا عن مؤشرات لوجود حياة أخرى لكائنات أخرى تعيش في المجرات البعيدة عنَّا بآلاف السنين الضوئية.

والمسبار عبارة عن قرص من النحاس؛ مَطليٍّ بالذهب؛ نُقشت عليه صورة إنسان، وتم تحميلُه بموادَّ صوتية من موسيقى وتحياتٍ بلغات العالَم ومنها اللغة العربية. وتبلغ سرعتُه 61 ألف كلم في ساعة.

مسبار “فوياجر1” الذي يحمل رسالة من الجنس البشري للكائنات التي يُعتَقَدُ أنها موجودةٌ وتتقاسم معنا هذا الكون.

وننوِّه إلى أن هذه الوسائط الرقمية وبخلاف ما يعتقدُه كثير من الناس أنها تتافضل فيما بينها والحقيقة أنها تتكامل، لأنها تظل قاصرة وناقصة الفاعلية لذلك يحتاج بعضها إلى بعض، وكثير منها يتم دمجه في آلة واحدة (إدماج آلة الصوت مع آلة الصورة مع آلة الحركة). فهذه الوسائط الرقمية لم يتعدَّ دورها تحقيق التواصل والاتصال ولكن بخصائص جديدة.

لا تصحُّ المفاضلة بين هذه الوسائط؛ لأنها محدودة بطبيعتِها وكلٌّ منها يكمل الآخر. وليس هناك وسيط واحد يستطيع اختزالَ كلَّ الوسائطِ الأخرى وإلغائِها. فدائما هناك وسائط تظهر لتسد نقط سابقاتِها أو تزيد من فاعليتِها أو تطور خدماتِها.

  • مراحل تقييد أدوات التواصل

– تقييد الحرف   ــــــــــــــــــــــــــــ الكتابة الأبجدية

– تقييد الصوت ــــــــــــــــــــــــــــــ التسجيلات

– تقييد الصورة  ــــــــــــــــــــــــــــ آلة التصوير

– تقييد الحركة ــــــــــــــــــــــــــــــ  الصورة المتحركة (الكاميرا)

– الجمع بين الصوت والصورة والحركة والمؤثرات ــــــــــــــــــــــــــــــ السينما / الألواح الذكية


  • خلاصة

بقي أن نشير في نهاية هذا المقال إلى أن الدول العربية تتفاوت بشكل ملحوظ جدا في إحلال وتوظيف واستغلال هذه المنجزات والاختراعات الاتصالية التواصلية، فعلى سبيل المثال كانت لبنان ومصر سبَّاقتين إلى استقدامِ الطباعة، في وقت كانت بقية الدول العربية تعيش شبه تخلف في مجال التقانة.

أما اليوم؛ فقد أدخلتْ دول عربية حديثة النشأة هذه الوسائط التفاعلية في الحياة اليومية للناس وبصفة شاملة، فعلى سبيل المثال تُعتبر قَطَر الدولة العربية الأولى التي تتمتع بصبيب أنترنت عالٍ جدا، كما أنها الدولة الأولى في مجال الإعلام والاتصال، حيث استطاعت شبكة الجزيرة بكل قنواتِها إزاحة مؤسسات إعلامية عربية عريقة كانت إلى الأمس القريب على كل شاشة وفي كل بيت. (mbc- art- bbc …) كما أن حركة النشر والطباعة والترجمة والتأليف.

ظلَّتْ ومازالتْ نشطة جدا في دولة قطر، وتتمتع بهامش غير عاديّ من الحرية الفكرية. كما تم تحديث الإدارة القطرية وتزويدها بكل ما جد من تجهيزات تكنولوجية ووسائل وأدواتٍ رقمية.

عموما؛ فإن بعض الدول تراجعت بشكل كبير وأضاعت مجدَ وريادةَ أيامِها الخوالي، ودول أخرى تسير ببطء شديد على طريق الانخراط والاندماج التام والكامل في العولمة الرقمية. وهناك دول عربية أخرى خارج التصنيف في هذا المجال لأسباب سياسية بحثة (الانقلابات العسكرية وتوقيف عجلة التحديث والتنمية) ونذكر على سبيل المثال لا الحصر كلاًّ من (ليبيا – موريتانيا- اليمن – الصومال – مصر).

ستشهد العقود القادمة مزيدا من الاختراعات ومزيدا من الابتكارات والاختراعات في مجال التواصل والاتصال، وذلك لسبب وحيد ووجيه؛ هو أن هذه الوسائط سواءً الجماهيرية أو الرقمية التي ظهرتْ إلى الآن؛ ظلت محدودة القدرة ومحصورة الإمكانية، وبالتالي؛ فإن سعي وطموح الإنسان لإنجاز شيء كاملٍ، سيظل يراودُه إلى الأبد.

ويكفي أن ننظُرَ إلى الإعلام لنَعرف حجم وقوة تأثير اللغة، فاللغة سلاحٌ جبار يُمكنه السيطرة على كلّ شيء، فالذي يمتلك الإعلام يمتلك الحقيقة. وستظلُّ اللغة تبحث عن تجلٍّ لها في كل ما يتم اختراعُه وابتكارُه وتأليفُه؛ لأنها الأداة التي تُلخصّ الكون. والذي يمتلك اللغة سيمتلِكُ العالـَم حتما.

الحسين بشوظ

كاتب، صحفي عِلمي وصانع محتوى، باحث في اللسانيات وتحليل الخطاب، حاصل على شهادة الماجستير الأساسية في اللغة والأدب بكُلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. مسؤول قسم اللغة العربية في منظمة المجتمع العلمي العربي بقَطر (سابقا)، عُضو مجلس إدارة مؤسسة "بالعربية" للدراسات والأبحاث الأكاديمية. ومسؤول قسم "المصطلحية والمُعجمية" بنفس المؤسسة. مُهتم باللغة العربية؛ واللغة العربية العلمية. ناشر في عدد من المواقع الأدبية والصُّحف الإلكترونية العربية. له إسهامات في الأدب إبداعاً ودراسات، صدرت له حتى الآن مجموعة قصصية؛ "ظل في العتمة". كتاب؛ "الدليل المنهجي للكتابة العلمية باللغة العربية (2/ج)".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى