من لا مستقبل له… لا تاريخ له
قد يعترض أحدهم على هذا العنوان قائلا: وما العلاقة بين زمنين متقاطبين، يتصل أحدهما بالماضي، والآخر بالمستقبل. وكيف يمكن لمن لا يكون له مستقبل أن يكون أيضا بلا تاريخ، والحاضر هو المحك الذي يتيح لنا إمكانية الحكم على المستقبل؟ وقد يذهب آخر إلى القول: لم عكست ما يشاع من أن التاريخ هو مُولِّد المستقبل، لأنه يستمد منه الوقود الذي يدعو إلى الاستمرار ومواصلة المسير.
يبدو جوابي على هذه الاعتراضات في أن التاريخ حين لا يكون محفزا على التقدم، وإلى العمل على تشكيل وعي تاريخي يتيح فهما جديدا للماضي، ويقرؤه في ظل تحولات العصر يتحول إلى كابوس، وإلى أسطورة وهمية يتعلق بها من لا يفكر في المستقبل تفكيرا سليما، فتصبح علاقته بالتاريخ علاقة من يريد الاحتماء بالماضي، واختلاق الأكاذيب، وإضفاء مساحيق عليه لمواجهة الحاضر وتبريره، ما دام عاجزا عن تغييره من أجل مستقبل أحسن. وفي تمييز العرب بين العظامي والعصامي ما يؤكد ذلك.
يعرف تاريخ أي أمة، أو قبيل في صيرورته، تقلبات وتغيرات، تملؤها الانتصارات والانكسارات، والدسائس والاغتيالات، وتضارب المصالح. كما أنه يُقيَّض لها في لحظات معينة من يسجل فيها أمجادا ويخلد آثارا ومآثر لا حصر لها. ليس التاريخ قصة لها أبدا نهاية سعيدة. لكن قصة الحاضر حين لا تعمل على فهم أسباب النهاية التعيسة، وتلتفت إلى لحظات مضيئة لتتخذها مصادر للفخار والتبجح بالعظمة، لا يمكنها إلا أن تنتج نهايات متجددة مليئة بالانتكاسات والهزائم.
ويكون هذا سببا في أنها ستكون بلا مستقبل. وبما أن التاريخ يكتبه المنتصرون، فإنه يظل أسير رؤية محددة.. وحتى حين يريد أن يكتبه المنهزمون، فإنهم يسجلون فيه ما يريدون وفقا لرؤيتهم الخاصة. إن عدم تجديد الوعي بالتاريخ، وإعادة النظر فيه من مختلف جوانبه، والاستفادة منها في الحاضر من أجل المستقبل، نكون ندعي «التاريخ» الذي نريد، وليس الذي «وقع» وبذلك نكون بلا تاريخ، ولا مستقبل، لأن حاضرنا نبنيه على الأوهام والأباطيل.
دفعت كل هذه الاعتبارات العلماء إلى إعادة النظر في التاريخ، وفي قراءة لحظات سابقة منه، بوعي جديد، ورؤية مختلفة. ولعل التحليل الثقافي يقدم لنا نموذجا لذلك. تكتب ميك بال في تصديرها لكتاب «ممارسة التحليل الثقافي: عرض متداخل الاختصاص للذاكرة الثقافية في العصر الحالي وتأويلها» (1999): «إن التحليل الثقافي يختلف، باعتباره ممارسة نقدية، عما يتعارف عليه على أنه التاريخ. إن التحليل الثقافي ينهض على أساس الوعي الشديد بدور الناقد في الحاضر الاجتماعي والثقافي، الذي ينظر من خلاله إلى الوراء، وفي ما وقع بالفعل في الماضي، لتحديد ثقافتنا الحالية» وبإيجاز تعتبر التحليل الثقافي بمثابة «الذاكرة الثقافية في الوقت الراهن».
قل لي كيف تنظر إلى ذاكرتك الشخصية أقل لك من أنت.. وقل لي كيف ينظر المثقفون والباحثون والسياسيون إلى تاريخهم يتبين لنا مدى الدور الذي يمكن أن يسهموا به في تطوير حاضرهم ومستقبلهم. أتذكر عندما كنا صغارا نلعب قريبا ممن ساهم من قدماء المحاربين في الحرب الهندية الصينية، أنهم كانوا يتبجحون ببطولاتهم، وعدد القتلى على أيديهم، وكيف كان يضرب الأمثال بشجاعتهم.
ولم يكن ذلك في حقيقة الأمر سوى استعارة ما كانوا يسمعونه من رواة السير الشعبية، ويحولونه إلى أنفسهم على أنه وليد خبرة وتجربة وذاكرة حرب؟ ولقد صارت ذاكرة هؤلاء المحاربين المتقاعدين، موضوعات للسخرية والنكات لا حصر لها.
إن الذكرة الثقافية العربية لا يمكننا النظر إليها من منظور التحليل الثقافي على أنها كل متجانس، حين ننطلق من منظور علمي نقوم أولا بتصنيفها بهدف النظر إلى مختلف عناصرها وتشكلاتها، ثم ننظر بعد ذلك في العلاقات التي تربط بينها.
ولا بد لنا، أيضا، من الانطلاق من أصناف الثقافات التي كانت سائدة طوال التاريخ العربي، والعمل على تحليلها أفقيا وعموديا، فذاكرة الثقافة العالمة التي تحققت في مراحل الإمبراطوريات والدول الكبرى التي امتد حضورها ليشارك فيه الجميع، ليست هي نفسها عندما انقطعت العلاقات بين الأقاليم، وصار كل منها منعزلا عن غيره، وليست هي أيضا ذاكرة الثقافة الشعبية العربية في مناطق منغلقة على ذاتها. كما أن الذاكرة الثقافية التي تشكلت جغرافيا في بيئة، وفي زمن محدد ليست هي التي تحققت في بيئة أخرى.
لعبت الكتابة دورا كبيرا في إعطاء الذاكرة الثقافية العربية، بعدا خاصا يتعإلى على أي إقليمية ضيقة عندما كانت العلاقات مفتوحة ومتواصلة، وكان العلماء والفقهاء وعموم الناس قادرين على الانتقال في جغرافيا واسعة بلا حدود مصطنعة، لكن الذاكرة الثقافية الخاصة ظلت على علاقة بالذاكرة العامة، لكنها شكلت لها ذاكرة ضيقة.
هذه الذاكرة الضيقة هي التي يمكننا الحديث عنها في العصر الحديث مع تشكل الدول الحديثة. أما الذاكرة الثقافية العامة فليست في ملكية أي دولة تدعي ملكيتها لها. الذاكرة الثقافية العربية تتعإلى على ذاكرة أي وطن وضع حدوده الاستعمار، لأنها صارت ذاكرة إنسانية.