الأكاديمي .. من هو؟
لو سألت شخصاً عن مهنته، وأجابك بأنه أكاديمي، فماذا ستفهم من هذه الإجابة؟ أظن أن أغلبنا سيفهم أن هذا الشخص هو عضو هيئة تدريس في الجامعة. ولكن هل هذا اللفظ لا يعني إلا مجرد الانتماء إلى جامعة ما فقط ـ كما يفهم كثير من الأكاديميين ـ؟
طبعاً ستقولون هذا أمر غير مقبول! فالمفترض فيمن يدرس في الجامعة أن يكون صاحب نشاط بحثي مميز يسهم في دفع عجلة العلم في مجاله، ويدور مع دورة الحراك العلمي الذي يجب أن تموج به الجامعات والكليات.
بل إن بعضكم سيزيد أن على الأكاديمي أن يكون متميزاً ومتمكناً في أسلوب تدريسه وتعليمه، أضف إلى جهوده في خدمة الجامعة والمجتمع، ولكن الذي هزني وأثارني حقيقة هو رأي الأستاذ العلامة الدكتور عبدالوهاب المسيري ـ رحمه الله ـ في كتابه الرائع عن رحلته الفكرية.
الذي استمتعت بقراءته ـ على طوله ـ لسلاسة أسلوبه وجمعه بين العمق الفكري في عرض بدايات وتسلسل أفكاره وتصوراته والنماذج الإدراكية التي بنى عليها دراسته للصهيونية، وبين سرد مسيرته العلمية بظرف شديد وتواضع جم مع قصص وشواهد كثيرة لا تجعلك تستمتع وحسب.
بل تبسط لك مفاهيم وأفكاراً فلسفية قد يصعب فهمها لو قرئت من أصول مؤلفات الدكتور المسيري، عموماً ما أثارني هو أنه اعتبر أن “كلمة “أكاديمي” قد فقدت معناها، وأصبحت تشير إلى أي شخص عديم الخيال، يلحق ببحثه قائمة طويلة بالمراجع، ويشرح أطروحته بطريقة مملة.
ولا يبدي أي رأي “ويقول: “الهدف عادة من مثل هذه الكتابات (التي يقال لها أبحاث رغم أنها والكلام مازال للمسيري لا تنبع من أي معاناة حقيقية ولا تشكل “بحثا” عن أي شيء) هو زيادة عدد الدراسات التي تضمها السيرة العلمية للأكاديمي صاحب الدراسة، فتتم ترقيته.
قد تقوم الدنيا ثم تقعد، وقد يقتل الأبرياء وينتصر الظلم وينتشر الظلام، وصاحب “البحث” لا يزال يكتب ويوثق ويعنعن وينشر، ثم يكتب ويوثق ويعنعن وينشر”.
ألا ما أشبه الليلة بالبارحة! الدكتور المسيري كتب هذا الكلام ليصف معاناته مع جامعته التي عاد إليها في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وأظن أن معاناتنا في الأبحاث ما زالت مستمرة! فما هي الأبحاث التي تعقدها الجامعات لحل مشاكل نواجهها في مجتمعاتنا سواء أكانت صحية أم اقتصادية أم اجتماعية؟
بل ما السبب الأساس في عقد هذه الأبحاث؟ هل هو الشغف بالعلم وعشق البحث عن الجديد المفيد والغوص حباً في بحار العلوم والمعارف؟ أم أنها الترقية وما أدراك ماالترقية؟
ولن أستعرض الخلل لدينا في معايير الترقية التي لا تفرق إلى الآن بين بحث منشور في مجلة عالمية مرموقة وبين مجلة لا يقرؤها إلا محرروها؟ وهكذا أصبح الأكاديمي عندنا وحسب وصف المسيري: “يتحرك في عالم خالٍ من أي هموم إنسانية حقيقية ـ عالم خال من نبض الحياة: رمادية كالحة هي هذه المعرفة الأكاديمية، وذهبية خضراء هي شجرة المعرفة الحية المورقة”.
يعجبني ما تقوم به بعض القطاعات الصحية العامة والخاصة بضرورة متابعة النشاط العلمي للمنتسبين إليها من أطباء وغيرهم حرصا منها على استمرارية العطاء، وتمييزا للمتميز وتذكيراً للمتقاعس بأهمية الحراك العلمي الجاد.
والحق أن هذا أمر معروف ومطبق في أغلب الجامعات العالمية الرائدة، بل إن نظام المتابعة كما نشر في عدة دراسات صيغ بمسارات متعددة تستوعب جل النشاطات العلمية، فلا يجب أن يقيم الطبيب “الأكاديمي” فقط في مسار البحث العلمي.
إذ هناك مسار الممارسة السريرية ومسار التعليم الطبي والمسار الإداري، والأكمل في حق الطبيب الأكاديمي في هذه الجامعات أن يختار هو بنفسه نسباً محددة من هذه المسارات ـ بآلية مشروحة وواضحة ـ ليتم تقييمه عليها.
والهدف الأكبر أن يعمل الجميع بنشاط وإبداع، وأن ينجح ويتقدم ويتميز جميع الأكاديميين لأن نجاحهم هو نجاح لجامعاتهم.
والمحزن حقيقة هو أن تجد بعض الأكاديميين لدينا بلا حراك! في حال سكون متحجر لا أشد منه إلا سكون الموت! ولا أرى أو لا أعرف أي نظام يستطيع أن يحرك سكون هذا “الأكاديمي”، ولو استخدمت مصطلح “الخريطة الإدراكية” الذي شرحه وأفاض فيه الدكتور المسيري.
فهو يذكر أنك كي تسخر أي إنسان ليصبح أداة طيعة ـ في الخير أو في الشر ـ فلزاماً عليك أن تغير خريطته الإدراكية، أي كيف يدرك ويتصور الموضوع، وساق مثالاً بعنف المستوطنين الصهاينة غير المسبوق الذين تم تحوير خريطتهم الإدراكية ليراد لهم أن يدركوا أن الفلسطينيين (المفروض أنهم أصحاب الأرض) يحتلون أرض ميعاد هؤلاء المستوطنين.
فهم ليسوا محتلين ولا مستعمرين بل هم عائدون إلى أرضهم، وأن عودتهم تتم بناء على الوعد الإلهي لا على وعد بلفور، فإني أسأل ما الخريطة الإدراكية لهذا النفر من الأكاديميين عن الوظيفة الحكومية؟ هل هي حق “إلهي” مكتسب بلا أي واجبات؟ أم أنه “المال العام” المهدر إن لم آخذه أنا بأقل مجهود أخذه غيري وهو نائم في بيته؟
لا أملك إلا الضحك أحياناً وأنا أتأمل عندنا حال طبيب “أكاديمي” يرى نفسه أرفع وأجل من أن تكون في هذه الجامعة! ويرى نفسه وتعليمه “خسارة” في أبناء بلده، لأن مستواه عال فوق هام السحب! أو حال “أكاديميين” آخرين تركوا الأبحاث، تركوا العمل.
وانشغلوا بمواقع التواصل الاجتماعي همزاً ولمزاً وسخرية من كل شيء حتى من أنفسهم! ولا يضيق أحد بالنقد البناء الهادف ولكننا جميعاً نجني وللأسف ثمرات الكراهيات المتفلتة التي وزعتها علينا هذه الوسائط، فأسهمت في نشر ثقافة سطحية لا عمق فيها ولا تدبر بل تسرع في الأحكام وتطاول على الخلق وسوء أدب ناهيك عن الأحقاد والضغائن.
في دراسة لطيفة تم فيها النظر في المسار العلمي السابق في كليات الطب لعدد من الأطباء الاستشاريين في الولايات المتحدة الأميركية الذين تم في حقهم اتخاذ أحكام قضائية بسبب سوء ممارساتهم الطبية.
تبين أن معظم هؤلاء الاستشاريين المدانين كانوا يتصفون في أثناء دراستهم الجامعية وهم طلاب بسلوكيات مهنية سيئة كالغش في الامتحانات وسوء الأدب مع الزملاء والتأخر في تقديم الواجبات البحثية وخلافه.
والمعنى الذي أريد أن أصل إليه هو أن نتحرى جيداً فيمن نختارهم ليكونوا أكاديميي المستقبل ولننظر إلى أمر آخر غير الدرجات والتحصيل العلمي حتى لا نؤهل ونبذل الغالي والنفيس في تأهيل غير المؤهل أساساً ليكون أكاديمياً وذلك حتى لا نعيد إنتاج التخلف!