- القرآنيون الجدد وسؤال التكوين:
القرآنيون الجدد” حركة إيديولوجية تفتقد الكفاية العلمية التي تجعلها خاضعة للتحليل الابستملوجي، تكوينا و بنية، و لذلك يمكن التعامل معها كظاهرة قابلة للتحليل السوسيولوجي من خلال التركيز على بعدها التكويني.
ترجع أولى بوادر هذه الحركة، تراثيا، إلى مراحل الفتوحات الإسلامية، حينما دخلت الإسلام شعوب تحمل لغات/ثقافات مختلفة، حيث كان الميل نحو محاولة تجريد الإسلام من انتمائه العربي، و هكذا راجت فكرة الفصل بين القرآن الذي اعتُبر وحيا و بين السنة التي اعتبرت نمط حياة الرسول (ص) و بالتالي نمط الحياة العربية.
و في هذا الإطار يجب استحضار النزوع الإيديولوجي الذي رافق حركة التشيع، كحركة قومية فارسية، فقد تم التركيز على الوحي القرآني و في المقابل تم إقصاء المتن الحديثي، و في هذا السياق يجب التعامل بشك منهجي مع استبدال رمز النبي (محمد) برمز الصحابي (علي) ثم الانتقال إلى استبدال آخر لرمز الصحابي (علي) برمز ابن الصحابي (الحسين)، مع ما رافق ذلك من تحول رمزي على مستوى الفضاء الديني من مكة إلى كربلاء.
هذا التحول الرمزي تم في إطار مؤامرة كبرى لتهميش المتن الحديثي (السنة) بادعاء أنها ليست وحيا، و الأفق الاستراتيجي كان فصل القرآن عن بيئته الثقافية العربية بادعاء أنه وحي مفارق للواقع.
- بين حركة/إيديولوجيا القرآنيين الجدد و حركة/إيديولوجيا الإسلاموية
سياق تأسيس حركة القرآنيين الجدد هو نفس سياق تأسيس الحركة الإسلاموية، هما حركتان إيديولوجيتان ظهرتا في شبه القارة الهندية في ارتباط بالمشروع الاستعماري البريطاني القاضي بفصل الباكستان عن الهند. الإسلامويون خرجوا من أكمام الجماعة الإسلامية التي أسسها أبو الأعلى المودودي، و القرآنيون الجدد خرجوا من أكمام الحركة القرآنية التي أسسها عبد الله جكرالوي تلميذ أحمد خان، و طورها بعدهما غلام أحمد برويز.
** و لننتقل إلى عرض هذه الأطروحة بالتفصيل:
** في علاقة بالحركة الإسلاموية، تأسست الجماعة الإسلامية في لاهور سنة1941 على يد أبي الأعلى المودودي، الذي عاش مرحلتين: الأولى في الهند البريطانية. و المرحلة الثانية في الباكستان بعد انفصالها عن الهند.
شروط تأسيس الجماعة و ظروف حياة مؤسسها أثّرا معا في مسار الحركة الإسلاموية في شبه القارة الهندية، في البداية، ثم في العالم الإسلامي كله بعد انتشار تصورها الإيديولوجي. ارتبط سياق تأسيس الجماعة الإسلامية بمشروع فصل الباكستان عن الهند كمخطط استعماري بريطاني كان الهدف من ورائه تقسيم شبه القارة الهندية ترابيا، و خلق صراع ديني يكرس المخطط الانفصالي.
قدم أبو الأعلى المودودي خدمة مجانية لهذا المشروع الانفصالي، حينما كرس حياته لشرعنته دينيا عبر لي أعناق النصوص الدينية، و الانحراف بالإسلام من كونه فكرة دينية ذات طابع تربوي يستهدف تغيير الأفراد من الداخل لتغيير حياتهم الجماعية من الخارج، إلى فكرة حزبية مختزلة تستهدف إقامة كيان سياسي. و هذا الانحراف لم يتوقف عند حدود الباكستان، طبعا، بل تحول إلى نموذج عابر للعالم الإسلامي.
و يهمنا هنا التوقف عند التجربة العربية، في علاقة بجماعة الإخوان، فرغم أسبقيتها التنظيمية عن الجماعة الإسلامية (تأسست سنة 1928)، فإن نموذجها الإيديولوجي مستنسخ عن الجماعة الإسلامية، و ليس وليد تصور ديني عربي.
عند تأسيس جماعة الإخوان على يد حسن البنا كانت تشكل امتدادا للنموذج النهضوي، فالبنا هو تلميذ رشيد رضا الذي تخرج من مدرسة محمد عبده. لكن، انحراف الجماعة نحو الاتجاه الإيديولوجي الإسلاموي حدث على يد سيد قطب الذي استنسخ تصور المودودي حول الحاكمية الإلهية، كفكرة إيديولوجية انتقلت من البعد الأنطولوجي (الله خالق الكون و مسيره) إلى البعد الإيديولوجي ( الجماعة ممثلة الله في الأرض و المؤتمنة على تطبيق الشريعة).
** في علاقة بالحركة القرآنية، الأمر لا يختلف كثيرا عن تأسيس الحركة الإسلاموية، فالمشترك بينهما يصل حدود التطابق، على مستوى جغرافيا و تاريخ و شروط التأسيس. تاريخيا، ارتبط ظهور الحركة بنهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين، و الجغرافيا دائما شبه القارة الهندية، أما شروط التأسيس فقد تفاعلت مع المخطط الإنجليزي القاضي بفصل الباكستان عن الهند.
و بنفس الغباء السياسي قدم القرآنيون الجدد خدمة مجانية للاستعمار الإنجليزي، الذي كان يستهدف تقسيم شبه القارة الهندية و تطويقها بصراعات دينية تجعلها رهينة بعد الانسحاب الاستعماري. فإذا كان خلق الحركة الإسلاموية موجها نحو الخارج في علاقة بالهند، فإن خلق الحركة القرآنية كان موجها نحو الداخل بهدف خلق صراع مذهبي و إيديولوجي يحد من قدرات الباكستان ككيان سياسي فتي. و بذلك تمكن الاستعمار الإنجليزي من صيد عصفورين بطلقة واحدة، من جهة تحكم في شبه القارة الهندية و ما زال متحكما إلى اليوم، و من جهة أخرى صنع الكيان السياسي الباكستاني بشكل ملغوم قابل للانفجار في أي حين.
أما عن تكوين حركة القرآنيين، فقد ارتبطت بوادرها الأولى بمؤسسها الروحي “أحمد خان” الذي وضع أسسها النظرية الأولى، من خلال دعوته إلى إلغاء المتن الحديثي و السنة النبوية من الإسلام و الاكتفاء بالقرآن، مع اتجاهه نحو بناء تلق مغاير للقرآن يوظف المنطق التجريبي (العلمي) لكن من منظور ديداكتيكي تبسيطي لا ينسجم مع المنطق التجريبي العلمي كما لا ينسجم كذلك مع المنطق الديني.
بعد مرحلة التأسيس الفكري، جاءت مرحلة التأسيس النظيمي التي ارتبطت ب ” عبد الله جكرالوي” مؤسس الحركة القرآنية سنة 1902، الذي وضع ججر الأساس لنقل الإيديولوجيا القرآنية من مستوى التنظير إلى مستوى التنظيم.
لكن، أوج التنظيم وصل مع “غلام أحمد برويز” الذي يمثل قمة الحراك الإيديولوجي القرآني، تأليفا و تنظيما، فالإضافة إلى قوته التنظيمية التي ترجمها عبر تأسيس و قيادة حزب “طلوع إسلام”، كان يطلق عليه “مؤلف الحركة القرآنية” دلالة على قدراته الكبيرة في التأليف الفكري و السياسي.
** كمُخرجات لمُدخلات التحليل، يمكن أن نستنتج:
* الحركة الإسلاموية تجاوزت حدود الباكستان و شبه القارة الهندية، و تحولت إلى إيديولوجيا عابرة لأصقاع العالم الإسلامي، مؤسسة لتصور إيديولوجي مختزل للإسلام كفكرة سياسية حزبية.
* الحركة القرآنية تجاوزت حدود الباكستان و شبه القارة الهندية، و أصبحت إيديولوجيا عابرة لحدود العالم الإسلامي مؤسسة لتصور إيديولوجي مختزل للإسلام كقرآن مفصول عن بنيته الثقافية/اللغوية و عن شروط تكوينه في فضاء النزول/نزول الوحي.
** الأفق الاستراتيجي للحركتين:
* من منظور إسلاموي: تجريد الإسلام من منطقه التربوي القائم على أساس صناعة الفرد الصالح من أجل إصلاح جماعة المسلمين/إصلاح العالم، و اختزاله في مجرد حزب سياسي عابر يسعى إلى الاستيلاء على الحكم.
* من منظور قرآنوي: تجربد النص القرآني من عناصر/مكونات بنيته و شروط تكوينه من أجل الاستفراد به و عزله، في أفق تحويله إلى نص قابل للتأويل الإيديولوجي بحسب رغبات الأفراد/الجماعات و بحسب متطلبات التلقي السياسي و الاجتماعي …
د. إدريس جنداري – باحث .