- عن الملكية الفكرية في التراث العربي
إنّ إجالة النظر بواقع حقوق الملكية الفكرية في البلاد العربية، يكشف مقدار تردّيها على الرغم من كثرة القوانين والمؤتمرات التي أقرّت هذه الحقوق. وكأنّ واقعنا هو استمرار لنظرة تاريخية كانت تزدري تلك الحقوق، ولم تكن ترى فيها إلّا مشاعًا يغفل حقّ المؤلف، الذي تُرك لأهواء الملوك والخلفاء في مكافأته أو معاقبته على تلك الإبداعات!
عُقد مؤتمر أدبي عالمي في باريس في عام 1878. وقد ألقى فيكتور هوغو خطابًا فيه كان له تأثير كبير على التنظيم القانوني لحقوق المؤلف الفكرية على صعيد فرنسا والعالم. كان هوغو يعتقد بأنّ الأعمال الأدبية تصلح لأن تكون لها حقوق ملكية كغيرها من الأشياء التي تملك وتورّث (1).
لم تكن الأعمال الأدبية والفنية عبر التاريخ محلًّا للملكية، رغم أنّ الإنسان قد وعى دوره في إنتاجها. وقد تجلّى هذا الأمر بالنظرية التي كانت تفسّر كيفيّة خلق هذه الأعمال.
لقد أرجعوا مصدريتها إلى الميتافيزيق، كربّات الإلهام عند الإغريق، أو جنّ وادي عبقر عند العرب، لا إلى عبقرية المبدع. وهذا دليل على المنحى التشريعي الذي حكم على الإبداعات الفكرية بإخراجها من حقوق الملكية. إنّ ما يتم إلهامك به من هذه القوى، ليس ملكك كالأشياء التي تحوزها بالعمل العضلي، أو التجاري، أو غنائم الحروب، فلذلك لا يحقّ لك حيازتها وتملّكها.
إنّ سخرية الأقدار تجاه المبدعين كانت قد أقرّت تلك الحقوق قبل المؤتمر الذي خاطب به هوغو المجتمع الأدبي. فقد احتجّ سقراط (2) على محاكميه، بأن قال: إنّ وحيًا أمره أن يفعل ما رتب له تلك المحاكمة، وكأنّه يومئ لقضاته أن يحاكموا ربات الإبداع! لم يلتفت محاكموه لقرينة سقراط التي تؤيّدها الأعراف والتقاليد، بل جرّعوه الشوكران ثمنًا لكلماته.
هذا الثمن المهول ما زال يطال كلّ مبدع تخرج كلماته عن قطيع الرقابة. لقد كان الشوكران بمثابة الموت الرحيم مقابل ما يتعرّض له المبدعون من إعدامات جسدية وفكرية عبر الأزمنة. إنّها سخرية سوداء عندما نجد أنّ حقوق الملكية كانت قد أقرّت للمبدع من قبل الأنظمة الديكتاتورية، لكي تدينه، لا لتكافئه.
حلّل هوغو في خطابه البنية القانونية التي تعتبر الملكية الفكرية ملكية عامة، وليست ملكية خاصة، ورأى أنّ هذا المنحى القانوني يهدف إلى السيطرة على الكاتب، فمصادرة ملكيته يعني أن تصادر استقلاله.
إنّ القول بأنّ التفكير ملكية عامة، وهو لا يصلح لأن يكون محلًا للملكية الخاصة، ما هو إلّا نتاج للخلط بين التفكير كميزة بشرية، والفكرة المنتجة عنه، والتي هي ملكية شخصية يجب أن تصان، وإن عدم النظر إليها كملكية خاصة ينقض قوانين الملكية، فالكلمة تتحوّل إلى كتاب، والكتاب يباع ويشترى.
لقد جادل هوغو بقوٍّة دفاعًا عن حقوق الملكية الفكرية. ونال تصفيقًا حارًا، وكان لخطابه أثرٌ في إقرار اتفاقية برن لحماية المصنّفات الفنية والأدبية عام 1886.
لم يكن كلام هوغو آتيًّا من فراغ، فقد سبق ذلك محاولات عديدة لإقرار حقوق الملكية الفكرية، كقانون الملكة آن (3) الذي أعطى للكتّاب الحق الحصري بطباعة مؤلفاتهم، في حين كان الأمر قبل ذلك متروكًا لمنحة من الملك بأن يصدر مرسومًا يقضي بالحقّ الحصري للمؤلِّف بطباعة أعماله.
هذه القوانين على الرغم من أهميتها، لم تكن ترى فعليًّا في حقوق المؤلف ملكية ترقى إلى طبيعة الملكيات المادية، كأن تورّث. وقد أشار هوغو في خطابه إلى هذه النقطة الحاسمة.
جادل هوغو بقوٍّة دفاعًا عن حقوق الملكية الفكرية، وكان لخطابه أثرٌ في إقرار اتفاقية برن لحماية المصنّفات الفنية والأدبية عام 1886 |
- تراثنا الثقافي
نوّهنا في بداية هذا المقال بتردّي واقع حقوق الملكية الفكرية في البلاد العربية، قياسًا إلى ما وصلت إليه في بلاد العالم الأخرى، لكن النظرة الموضوعية إلى تراثنا تناقض حالنا الآن! فالإرهاصات النظرية والعملية لنشأة حقوق الملكية الفكرية كانت من الوضوح بمكان في تراثنا الثقافي.
عندما التفت العرب إلى تدوين أشعارهم التي قيلت في جاهليتهم، كان أحد الجوانب التي تنبّهوا لها يكمن في أسبقية القول. وقد كان عنترة في بيته المشهور: هَل غادَرَ الشُعَراءُ مِن مُتَرَدَّمِ/ أَم هَل عَرَفتَ الدارَ بَعدَ تَوَهُّمِ، لسان حال الجاحظ في سؤال ممضّ عن مَن سبق إلى القول، لذلك علّل الجاحظ بأنّ: “المعاني ملقاة في الطريق يعرفها العربي والعجمي” وهو يمهد بذلك إلى أنّ الشعر صناعة تقوم بأشياء أخر يتفوّق فيها شاعر على شاعر، فتنسب إليه: “وإنّما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ، وسهولة المخرج، وجودة السبك، فإنّما الشعر صناعة”. والجاحظ في ذلك ينتصر للصنعة والفنّ. هذا المنحى في التفكير يفسّره خبر جاء في الأغاني بأنّ بشار بن برد غضب على تلميذه سلم الخاسر بعد أن انتحل بيته التالي:
مَن راقَبَ الناسَ لَم يَظفَر بِحاجَتِهِ/ وَفازَ بِالطَيِّباتِ الفاتِكُ اللَهِجُ.
قال سلم: مَن راقَبَ الناسَ ماتَ غَمًّا/ وَفازَ بِاللّذَّةِ الجَسورُ.
وقد جاءت في الأغاني حواريّة جرت بين بشار وسلم تظهر مقدار الوعي تجاه حقوق الملكية الفكرية. يقول بشار: “أفتأخذ معانيّ التي عنيت بها، وتعبت في استنباطها، فتكسوها ألفاظًا أخفّ من ألفاظي، حتى يروى ما تقول ويذهب شعري”.
إنّ تأملًا في قصّة بشار بن برد يذكّرنا بخطبة فيكتور هوغو عن أنّ ملكة التفكير عامة بين البشر، أمّا الفكرة، فهي ملك خاص لصاحبها، لا يحقّ لأحد أن يستولي عليها وينسبها لنفسه.
لقد ذمّ العرب السرقات الأدبية، أكانت بالمعنى أو باللفظ. وهذا ما نجده ظاهرًا بوضوح في المقامة الشعرية للحريري، التي نستطيع أن نعدّها بيانًا رائعًا عن الدفاع عن حقوق الملكية الفكرية (4): “واستِراقُ الشّعرِ عندَ الشّعراء.
أفظَعُ منْ سرِقَةِ البَيْضاء والصّفْراء. وغَيرَتُهُمْ على بَناتِ الأفكارِ. كغيرَتِهِمْ على البَناتِ الأبكارِ”. إنّ المماثلة بين استراق الشعر الذي هو صنعة فكرية وسرقة المال من ذهب وفضة، دليل واضح على تجذّر المفهوم الذي يعدّ الفكرة ملكية كغيرها من الملكيّات.
تعود عناية العرب إلى هذا الجانب الفكري من الملكية إلى الصراعات السياسية، فأصبح الاستشهاد بخبر أو حديث قرينة تثبت حقًّا أو تنفيه، فكان من الضرورة التأكّد من صدق الشاهد الناقل للخبر أو الحديث. إنّ نظام العنعنة أو المنهج النقلي في إيراد الخبر كان له ضوابطه التي تقوم على ضبط الإسناد متنًا وهامشًا.
وما تقسيم الأحاديث بين متواتر ومشهور وآحاد إلّا من باب التدقيق المنهجي على صحّة الخبر. وعندما شاعت الوراقة ظهر ما يسمى الاستملاء، حيث يجلس الفقيه ويلقي بعلومه على مجموعة من الكتبة لا يجوز لهم تداول ما استنسخوا قبل أن يقرأه الوراق على معلّمه ويجيزه.
قد يكون نظام الإجازة من أهم الخطوات نحو تأكيد الملكية الفكرية، فلم يكن يحقّ للناسخ أن يباشر بنسخ كتاب ما وبيعه قبل أن يجيزه مؤلف الكتاب بوثيقة مكتوبة، تسمح له بالنسخ والإتجار.
يقول بشار بن برد: “أفتأخذ معانيّ التي عنيت بها، وتعبت في استنباطها، فتكسوها ألفاظًا أخفّ من ألفاظي، حتى يروى ما تقول ويذهب شعري”! |
هذا الأمر الواقع في التحقّق والإسناد، امتد ظلّه إلى الآداب والعلوم والصناعات. ولقد ذكرت الباحثة صباح الشخيلي (5)، بأنّ الحرفيين والصناعيين لجؤوا إلى إعادة مبتدأ الصناعات من حرف وزراعة إلى الأنبياء والأئمة. وإذا استقرأنا هذا الخبر نجد بأنّه ليس إلّا دفعًا للخلافات بين المشتغلين بتلك الحرف، وذلك بجعل مبادئ تلك الحرفة مشاعية تتحدّر من مصدر مقدّس، فلا يحقّ لأحد احتكارها.
لكن النظر في عملية تنسيب الصنائعي لإحدى المهن والحرف التي تقتضي منه الالتزام بآدابها وأسرارها يكشف لنا تنبّها للملكية. لقد ضاعت أسرار الكثير من تقاليد تلك الصناعات في تراثنا لعدم إفشائها للعامة. أمّا النتيجة التي نخلص إليها، بأنّهم وإن أظهروا مشاعية مبتدأ أصول الصناعات والحرف، إلّا أنّهم حافظوا على ابتداعاتهم الخاصة، وجعلوها في موقع الأسرار التي لا يجب إفشاؤها أبدًا. لقد كانوا بشكل مضمر يقرّون بالملكية الفكرية، لكن أمام عدم القدرة على حمايتها مهروها بالسرّية.
تظلّ الملكية في الصناعات والحرف مادية أكثر منها معنوية، لكن عندما نسمع صرخة العلماء بأنّ: “آفة العلم خيانة الوراقين” وهم النسّاخ الذين لا يتقيّدون بأصول النسخ حرفًا ومعنى، نفهم سبب ظهور الكتب التي تناولت السرقات الأدبية.
ألم يكتب السيوطي كتابًا يفرّق فيه بين المصنِّف والسارق. وها هو المسعودي يوجه رسالة في مقدمة كتابه “مروج الذهب ومعادن الجوهر”، للحفاظ على حقوق الملكية الفكرية ممّن ينتسخ كتابه أو يستعمله: “فمن حَرَّف شيئًا من معناه، أو أزال ركنًا من مبناه، أو طمس واضحة من معالمه، أو لبَّسَ شاهدة من تراجمه، أو غيره، أو بَدَّله، أو اختصره، أو نسبه إلى غيرنا، أو أضافه إلى سوانا، فوافاه من غضب اللهّ وسرعة نقمته وفوادح بلاياه ما يَعْجَزُ عنه صبره، ويَحَار له فكره، وجعله اللّه مُثْلَةً للعالمين، وعبرة للمعتبرين، وآية للمُتَوسِّمين”.
إنّ وعي حقّ الملكية جعله أساسًا للدعاوى القضائية، فقد ذكر الخطيب البغدادي العديد من الدعاوى، حيث يتنازع الناسخون على مخطوطة ما بأنّها بخطّ فلان، فيحكم القاضي وفق قرينة مضاهاة الخطوط، أو يتنازع مؤلفان على الأسبقية في تأليف مخطوط ما، فيلجآن إلى القاضي ليحقّ الحقوق، فقد ذكر البغدادي بأنّ قاضي الكوفة حفص بن غياث قد تحاكم إليه رجلان يدعي أحدهما على الآخر سماعًا منعه إياه، فأمر القاضي المدعى عليه بأن يُخرج ما دوّنه من سماع في كتبه.
وقال: “فما كان من سماع هذا الرجل بخطّ يدك ألزمناك، وما كان بخطّه أعفيناك منه”. وأمام هذا الوعي الجلي بحقّ الملكية الفكرية لن نستغرب أن نجد في مقدمة كتاب البيروني “الجماهر في معرفة الجواهر”، هذا التوضيح الذي يرفع عنه السرقة ويؤكّد حرصه على حقوق الملكية: “ولم يقع لي من هذا الفن غير كتاب أبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي في الجواهر والأشباه”.
لم يصل العرب في تراثهم إلى مرحلة حقوق الملكية كما نعرفها الآن. ولم يتبادر إلى ذهنهم بوضوح، الفكرة التي طرحها هوغو عن حقّ المؤلف بتوريث حقوقه الفكرية إلى ورثته والاستفادة منها ماديّا، لكنّ التطبيقات العملية التي أوردنا بعضها في المقال تشي بوعي مهمّ لمفهوم حقوق الملكية الفكرية.
- مصادر:
1- خطاب الروائي الفرنسي فيكتور هوغو حول الملكية الفكرية 1878. ترجمة: مشاعل عبد العزيز الهاجري، مجلة فكر الثقافية، العدد 26 لعام 2019.
2- المحاورات، أفلاطون، إصدار الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت 1994.
3- https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D9%84%D9%83%D9%8A%D8%A9_%D9%81%D9%83%D8%B1%D9%8A%D8%A9
4- مقامات الحريري، دار بيروت للطباعة والنشر.
5- الأصناف والمهن في العصر العباسي، نشأتها وتطورها. د. صباح الشخيلي، بيت الوراق للطباعة والنشر.
الملكية الفكرية الأدبية والفنية وحماية حق المؤلف
ميشلين مبارك
الملكية الفكرية معناها أن تكون جميع حقوق التأليف والنشر عائدة إلى المؤلف. وبحسب قانون الملكية الفكرية في العالم يُمنع على أيّ كان استعمال محتوى الكتاب أو أي عمل فكري كالمؤلفات الموسيقية والأعمال الفنية أو الصور الفوتوغرافية، إلاّ بإذن من المؤلف نفسه. غير أنّ بعض الدول تسمح باستخدام أعمال المؤلف بعد مرور 50 عامًا على وفاته مثلًا.
إذًا، تأتي حقوق الملكية الفكرية لحماية الابتكارات والاختراعات للمبدعين، وتقسم إلى قسمين: الملكية الفكرية الأدبية والفنية، والملكية الفكرية الصناعية – العلمية. وتضم حقوق الملكية الفكرية براءات الاختراع وحقوق التأليف والنشر والعلامات والأسرار التجارية والى ما هنالك.
وتشير المنظمة العالمية لحماية الملكية الفكرية (ويبو) World Intellectual Property Organization (WIPO) إلى هذه الحقوق بتفاصيلها والقوانين التي ترعى كلاّ منها. كما تصنف المنظمة المذكورة مختلف أنواع الحقوق المحمية، فضلًا عن التقييدات على تلك الحقوق. غير أنّ الملكية الفكرية الأدبية والفكرية ستكون محور مقالتنا هذه، خاصة لناحية حق المؤلف في نقل حقوقه الأدبية والفنية لضمان استمرارية حماية ملكيته.
في الواقع، شاعت هذه العملية في السنوات الأخيرة لا سيما في الغرب، بحيث ضخ المستثمرون وشركات الإنتاج العالمية الدولارات لشراء الحقوق الفكرية وبخاصة الكتالوجات الموسيقية لمطربين عالميين مثل شاكيرا، وبوب دالين، وديفيد بوي وغيرهم.
ويأتي هذا الموضوع للإضاءة على أكبر عملية بيع حقوق موسيقية لفنان واحد في التاريخ للمطرب وكاتب الأغاني الأميركي بروس سبرينغستين Bruce Springsteen لصالح شركة سوني العالمية Sony Music Entertainment ، وقد تمّ مؤخرًا التوقيع على العقد الذي بموجبه حصلت شركة “سوني” على الكتالوج الموسيقي الكامل المسجل باسم الفنان سبرينغستين، وقد ذكرت الصحف الأجنبية أنّ قيمة الصفقة ربما تفوق 500 مليون دولار.
بذلك تكون شركة “سوني” قد حصلت على ملكية كاملة من الأغاني الناجحة لسبرينغستين طوال خمسين عامًا من حياته المهنية. وتعليقًا على الموضوع، صرح الفنان الشهير: “أنا سعيد لأن إرثي سيستمر الاهتمام به من قبل الشركة والأشخاص الذين أعرفهم وأثق بهم”.
تمّ مؤخرًا التوقيع على العقد الذي بموجبه حصلت شركة “سوني” على الكتالوج الموسيقي الكامل المسجل باسم الفنان سبرينغستين |
إذًا، وسط ارتفاع خدمات البث المباشر، تشتري الشركات العالمية كتالوجات الأغاني وقد عمدت إلى هذه الطريقة لحماية إرث الفنان من جهة عبر المحافظة عليها وتحقيق ديمومة انتشارها، ولتحقيق الشركة أرباحًا هائلة من جهة أخرى.
مما لا شك فيه أنّ الشركات ذات الأسماء الكبيرة تحاول دائمًا جلب المواهب والمبدعين إليها. وبعضها يعترف بالحقوق المعنوية للمبدعين الفعليين، والبعض يغفل عن الموضوع لغايات متعددة. فالأمر لا يقتصر فقط على حقوقهم الاقتصادية نتيجة إبداعاتهم، إنما هناك أيضًا الحقوق المعنوية.
فعلى سبيبل المثال وفي الولايات المتحدة الاميركية تحديدًا، وظفت شركة مايكروسوفت العديد من المبرمجين لتطوير نظام التشغيل Windows لديها، والذي يُنسب ببساطة إلى شركة Microsoft Corporation. على النقيض من ذلك، تعلن جهارًا شركة Adobe Systems أسماء مطوري ميزة “الفوتوشوب” لديها وتشكرهم فردًا فردًا.
صحيح أنه، في كلتا الحالتين، يكون البرنامج ملكًا للشركة المستخدِمة، إنما لا شك في أنّ للمبدعين الفعليين حقوقًا معنوية. وبالمثل، تنسب الصحف بشكل روتيني إلى المقالات الإخبارية التي كتبها موظفوها، وينسب الناشرون الفضل إلى الكتاب والرسامين الذين ينتجون كتبًا تضم، على سبيل المثال، شخصيات مثل باتمان أو سبايدرمان، لكن الناشرين يمتلكون حقوق التأليف والنشر في العمل.
بالمقابل، هناك الكثير من المقالات المنشورة في المجلات الأكاديمية، أو الأعمال التي ينتجها مستقلون (وغالبًا مغمورون) للمجلات، لا تُعد أعمالًا تم إنشاؤها كعمل للتأجير، وهذا هو السبب الذي يدفع بالناشر لأن يعطي جميع حقوق التأليف والنشر للمؤلف عبر عقد قانوني يوقع عليه كلا الطرفين. بهذه الطريقة، يحتفظ هؤلاء المؤلفون بحقوق التأليف والنشر في أعمالهم.
على الصعيد العالمي، تشجع المنظمة العالمية للملكية الفكرية، خاصة لجنة اتحاد الكتب فيها، بأن يكون الكتاب، على سبيل المثال، متاحًا للجميع حتى للأشخاص الصم، بحيث يكون المنتج نفسه قابلًا للاستخدام من قبل الجميع. ومن المؤسف أنّ نسبة ضئيلة جدًا من المؤسسات أو دور النشر العربية دخلت بالشراكة مع المنظمة العالمية المذكورة لتحقيق هذا الهدف.
في السياق نفسه لا بدّ من الاشارة إلى أنّ هناك عقيدة في الدول الأوروبية خاصة في فرنسا وانكلترا تعرف بمبدأ “عرق الحاجب” Sweat of the brow، وبناءً عليه “يحق لمبدع العمل، حتى لو كان العمل غير أصليّ تمامًا، حماية هذا الجهد بحيث لا يجوز لأي شخص آخر استخدام مثل هذا العمل من دون إذن. وإلاّ وبدلًا من ذلك، وجب عليه إعادة إنشاء العمل من خلال بحث أو جهد مستقل.
والمثال الكلاسيكي هو دليل الهاتف. وتطبيقًا لنظرية “عرق الحاجب”، لا يجوز نسخ مثل هذا الدليل، والبديل يوجب المتسابق بجمع المعلومات بشكل مستقل لإصدار دليل منافس. وتنطبق نفس القاعدة بشكل عام على قواعد البيانات Database”.
بالمقابل، يميل قانون الاتحاد الأوروبي إلى التنسيق بين قانون حماية الملكية الفكرية والمبدأ المذكور أعلاه بين جميع الدول الأعضاء، غير أن مبدأ “عرق الحاجب” يكتسب تأثيرًا كبيرًا من دون شك. و”تلتزم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بمنح الحماية المعروفة باسم حق قاعدة البيانات على قواعد البيانات غير الأصلية، أي تلك التي لا تجسد إبداعًا، ولكنها وضُعت نتيجة لاستثمارات كبيرة”.
كل هذه الأمور تطرح التساؤل حول التشريعات القديمة في عالمنا العربي والتي، للأسف، لم تستطع مواكبة سرعة التطور التكنولوجي، خاصة فيما يتعلق بحماية الملكية الفكرية الأدبية والفنية على وجه التحديد.
ولا شك في أنّ تشريعات حماية الملكية الفكرية في الدول العربية بحاجة بشكل عام إلى إعادة النظر كي تخرج بصورة “نتاج ذهني مبتكر”، على حدّ ما جاء في الفصل الثاني عشر من التقرير عن التعاون العربي في مجال الملكية الفكرية. وقد صنف التقرير الدول العربية إلى ثلاث فئات من حيث التشريعات ضمن هذا الإطار: الأولى، تشريعات تجاوزها الزمن وبحاجة إلى إعادة صياغة.
الثانية، تشريعات ناقصة المحتوى لا تغطي الحقوق الأساسية الواجب حمايتها. والفئة الثالثة المتعلقة بالدول العربية ذات التشريعات القاصرة لا تغطي معظم العناصر الأساسية الواجب حمايتها.
لذلك فإنّ إعادة النظر في وضع تشريعات لحماية الملكية الفكرية هي حاجة ضرورية وملّحة، في ظل التنامي المتزايد للتطبيقات الإلكترونية ونشر البيانات والأبحاث والمقالات على الإنترنت بشكل واسع. وبالتالي فإنّ هذا الموضوع يطرح أيضًا المشاكل التي تواجه المؤلفين، من مادية وفكرية، في ظل البيئة الرقمية.
غير أنّ وضع تشريعات حديثة لمواكبة التطور التكنولوجي في الدول العربية من شأنه المساعدة على تحفيز الإبداع والابتكار لتحقيق نمو ثقافي شامل وتنمية اقتصادية مستدامة. ويبدو أن هناك جهودًا كبيرة تبذل ضمن هذا الإطار من قبل مؤسسات خاصة أو من قبل اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا- التابعة للأمم المتحدة) التي ناقشت في تقريرها في عام 2019 تحديات وفرص الملكية الفكرية في العالم العربي، بحيث خلُصَ التقرير إلى أنّ “الملكية الفكرية في العالم العربي هي قيد الاستغلال، كما أنه توجد فجوة في إنشاء وحماية وتنفيذ حقوق الملكية الفكرية”.
كما تمّ الاستنتاج في التقرير نفسه بأنّ “الخلافات السياسية الداخلية في بعض الدول العربية تؤخر سنّ تشريعات جديدة فيما يتعلق بالملكية الفكرية”، مع الإشارة إلى تحدّ أساسي، ألا وهو “هجرة الأدمغة العربية”، إضافة طبعًا إلى “مشاكل في التمويل والبنى التحتية الضعيفة” وإلى ما هنالك.
أمّا الفرص المتاحة لدى الدول العربية في هذا المجال، فهي ضئيلة ولعلّ أهمها الاستثمار في رأس المال البشري والمعرفي الموجود وبالتالي جعله يساهم في رسم الخطط والاستراتيجيات وصولًا إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
إن يوم 26 نيسان/ أبريل من كل عام هو اليوم العالمي لحماية الملكية الفكرية، ولا شك في أنّ لكل دولة قانونًا خاصًا بها ومدة زمنية محددة للحفاظ على حقوق المؤلف الفكرية. غير أنّ الدراسات والأبحاث حول العالم أجمعت على أهمية دور الدولة في تحفيز الابتكار ليس في هذا اليوم فحسب بل في كل أيام السنة، لما لهذا التحفيز من انعكاس على سرعة نمو الاقتصاد، وعلى مواكبة العقول للتطوّر الحاصل في كل المجالات.