الجوائز العربية .. هل هي وعي مُتأخر أم تقليد غربي ؟
لم تكن الجوائز الأدبية وسيلة جديدة لتكريم المبدعين، فقد كان الشعراء في العصر الجاهلي يحصلون على أعطيات من أغنياء قومه أو الأشخاص الذين يمتدحهم في شعره، كما هو في سوق عكاظ أو بالقصائد التي تسمى بالحوليات، ولجمالها وروعتها سميت بالمعلقات، وهي تعد جائزة معنوية للشاعر. وفي العصور اللاحقة استمرت هذه العادة، حيث كان الشاعر يحظى بالمكافأة من الخلفاء ومن الأثرياء بوصفها جائزة عن قصيدة جميلة أو مدح مرض للنفس.
لكن الجوائز بشكلها الجديد وشروطها وتخصصها هي ابتداع غربي، فلم يهتم الوطن العربي ككل بأمر الجوائز إلا عن قريب، فقد كثرت في العقود الأخيرة الجوائز الأدبية والثقافية، وازدحمت ساحة الإبداع بالكثير منها في رغبة حقيقية لتكريم المثقفين والاحتفاء بهم.
وللجائزة بعدان إنسانيان، فهي من جهة رمز معنوي لتقدير المبدع المتميز الذي يتفرد في عمل أدبي جديد، ويضيف إلى المنجز الثقافي إضافة جديدة ومثيرة للدهشة وذات قيمة معرفية مبتكرة، ومن جهة أخرى تساهم الجائزة في تخليد صاحبها، الذي تحمل اسمه، أو ترفع من قيمة مناسبة، أو ذكرى تسمى الجائزة نسبة إليها.
وتعد الجوائز الأدبية في الأوساط الثقافية الغربية عملية اقتصادية من الدرجة الأولى للأطراف الثلاثة المرتبطة بصناعة العمل الفائز، وهم: الناشر، والمؤلف، والقارئ.
أما في مجتمعاتنا العربية فإن القارئ يصاب بالحيرة إزاء العدد الكبير من الإصدارات، وخاصة في مجال الرواية التي تصدرت ساحة الإنتاج الثقافي واهتمام القارئ أكثر من الفنون الإبداعية الأخرى، حتى قيل هذا زمن الرواية التي تربعت في الصدارة، وسحبت من الشعر لقب ديوان العرب، لكن الحيرة سرعان ما تتراجع عند فوز رواية جديدة التي تمنحها الجائزة انتشارًا ورواجًا، فأغلب الجوائز العربية تمنح لكتب منشورة حديثًا، وقلما تمنح الجوائز لمجمل أعمال الكاتب.
وهذا أيضًا كما في الغرب فإن الناشر والكاتب هما المستفيدان اقتصاديا من الجائزة، حيث ترتفع نسبة توزيع الكتاب الفائز، ويحقق الناشر ربحًا جيدًا، وتحقق للمؤلف شهرة وانتشارًا خاصة أن أغلب الفائزين بالجوائز العربية هم بالضرورة من الشباب.
وقد مرّ زمان كانت الجوائز العربية حالة نادرة وغير معروفة، ولم يكن الأمر يتعدى حفلة تكريم يتنادى لها الأدباء، وكانت صورة الجائزة الوحيدة، التي عرفها تاريخ الأدب العربي، منذ القدم، هي أعطيات الخلفاء والولاة، التي لم تكن بغير ثمن مرّْ، أحيانًا، كما تجرّعه المتنبي، غير أننا نجد، في المغرب العربي، سبقًا إلى إنشاء الجوائز الأدبية، وربما ما كان ذلك ليحدث لولا أن السلطات الاستعمارية الفرنسية أنشأت ما عُرف بـ”جائزة المغرب الأدبية الكبرى”، عام 1925، التي بقيت حكرًا على الفرنسيين حتى عام 1949، حين فاز بها الأديب المغربي، وأحد رواد الأدب الفرنكوفوني، أحمد الصفريوي. وبعد الاستقلال أعيد إحياء الجائزة، عام 1974، ومن الجدير بالذكر أن القاص المغربي، أحمد بوزوفور، رفضها، عام 2009، احتجاجًا على سياسة الحكومة الثقافية.
منذ أوائل التسعينيات من القرن العشرين ازدحمت الساحة بالجوائز تحت مسميات شتى، حتى صرت تحس أنها محاولة للتكفير عن زمن قحط الجوائز وغياب التكريم. ويتساءل المرء، هل هدف كل هذه الكثرة من الجوائز، وخاصة الروائية منها، تقدير المبدعين، وتكريم جهودهم، واعتراف بدور الأدب في الحياة؟ فلماذا، إذن، تأخر العالم العربي، كثيرًا، حينما نجد أن العديد من الجوائز العالمية بدأت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، من مثل: نوبل، وبوليتزر، وغونكور وغيرها؟ أم هو وعي متأخر بقيمة الجوائز ودورها، وخير أن تأتي متأخرة من ألا تأتي أبدًا؟ لا تخلو المسألة من تقليد طبيعي للغرب، بعد هذا الانفتاح على الآداب الأجنبية، من خلال الترجمة، ورؤية مهرجانات الجوائز والمشاركة فيها.
ولا شك أن وسائل الاتصال الحديثة، والعولمة، والابتعاث الأكاديمي إلى الجامعات الغربية، والصحافة، لعبت دورًا في انتشار الجوائز العربية. كما أن رغبة بعض الأنظمة، والحكومات، في تحقيق سمعة تصورها راعية للإبداع والمبدعين يدفعها لذلك. ولا ننسى دور المثقفين أنفسهم في الضغط باتجاه إحداث الجوائز وإقرارها، وأحيانًا، ريادة السبق قبل الدولة في تكريس مسألة الجوائز، كما فعلت أحلام مستغانمي في تكريس جائزة مالك حداد للرواية في الجزائر.
أما على صعيد الواقع الحالي للجوائز العربية، فلا تخلو الساحة من كثرة منها، هنا وهناك، ولكن بعضها موسمي: يظهر، ويختفي، وبعضها لا يملك التمويل اللازم للاستمرار فتجدها تعتمد على قناعة الأثرياء بجدواها، أو على قدرة منظميها في الحصول على دعم جهات أو مؤسسات تؤمن برسالة الجائزة، أو بأهمية إبداع من تسمى باسمه، لإبقائه حيًّا في الذاكرة، وفي أحيان كثيرة تتبرع هذه الجهة، أو تلك، من باب الخجل من مسؤوليتها الاجتماعية، أو اتقاءً لنقد الأقلام، ولهذا لا تعيش الجائزة سوى سنوات معدودة، وربما أقل. وهناك جوائز تفتقد المنهجية والمعايير الواضحة التي تحكم إجراءات منح الجائزة، وأعني بذلك الخطوات والمعايير التنفيذية الواجب مراعاتها منذ إعلان الجائزة، واستقبال الترشيحات، وحتى تشكيلة لجنة النقاد، أو الحكام، ومراحل التنافس وإعلان الفائزين.
لا تخضع قرارات لجان التحكيم إلى التدقيق أو الطعن بها. وفي أحيان كثيرة يكتفي النقاد، في لجان التحكيم، بتقديم فقرة إنشائية عامة يضمنونها ميزة العمل الذي تم اختياره، من غير تقديم أي ورقة نقدية، أو تعليل المنح، بشكل كاف أو نشر حيثياته، أو حتى نشر مداولات النقاش والتصويت على الرواية الفائزة، التي ربما يظهر للملأ حجم اعتبارات الشخصنة، والمجاملة، والهيمنة، من طرف أعضاء على آخرين، وتأثير العلاقات العامة والمصالح المتبادلة.
في أحيان كثيرة تتغافل الهيئات المشرفة، على تنظيم الجوائز، مسألة الاتصال والتواصل مع المشاركين الذين شاركوا في التنافس على نيل الجائزة، مثلما تتغافل عنهم، بعد ذلك، إذا لم يفوزوا، ولا تفكر في بحث دعمهم ماديًّا، أو معنويًّا، أو دعم نشر أو ترجمة أعمالهم، إذ لا بد أن من بين من تنافسوا على الجائزة من قدموا أعمالاً جيدة تستحق الدعم، برغم عدم فوزها. إن غياب الخبرة المتراكمة، والفساد الإداري، والخلط بين الشخصي، والمهني، ووقوع القائمين علي الجائزة تحت ضغوطات الصداقة والاعتبارات الذاتية والمصلحية الأخرى، تجعل من بعض الجوائز عالمًا من الغموض.
ومن الجوائز المهمة: الجائزة العالمية للرواية العربية، المعروفة باسم البوكر العربية. وتعَدُّ الجائزة ثمرة تعاون مشترك بين المؤسسة التي تمنح جوائز البوكر، في بريطانيا، بين ومؤسسة الإمارات، في أبو ظبي. وقد تم إعلانها في بداية عام 2007، وتبلغ مكافأتها المالية عشرة آلاف دولار لكل رواية تصل قائمة الترشحات النهائية، وخمسين ألف دولار للفائز. وتغير إدارة الجائزة لجان التحكيم في كل عام، وتتبع المعايير ذاتها المتّبعة في إجراءات الترشيح والاختيار كما في النسخة الإنجليزية.
وقد اعتادت الساحة العربية على كثير من اللغط والتشكيك وحملات المقاطعة، التي ترافق مجريات المسابقة، عبر مراحلها الثلاث، إلى حين إعلان الرواية الفائزة. ولكن اللافت، في عام 2010، كان الخلافات بين أعضاء لجنة التحكيم، بصورة علنية، في الصحافة، ووسائل الإعلام، ما كاد يعصف بالجائزة، ويعطل مسيرتها، بعد انسحاب بعض أعضائها، واتهام البعض الآخر بأن لهم يدًا في صفقة تهدف إلى فوز رواية ما.
تقول الكاتبة فاطمة المحسن: سألتُ إحدى المشاركات في لجنة جائزة البوكر العربية لسنة سابقة: كيف قرأتم الروايات المرشحة، وهل بمقدوري مثلاً أن أقتنع أن أديبًا لديه من الوقت والمزاج كي يقرأ ثلاثين رواية وفي وقت لا يتجاوز الثلاثة أشهر، وأعرف بين المشاركين من لا يطيق قراءة رواية واحدة لغيره، فكيف استطعتم غربلة هذه الأعداد الكبيرة من الروايات؟
قالت بالطبع لم نُتعب أنفسنا، خذيني مثلاً، أنا ابدأ بالرواية من الصفحات الأولى، فأدرك أنها تستحق المتابعة أم لا، بل في أحيان من السطور الأولى، فأنتقي منها حسب ذائقتي وأقرر حينها الاستمرار، ولن تكون حصيلة ما أقرأ سوى روايتين أو ثلاث. بعدها أمرر الخبر إلى الزملاء عبر الإنترنت، وأنصحهم بالرواية التي قرأت وغيري يفعل مثل ما أفعل، وهكذا نجد أنفسنا على اتفاق في النهاية حول القائمة القصيرة ثم الرواية الفائزة.
ولم تتح لي فرصة سؤال أحد المشاركين في المسابقات الأخرى، عن كيفية قراءة البحوث المقدمة مثلاً إلى لجان التحكيم، ولكنني أجزم أن الطريقة التي تحدثت عنها الصديقة المشاركة في جائزة الرواية، تشبه تلك التي تتعلق بالبحوث، فالعرب يملكون من قوة السبر والعلم بالغيب ما يخولهم إدراك العمل الجيد من الرديء بمجرد قراءة السطور الأولى.
أدت حمى جائزة البوكر، بالإضافة إلى الجوائز الروائية الأخرى، إلى طفرة ملحوظة في إنتاج الروايات وتدفق نشرها، حيث صار الروائيون يعكفون على تأليف روايات بغية المشاركة في الجائزة، بالمقام الأول، فصرت تلاحظ أن كثيرًا من الروائيين العرب، الذين اعتادوا تأليف الروايات، ونشرها، على مدى سنوات متباعدة، يستعجلون إنتاج رواية، كل سنة. بل صرنا نسمع قصصًا عن كتاب لا يراجعون رواياتهم، من أخطاء إملائية أو نحوية أو طباعية أو معرفية أو أسلوبية، ووصل الأمر إلى تغيّر أسماء الشخصيات في أثناء الرواية، ونقل عن أحدهم قوله: “في الوقت الذي أدقق فيه روايتي أكون قد ألفت رواية أخرى”.
خاص – مجلة فكر الثقافية