سردياتنقد

ديفيد هيرمان والسَّرد المعرفي

شهد النقد في الولايات المتحدة الأمريكية، منذ نهايات القرن العشرين اهتماماً ملحوظاً بمجاراة النقد الأوروبي الأنكلوسكسوني، وتحديداً النقد الفرنسي، محاولاً مضاهاته من خلال الدفع بمنظورات جديدة لتبنى على خلفية نظريات كانت قد توطدت أركانها غربياً، وتحددت مواضعاتها عالمياً، مما يتعلق بالمنظومة الثقافية عموماً، والنظرية الأدبية خصوصاً.


ولا يخفى ما وراء هذه المحمومية في التنافس والتجاوز، من رغبة عارمة في زعزعة الهيمنة الأوروبية على النقد الأدبي، لتكون لصالح النقد الأمريكي الذي يراد له أن يشكل متروبولية ثقافية، موازية لمتروبولية الولايات المتحدة في أمركة المجالات المختلفة عالمياً.


وهو ما نجده واضحاً منذ ثمانينيات القرن الماضي، سواء في طروحات النقاد الأمريكيين، مثل جيرالد برنس وفورست أنغرام وتيري أيغلتن وروبرت لوشر وسوزان هارفر وديفيد هيرمان، أو في طروحات المفكرين من أمثال نعوم تشومسكي وفوكوياما وهايدن وايت وغيرهم.


وما عمله ديفيد هيرمان في هذا المجال هو التعامل مع النظرية السردية بمنظور ما بعد بنيوي؛ يتعامل مع السرد بوصفه علماً يخضع للنظر العقلي، وذلك في كتابه «النظرية السردية:مفاهيم جوهرية ومناقشات نقدية Narrative Theory: Core Concepts and Critical Debates،  الذي ألفه هيرمان بالاشتراك مع جيمس فيلان وآخرين، والصادر بطبعته الإنكليزية عن جامعة ولاية أوهايو 2012، محاولا فيه استكشاف العلاقة بين السرد والعقل غير المحاكي أو المضاد للتقليد.


والمثال الذي طبّق عليه منظوره هو رواية «شاطئ شيسل» 2007 للروائي الإنكليزي أيان ماكوان متخذا من الثلاثي (السرد ـ العقل ـ الميديا أو وسائط التواصل) أدوات بها يفسر السرد، بوصفه علما عبر تأسيس مقاربات ما بعد البنيوية (يسميها ما بعد كلاسيكية) لأنماط جديدة، بها تصنع عوالم قصصية تنفتح على ميادين معرفية شتى.


ويشرح هيرمان منظوره الثلاثي (السرد/ العقل/ الميديا) في السرد المعرفي الذي أراده مشروعا أوسع للسيميائية المعرفية، يفيد من مجالات علم النفس الاجتماعي وعلاقة السرد بالوعي، أي وعي الرواة ووعي الشخصيات، وعن ذلك يقول: «إنني لا أدرس الأدب بشكل عام، بل السرد الأدبي كنظام تمثيلي، واقترح إطارا عاما لتحليل رواية القصص متعددة الوسائط، أو أشكال الممارسة السردية التي تستغل أكثر من سيميائية لتمثيل المواقف والأشياء والأحداث، في العوالم المروية، فيكون التثليث نظاما سيميائيا يساعد على سرد القصص».


ومن مؤلفات هيرمان التي فيها طرح مشروعه عن السرد المعرفي «منطق القصة: إشكاليات وإمكانيات السرد» 2002 و«أنسكلوبيديا نظرية السرد» 2005 و«الحوار في سياق الخطاب» 2006 و«رواية القصص وعلوم العقل» و«كتاب دليل كامبريدج السردي» 2007 و«العناصر الأساسية للسرد» 2009 و«الكلمة الصورة في دراسة تعددية رواية القصص، حول السرد والتعددية» و«كتاب النظرية السردية بعد الثورة المعرفية الثانية» 2010 و«السرديات الكلاسيكية وما بعد الكلاسيكية».

وهذا الكتاب عبارة عن حوار مطول مع ديفيد هيرمان وجيرالد برنس، أجراه باحثان صينيان على هامش المؤتمر الدولي الثالث للسرديات في الصين عام 2012.

وتأثر هيرمان في تبنيه لمفهوم السرد المعرفي، بريشاردسون وفرانسيس ستين وأفكارهما حول الثورة المعرفية في البحث الأدبي. كما تأثر بويمزات وبرادلي وكلامهما عن المغالطة القصدية وكيف أن القصص تستند إلى أنظمة مقصودة، ومنها نظام اللغة الذي به يتم نقل المعنى.


والأدب واللغة ـ حسب هيرمان ـ أفعال العقل البشري اليومية، وأن دراستهما تعبير عن أجهزة مفاهيمية في تجسيد العقل وقدراته على أداء الأعمال اللغوية والأدبية. ومن السرد المعرفي اشتق مفهوم (علم السرد ما بعد الكلاسيكي) كاتجاه من اتجاهاته.

وهو يعني التحقيق في المرجعية السردية، أو البعد المرجعي للسرد التي تنمذج العالم، باعتماد العلم التجريبي بما يوسع نطاق السرد ويكشف العلاقة بين السرد والعقل.

وأشارت مونيكا فولدرنك في كتابها المشترك مع جان البير والموسوم «السرد ما بعد الكلاسيكي مقاربات وتحليلات» Postclassical Narratology ,Approaches and Analyses بطبعته الإنكليزية، أوهايو، 2010 إلى أن هيرمان وضع هذا المفهوم، أي (علم السرد ما بعد كلاسيكي) كمنظور سردي ما بعد بنيوي وعبر تخصصي وعرفه بأنه «السرد الذي يتألف من نصوص ومتواليات وقصص ويتمتع بوفرة الفرضيات ووجهات النظر».


وقد أكد هيرمان في بحثه الموسوم «اتجاهات في السرد المعرفي» أن هذا السرد هو الذي يحرّف السرد عن النموذج البنيوي الكلاسيكي حسب هيرمان، بشكل محسوس، جاعلا عالم السرد مسرحا للتأثيرات الخارجية السياقية، ومستفيدا من وسائط التواصل الافتراضية، ومن العلم المنطقي، مستوعبا أفكار السرد ما بعد الاستعماري، والسرد النسوي، وسرد الإثنيات، وكذلك أفاد من تقنيات الأفلام والرسوم المتحركة ومن مفاهيم العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية والمصرفية والرياضية.


ولا عجب أن تتصادى رؤية هيرمان العقلية للسرد، بوصفه علما مع رؤى السرديين البنيويين، الذين مثّلوا ذروة الثورة البنيوية، كرولان بارت وجيرار جينيت وتودوروف وكلود ريموند وغريماس، كونهم اشتغلوا على العناصر المركزية للسردية، بمعنى الوقوف الأحادي عند المسائل الداخلية للنص؛ لكن هيرمان تناسى أن بعض هؤلاء السرديين طور طروحاته تأثرا بباختين ودريدا وفوكو وأدورنو، متعديا البنيوية في صرامتها وانغلاقيتها، إلى رحابة ما بعد بنيوية تنفتح فيها حدود النص وتتداخل تعالقا وتناصا، بما يجعل للسرد إطارا لامركزيا، يتعدد بتعدد حقول المعرفة، كتحليل الخطاب والفلسفة وعلم النفس ونظرية السرد نفسها، ودراسة نظام الرموز، وغيرها.


ومما يراه هيرمان في السرد ما بعد الكلاسيكي، أنه إذا كان يتضمن في المرحلة الأولى دمج الأفكار التي تقع خارج نطاق النظرية البنيوية، وفي المرحلة الثانية يتضمن تحديات صناعة العالم السردي، من خلال الكلمة والصورة؛ فإن بناءه يعاد في المرحلة الثالثة، على أساس المخطط النصي نفسه، كنوع من 0الحوار بين القارئ والمؤلف، عبر منظور معرفي للوعي الخيالي، وكأنما يلعب القارئ الشطرنج مع المؤلف بناء على مفهوم النية أو القصد، فخيال المؤلف يتدفق من العالم إلى العقل، بينما خيال القارئ يتوجه من العقل إلى العالم.

يقترح هيرمان، أنه لو يقدم الحدث في التسلسل للمسار المرجعي الأساس، لكانت القصيدة مختلفة جدا، ولتم صنع عالم حقيقي فيه الراوي لا ينخرط بشكل علني ومباشر مع الشخص الذي أصبح عدوا له.

وبهذا يمارس القارئ حريته التفسيرية وبالشكل الذي يوسع نطاق القراءة، مما يسميه هيرمان (الموقف المعتمد)، فالخطاب ليس مجالا للتعبير، بل هو مجال للمساءلة العامة. وقد وجد هيرمان تطبيقات هذا المفهوم في سرديات الموتى والشياطين، التي فيها يكون الوعي بالوعي كامنا في هيكل المراقبة للعالم، التي لا يمكن اختزالها في وجهة نظر ذاتية أي في منظور الشخص المتكلم.


وواحدة من سرديات الموتى قصيدة بليك «شجرة السم» التي اتخذها هيرمان مثالا على السرد ما بعد الكلاسيكي، نظراً لما فيها من وسائط متعددة كالصور والإيماءات، والإيقونات، والطباعة والتلوين، التي تجعل السرد المعرفي منتجا لثلاثية (السرد/ العقل/ الميديا)، فيكون السرد إطارا عبر تخصصي، يندمج فيه السرد المعرفي بالوسيط الافتراضي، ليعملا عبر تواصل دينامي سيميائي له صلة بالعقل، وفيه تحضر وجهات نظر الآخرين. وهو ما لا توفره السرديات البنيوية (الكلاسيكية) أحادية القناة.


ومما وضحه هيرمان في هذه القصيدة هو كيف يدمر الإدراك العقلي لفعل الرؤية الخاص عمل الراوي، يقول هيرمان «إن أكثر أعمال الراوي تدميرا هي أفعال العقل بما في ذلك فعل رؤية السرد لوفاة شخص هو الراوي نفسه، من خلال فعل ذهني آخر يتحول إلى عدو يراقب الإنسان من الداخل»، أي أن الشخص الميت ينظر إلى نفسه على أنه العدو، بينما المطلوب أن يكون الراوي الذاتي للشخص صديقاً.


وهذا التفسير يأتي جراء استدعاء العقل والوسائط التواصلية داخل السرد، التي تجعل الراوي العليم الكلاسيكي البنيوي يفشل في التصالح مع خصائص السرد المرجعية، التي تخلق العالم بشكل متوقع عقليا. وهذا مبدأ أساس ومهم للعقل، يدعم صناعة عوالم السرد، ويؤكد الحاجة إلى النظر إلى كيفيات أخرى تتعلق بتوظيف الأفعال واستعمال الضمائر.


ولهذا يقترح هيرمان، أنه لو يقدم الحدث في التسلسل للمسار المرجعي الأساس، لكانت القصيدة مختلفة جدا، ولتم صنع عالم حقيقي فيه الراوي لا ينخرط بشكل علني ومباشر مع الشخص الذي أصبح عدوا له. وفي سردنا العربي القديم والحديث أمثلة كثيرة على سرود الأموات، والذين هم في غيبوبة تطول أو تقصر، والحيوانات والأشباح والجوامد التي توفرت لها القناعة السردية بعدم استحالتها من داخل نصوصها.


وفي أدب الحروب ومنها، الحروب العراقية كثير من القصص التي تصور الأموات وعودتهم إلى الحياة ثانية وسرد مجريات الأحداث التي مروا بها، أو حوار الجثث مع الجثث، ويمكن العودة إلى ذلك في نصوص كثيرة. واليوم بعد أن مرّ أكثر من عشرين عاما على طرح هيرمان لمفهومه (السرد ما بعد الكلاسيكي) عام 1997؛ فإن لا صدى عالميا له إلا صداه في النقد الأمريكي.


فهو مفهوم استعادي لنقد الأربعينيات، أي الحقبة التي ظهرت فيها أولى نظريات السرد قبل البنيوية، مع الإفادة طبعا من مدرسة شيكاغو في الثمانينيات، وما طرحته من رؤى نقدية حول دراسة العلاقة بين السرد والواقع.


ومؤدى القول إن ما يطرحه ديفيد هيرمان، حول استعمال العقل وتوظيف الوسائط الافتراضية في السرد، وأنها تحفز القارئ، وتجعل له موقعاً يضاهي موقع المؤلف، هو نوع من الالتفاف والتحايل على طروحات الأوروبيين ما بعد البنيوية، حول التلقي والقراءة. ومثل هذه الالتفافات لن تنطلي على النقاد الذين لا يهمهم من، ومن دون أي تدقيق في أهلية أصحابها وأصالة ما يوظفونه فيها وحقيقة الغايات التي تقف وراء تلك المسميات.


  كاتبة من العراق.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى