الحرافيش .. ملحمة حياة
ما أشد عشقه للحكايا .. للمقطوعات القصصية التي تختصر على عجالة بين سطورها حياة كاملة، ما أعذب الأناشيد والغموض وسحب القادم المنتظر وآمال الغد المأمول المنعقدة على جبين كلماته..
فكرتُ، أن كل هاته الحيوات في ملحمة الحرافيش ليست بخرافة، ليست مجرد حكايات ابتدعتها مخيلة واسعة لكاتب، لا بل هي حقيقة ، قصصًا وحكايا دار عليه الزمان، أحداثًا وقعت يومًا ما تحت أديم السماء، وشهدت عليها الشمس وهمهمة الخماسين، شهد عليها تراب الحارة المصرية القديمة، شهد عليها باب التكية الذي يشدو بالألحان العجمية واستكانت إليها أرواحًا عديدة من أجيال عائلة الناجي ..
لكأن نجيب محفوظ لم يؤلف بل عاد بعجلة الزمن وسجل حياة هؤلاء الإنسي، لكأنه مستبصر تتراءى له أزمنة تليدة نبضت فيها قلوب وعشقت وخانت وأوفت ثم طواها الثرى ومضى الزمان يُنسيها لمن أكملوا المسير .. لكأنه رآهم عاشرهم وجلس وإياهم على البسط والحصير في بيوتهم الضيقة واستضافه علية القوم في دواوينهم فوق الأرائك المخملية وبين رائحة الطيب واللوز والعسل ..
وإلا كيف أتيح له رسم لكل شخصية خط حياتها بهذه الدقة ! كيف ترتبت له أحداث عمرها، كيف فتحت مغاليق صدره ومكنونات قلبه أمامه، كيف بصره يعشق ويغدر ويُغدر به ويصلح ويبطش وينام ويفيق وتتبدا له خواطر قلقه وتتكشف بين يديه هواجس نفسه وخبايا فكره.. ما أبدعك من كاتب ومفكر يا نجيب محفوظ!
الرواية تشبه حديث الصباح والمساء لمن أسعده الحظ بقراءتها، غير أنها تتبع سلكًا منظمًا لأجيال تعاقبت من ذات الأسرة، بدأت بعاشور الناجي، وانتهت بالحفيد الذي ولد بعده بعشرات السنين، لكن كليهما ولد تحت سماء الحارة نفسها وتربى بين أزقتها وذاق من مرارة أناسيها وعاش بين جنبات الحرافيش منها.
عاشور الجد كان لقيطًا عثر عليه شيخ صالح وآوته زوجه سكينة إلى حضنها وحنانها وهي قد حرمت الذرية، أخو الشيخ درويش هو من مكث معه بعد وفاة الشيخ ورحيل سكينة إلى قريتها، كان عاشور ضخم يوصف بالعملقة لكنه رقيق القلب قد تشربت روحه تعاليم الشيخ الراحل ومُثُله وامتلأ جنانه بتقوى الله والورع، وعرف مهنة أخيه كلص وقاطع طريق فتفرقت طرقهما وبدأت الرحلة الطويلة، وُفق إلى العمل عند رجل طيب وتزوج بزينب ابنته التي أعجب بها من خفية وحفلت الحياة بالأحلام،
ثم مات أبويها وأنجب الأبناء ومضى العمر وإذ ببنيه يألفوا الخمارة التي بناها درويش وينشب الشجار بينهم على ساقية الخمر الحسناء فلة، يضربهم ويؤنبهم ثم تشعل فلة حواسه فيختارها للزواج ويجدد معها العمر، تقبل زينب بعد نحيب طويل، يحدث الوباء في الحارة الصغيرة، ويجمعهم شيخ الحارة ليبلغهم بتعليمات الحكومة اجتنبوا المجامع واحرصوا على النظافة ويقرر عاشور بإلهام المنام أن يعتزل الحارة ويهاجر إلى أرض خلاء ويأبى الجميع الرحيل معه عدا فلة ووليدها شمس الدين وبعد الإياب بستة أشهر تتكشف لهم الحارة صامتة خاوية إلا من البيوت المقفرة من أهلها ويعلم عاشور أن الوباء قد أهلك سكان الحارة جميعًا فيسكن دور الأغنياء التي قد خلت منهم ويفيض بماله على الفقراء الجدد والحرافيش الذين تسللوا إلى الخرابات مرة أخرى ويقيم الحارة الجديدة على العدل والإخاء ويجدد حوض سبيلها وكتابها وزاويتها، وبهذا قامت أسطورة عاشور الناجي، تعلم الحكومة بأمر استيلائه على ديارًا ليست له فتسجنه عامًا يعود بعدها لمنزله القديم لكن يبقى شأنه وتدوم حظوته الجديدة بين قومه ويلقب بعاشور الناجي، ويعلن فتوة الحارة وسيدها .. وبعد أعوام طويلة يشب فيها شمس الدين ويغدو صبيًا على أعتاب الشباب يختفي عاشور تمامًا ولا يُعلم حتى انتهاء صفحات الرواية كيف اختفى وإلى أي أرض جديدة ارتحل ..
وتتوالى الحكايا، كل حكاية تقص نبأ جيل جديد مع التركيز على أحد أفراده وتتنوع المصائر وتختلف الأقدار وتتشت السبل، ويخرج من بين ظهراني الصالح طالح وينجب الطالح صالحًا، وتجتذب النساء كل فرد جديد، منهم من يتخير المرأة الصالحة الفطنة العذبة ومنهم من يوقعه شره في براثن البغايا أو المرأة الحقود المشاكسة، ويتناسى الجيل الجديد الفتوة وأهميتها ويذبل ذكرى أسطورة الجد عاشور الناجي ..
وتنفرد قلة من العائلة بعشق أناشيد التكية، والسباحة في ظلمتها الليلية والإنصات لهدهدات الفضاء في أديم سمائها، بجوار شجر التوت ووسط تراتيل الأناشيد الأعجمية، كما هفا لذاك قلب عاشور الأول.
وتسخر الأحداث من البطش وممن تحدى الموت وخافه، كما تسخر من القوة في غير محلها ومن الضعف أمام الجبروت والشيطنة، ويذهب خمر البوظة بعقول عدد من رجالات العائلة، ويفوز المجتهد دومًا منهم بنصيب من الخير والتمكن والاستقرار والزوج الطيب والذرية البارة، في حين يقتل أخٌ منهم أخاه، وآخر يبطش في عاصفة غضب بأبيه، وتمضي الأيام ولا تنجب بطن ابن صالح كما كان عاشور الأول ..
ومن أجمل ما رسخ محفوظ في قصصه أنه لا يهم تاريخ الابن الجديد ،لا يهم من كان أبيه أو أمه، أي جنون أو أي خير حفل به عمره الأول ، كل ما يهم هو ما تصنع يداه، ما تجنيه عاقبة أفعاله، ما يبذر هو من خير أو شر في حقل لياليه، وهذا هو بحق ما يملك من الأثر والسطوة عليه، هذا هو ما يذره من بعد أن يأخذه الموت فيمن أخذ.
ويسهب محفوظ في بسط مكنونات صدور الأسرة أمامك حتى تخال أنك تعرفهم واحدًا واحدًا عن ظهر قلب، أنهم أهليك وجيرانك، وأنك لا محالة التقيتهم يومًا وجالستهم وسط بنيهم، وباحوا لك بدفين أسرارهم وأنت تصغي وتتعلق ثم لا تملك إلا أن تتركهم يرحلون وتقلب الصفحة عن حكاية جديدة وفصل جديدة وآل ناجٍ آخر ..
حتى تنتهي صفحات الرواية بعاشور الحفيد، ويلقى من الظلم ما لقي الأول، لكنه يتعلم ويفهم ويعتبر أكثر، حتى إذما أوتيت له الفتوة والقوة، جعلها تنبت من بين ظهراني الحرافيش البسطاء، ثم علمهم كيف ينشّئوا على القوة ذريتهم وعلى العلم والفقاهة وعلى الحرفة التي تغني عن ما في أيدي الناس، جعل القوة منهم ولهم وفيهم كي لا يأخذها أحد منهم من بعده كما علمه التاريخ بعد صنعة جده.
ويسبح عاشور الحفيد مع أناشيد التكية في ليلة ذات نسمة وعبق، “وتم له أعظم نصر، وهو نصره على نفسه.. وعقب منتصف الليلة ذهب إلى ساحة التكية لينفرد بنفسه في ضوء النجوم ورحاب الأناشيد. تربع فوق الأرض مستنيمًا إلى الرضا ولطافة الجو، لحظة من لحظات الحياة النادرة التي تسفر فيها عن نور صاف، لا شكوى من عضو أو خاطرة أو زمان أو مكان، كأن الأناشيد الغامضة تفصح عن أسرارها بألف لسان، وكأنما أدرك لم ترنموا طويلًا بالأعجمية وأغلقوا الأبواب”.
وإذا ببابها يفتح ويطل منه درويش أخو عاشور الجد ويهمس له وسط ذهوله “استعدوا بالمزامير والطبول، غدًا يخرج الشيخ من خلوته، ويشق الحارة بنوره، وسيهب كل فتى نبوتًا من الخيزران وثمرة من التوت، استعدوا بالمزامير والطبول”..
وكأن الكاتب شاء بهذا إعلامنا بمكان عاشور الجد وبانضمامه للمنشدين بالأعجمية وراء باب التكية.
إن في لغة الرواية من العذوبة والرقة ما يملك عليك قلبك ويأسر حواسك حتى لا تكون في أي مكان خلا في قلب الحارة العتيق، تسمع وترى وتحس وتتأثر، وتدمع وتضحك، بل وحتى تعشق وتتوجع.
وتستغرقك الرواية فتعجب لعجلة الزمان تدور فلا تُمهل عدوًا أو حبيبًا، ولا تُرجئ الضحكة أو العبرة ولا تنتظر حضورًا أو غيابًا، وتَعجب لاضمحلال القوة واستحالة الكهول أطفالاً، وخور الجسد بعد اشتداد عوده ،وإذا بك تشعر فجأة أنك كهلٌ عجوز، وتدرك كم أن اندراس الأيام سيطويك يومًا لا محالة وكم أن حوادث الدهر واحدة وكم أن الرحيل المحتم قادمًا، وهذا ذات ما أشعرتنيه روايته الرائعة حديث الصباح والمساء.
رحم الله الكاتب الكبير والمفكر الراحل.
رقية نبيل عبيد / الرياض