الصراع في السودان أمام خطر الانزلاق إلى حرب ممتدة
يحذر محللون من أن القتال المستمر ينذر بانزلاق السودان إلى حرب ممتدة، تعكس في ظاهرها عمق الخلافات بين الأطراف المتحاربة والجماعات المسلحة في الخرطوم لكنها تكشف التدخلات الخارجية ولعبة المصالح التي تمارس على الأرض.
الخرطوم – ما زال الصراع العنيف في السودان في تصاعد منذ اندلاعه في العاصمة الخرطوم في 15 أبريل الماضي، وامتداده السريع إلى مناطق أخرى.
وقد أتى القتال بعد أشهر من التوترات التي طال أمدها بين القوات المسلحة السودانية، بقيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني، وقوات الدعم السريع، بقيادة محمد حمدان دقلو. ولقد أدى الخلاف بين الحليفين السابقين إلى تعطيل اتفاق إطاري سياسي متعثر تدعمه قوى دولية لإعادة البلاد إلى الحكم المدني.
كشفت الخلافات عن صراع شرس على السلطة بين الجيش وقوات الدعم السريع في فترة ما بعد المرحلة الانتقالية. وتراوحت موضوعات الخلافات بين الجدول الزمني لدمج قوات الدعم السريع في الجيش وبين القضايا المزعجة المتعلقة بأمور القيادة والسيطرة، مع الخلافات حول توزيع الرتب والرواتب.
- جذور عميقة
يرى المحلل السياسي ديفيد واماجو واجوتشا في تقرير لمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة أن القتال بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع هو امتداد لتوازن إستراتيجيات القوى المعقدة التي أثّرت في المسرح السياسي في عهد الرئيس السابق عمر البشير.
فلقد أراد الأخير الحفاظ على بقاء نظامه فلجأ إلى شبكات المحسوبية لتفريق الوحدات الأمنية المختلفة لتقليل خطر وقوع انقلاب من جيش موحد.
وهكذا اتبع البشير أثناء حكمه إستراتيجية “فرّق تسد” للحد من التهديد العسكري من خلال وضعه لنظام الضوابط والتوازنات بين الوحدات، وهو الأمر الذي استمر لسنوات، فأثارت هذه السياسة تنافسا وصراعا شديدين على النفوذ، وخلقت خصومات عميقة بين الوحدات الأمنية.
فضلاً عن ذلك، دعم البشير الميليشيات القبلية في أطراف البلاد من خلال تسليحها لتقف ضد الجماعات المسلحة المعادية لنظامه. ومن الطبيعي أن تؤدي هذه الإستراتيجية إلى انتشار الجماعات المسلحة، مما أدى إلى عدم اقتصار استخدام القوة والعنف على جهات رسمية معينة في هذه المناطق، بل امتد إلى فئات أخرى كثيرة.
ولقد ظهر دقلو على ساحة الأمن القومي بصفته قائدا لميليشيا “الجنجويد” التي ترعاها الخرطوم، والتي نظمها جهاز الأمن والمخابرات الوطني من أجل التصدي للمتمردين في جنوب دارفور إبان الحرب الأهلية 2003 – 2005.
وفي عام 2013، ضم البشير “الجنجويد” إلى قوات الدعم السريع باعتبارها وحدة أمنية منفصلة لمحاربة الجيش الشعبي لتحرير السودان – متمردي الشمال في جبال النوبة.
واستمر صعود قوات الدعم السريع منذ ذلك الحين، وفي نوفمبر 2017، سيطر مقاتلو قوات الدعم السريع على مناجم الذهب الحرفية في جبل عامر في دارفور، وهو أكبر مصدر لعائدات التصدير في السودان.
القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع هو امتداد لتوازن إستراتيجيات القوى المعقدة في عهد الرئيس السابق عمر البشير.
وهكذا تمتع دقلو بسيطرة مطلقة على واحد من أكبر مصدرين للعملة الصعبة في البلاد. واستغل دقلو هذه الموارد لتجنيد الأفراد وضمهم لقوات الدعم السريع، وتجهيز القوات تجهيزاً هائلاً، حيث يقدر عدد أفراد قوات الدعم السريع بحوالي 75 ألف إلى 100 ألف مقاتل في عام 2021 مقارنة بعدد جنود القوات المسلحة السودانية الذي تراوح من 120 ألف إلى 200 ألف جندي.
ومما لا شك فيه أن صعود دقلو السريع ليصبح قوة محركة رئيسية في قلب المجال السياسي السوداني قد أدى إلى زعزعة الجيش السوداني لأنه هدد هيمنة القوات المسلحة السودانية، مما أشعل تنافساً شديداً بينهما.
وأدت الأزمة السياسية المطولة التي أعقبت الإطاحة بالبشير عام 2019 إلى تفاقم التنافس بين البرهان ودقلو، حيث استغل كل منهما الأوضاع لبسط نفوذه وتأمين مصالحه في فترة ما بعد المرحلة الانتقالية. وهكذا حافظ الاثنان على تأجيج تنافسهما، وأثارا مخاوف من تصعيد محتمل من أجل انتزاع تنازلات سياسية من المدنيين.
ولقد أتت إستراتيجيات حافة الهاوية السياسية بثمارها عندما انقسمت الأحزاب التي يقودها المدنيون حول إقامة حكومة انتقالية بتمثيل عسكري أم من دونه.
ورفضت لجان المقاومة الشعبية والحزب الشيوعي السوداني التوقيع على الاتفاق الإطاري السياسي في شهر ديسمبر 2022 زاعمين أنه يضفي الشرعية على الجيش من خلال تقاسم السلطة.
وندد دقلو بانقلاب أكتوبر 2021 باعتباره خطأ، وذلك بعد احتجاجات موسعة شهدتها الشوارع السودانية في فبراير مطالبة بحكومة انتقالية بقيادة مدنية. وكان هذا تحولا كبيرا لأنه أكد علنا الاختلافات القائمة، ولاسيما مع ما ورد من أنباء حول إحجام دقلو عن المشاركة في الانقلاب.
وللتغلب على دقلو، أعاد الجيش التواصل مع الإسلاميين، وليس الأعضاء السابقين في حزب المؤتمر الوطني بزعامة عمر البشير فحسب، وذلك من خلال إعادة تعيينهم في مناصب حكومية مهمّة واستعادة الامتيازات التي كانت ممنوحة لهم.
ويرى المحلل السياسي أن لدى الموالين للبشير داخل الجيش مخاوف من دقلو ترتكز على سيناريوهين سياسيين: أولهما، أنهم يخشون من التوصل لاتفاق سياسي يسمح بجدول زمني أطول لدمج قوات الدعم السريع في الجيش، مما قد يلحق ضررا كبيرا بنفوذهم الاقتصادي والسياسي. وثانيهما، أنهم يزعمون أن دقلو تخلى عن البشير أثناء انقلاب 2019.
- تفكيك مجتمعي
يشدد المحلل ديفيد واماجو واجوتشا على أن الصراع بين دقلو والبرهان يهدد بتفاقم الانقسامات الاجتماعية في السودان، وتأليب النخبة المهيمنة سياسيا الواقعة على وادي النيل (والتي ينتمي إليها البرهان) ضد من يعيشون على أطراف الدولة السودانية (الذين يمثلهم دقلو).
والجدير بالذكر أن العنف الحالي يختلف عن النزاعات السابقة حيث يسود القتال في المقام الأول قلب السودان وليس أطرافه، وهو ما قد يفيد قوات الدعم السريع، التي أبرمت عدة اتفاقيات مع الجماعات المسلحة في معقلها في دارفور، للتركيز على القتال في قلب البلاد.
علاوة على ذلك، قد يسفر القتال من الناحية الفنية عن انهيار اتفاق جوبا للسلام الذي تم توقيعه في أكتوبر 2020 بين الحكومة والميليشيات والمتمردين. ومن هنا يزيد خطر عودة بعض الجماعات لنشاطها إما على نحو فردي أو من خلال تحالفها مع أحد الأطراف المتحاربة.
ولا يزال هذا الخطر قائما إذا ما أخذنا في الاعتبار الأنماط المتكررة عبر التاريخ، والتي تبرز تقلب العلاقات بين الجماعات المسلحة، وتكرر إقامة التحالفات وإعادة تشكيلها.
بالإضافة إلى ذلك، هناك مخاوف من أن الجماعات المسلحة المقاومة قد تستغل الأزمة الحالية لاستئناف الهجمات، ومنها الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال بقيادة عبدالعزيز الحلو، وهي أكبر جماعة سودانية متمردة تسيطر على مناطق كبيرة في جبال النوبة.
السودان سيخاطر بالانزلاق إلى حرب بالوكالة حيث ستدعم دول مختلفة الطرف الذي يحقق مصالحها على نحو أفضل.
وقد يخلق الصراع العنيف في السودان حالة من انعدام الأمن بين مناطق وسط أفريقيا والقرن الأفريقي المعرضة لنشوب صراعات هي الأخرى، فلقد وردت تقارير عن انتشار ميليشيات عربية من جمهورية أفريقيا الوسطى وتشاد ومالي للانضمام إلى القتال في ولاية جنوب دارفور عبر ولايتي غرب وشمال بحر الغزال في جنوب السودان، وشن هجمات في تلك المنطقة.
ويوجد في السودان العديد من المناطق الحدودية المتنازع عليها، والتي غالبا ما تتحول إلى بؤر للعنف. وهكذا قد يؤدي انتشار الأسلحة الصغيرة والخفيفة، مع تراجع سيطرة الدولة، إلى تشجيع الجماعات المسلحة ذات المظالم المحلية العرقية عبر الحدود لشن هجمات في الدول المجاورة.
وبالنظر إلى الاتجاهات الماضية أثناء النزاعات السابقة في السودان، قد يؤدي عدم الاستقرار إلى انعدام الأمن عبر الحدود، ولاسيما في المناطق الحدودية مع جمهورية أفريقيا الوسطى وتشاد، بما في ذلك منطقتي أبيي والفشقة، التي تطالب كل من جنوب السودان وإثيوبيا، السودان بها.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الصراع المائي المستمر حول بناء إثيوبيا لسد النهضة على طول نهر النيل يهدد بالتداخل مع الصراع في السودان، فلقد تسبب السد في توتر العلاقات بين السودان ومصر – دولتي المصب – واللتين تريان السد تهديدا وجوديا لأمنهما المائي.
وعلى الجانب الآخر، كشف الصراع الحالي عن وجود مصالح متشابكة ومتضادة للعديد من الفاعلين الدوليين المتنافسين، وهو الأمر الذي يهدد بإطالة مدى الحرب على المديين المتوسط والطويل. وعلى الرغم من أن مستويات الدعم من مختلف الدول لا تزال غير واضحة، فإن هناك مخاوف من أنها قد تدعم الأطراف المتحاربة.
وأضاف معد التقرير بالقول إن تداخل الديناميكيات السياسية الداخلية في السودان والمخاوف الأمنية الإقليمية والمصالح الدولية في البلاد ستحدد في نهاية المطاف المدى الزمني للأزمة الحالية.
ويظل خطر استمرار الأزمة قائما إذا قدم الشركاء الدوليون دعما سياسيا وماليا وعسكريا للطرفين المتحاربين لتعزيز مصالحهم، بدلا من استخدام نفوذهم للوصول إلى تسوية سياسية.
ومما لا شك فيه أنه إذا لم يتم حل هذا النزاع، سيخاطر السودان بالانزلاق إلى حرب بالوكالة حيث ستدعم دول مختلفة الطرف المتحارب الذي ترى أنه يحقق مصالحها على نحو أفضل.
ومن المرجح أن يقوض هذا السيناريو “الأمن الإقليمي” في هذه المنطقة المستهدفة والمعرضة لأنشطة الجماعات المسلحة عبر الحدود.