اللغة العربية

اللغة العربية والغزاة الصليبيون

من الثابت تاريخيًّا أن ظاهرة إقبال الباحثين الأوربيين على دراسة اللغة العربية والتحدث بها قد انتشرت في شكل واسع وقت الحملات الصليبية خاصة، فما سر نجاح

  • الغرب والإقبال على تعلم العربية

تعرَّفت أوربَّا إلى اللغة العربيَّة منذ وصول المسلمين إلى غرب القارَّة في القرن (الثامن الميلادي=الثاني الهجري)، وانتشرت اللغة والآداب العربيَّة في الغرب الأوربِّي بفضل الحضارة الإسلاميَّة في الأندلس حتى القرن الخامس عشر الميلادي (التاسع الهجري)،

واندفع الباحثون من شتَّى أنحاء القارَّة نحو المدن الإسلاميَّة في الأندلس من أجل سبر أغوار حضارة المسلمين، وهو ما اقتضى منهم ضرورة دراسة العربيَّة قراءةً وكتابة، لذا أخذت المؤسَّسات التعليميَّة الأوربِّيَّة في إنشاء الكثير من مدارس تعليم اللغة والأدب العربيَّين.


من الثابت تاريخيًّا أنَّ ظاهرة إقبال الباحثين الأوربيِّين على دراسة اللغة العربيَّة والتحدُّث بها قد انتشرت في شكلٍ واسع، الأمر الذي دفع القسُّ ألفارو القرطبي Alvaro de Cordoba -في منتصف القرن (التاسع الميلادي=الثالث الهجري)- إلى مهاجمة جموع الباحثين الأوربِّيِّين الذين شغفوا بالحضارة الإسلاميَّة والأدب العربي، بل وتعمَّدوا الحديث بالعربيَّة مقابل إهمال تعلُّم اللغة اللاتينيَّة ودراستها التي تُقام بها الشعائر الكنسيَّة.


  • الصليبيون وتعلم العربية

وعندما قَدِم الصليبيُّون من الغرب الأوربِّي إلى بلاد الشام لاحتلال مدينة القدس والكثير من المدن الشاميَّة والفلسطينيَّة، والاستيطان بها طوال القرنين (12 و13م= 6 و7هـ)، كان من الطبيعي أن يعتمد المسلمون سياسة الجهاد والحروب المستمرَّة، ما أفضى إلى طردهم في النهاية.

وعلى الرغم من الصراع العسكري والسياسي الطويل الذي دار بين المسلمين والصليبيِّين، كان لا بُدَّ لكلٍّ منهما من محاولة الاقتراب الإنساني والمعرفي من “الآخر”، وفي الوقت الذي نفر المسلمون من تعلُّم لغة المحتلِّ بَدَأ الصليبيُّون في تعلُّم اللغة العربيَّة لأسبابٍ عدَّة، أهمُّها: عمليَّات التفاوض السياسي، والتفاهمات المتبادلة مع السكَّان المسلمين في ما يتعلَّق بالمسائل التجاريَّة والزراعيَّة وغيرها.

يُحدِّثنا المؤرِّخ اللاتيني المجهول الذي قام بالتأريخ للحملة الصليبيَّة الأولى في كتابه “أعمال الفرنجة” عن بعض الفرنجة الذين عرفوا اللغة العربيَّة، من ذلك قسٌّ يُدعَى هرلوين Herluin كان في الوفد المسيحي الذي توجَّه لمقابلة القائد التركي كربوغا إبَّان حصاره الصليبيِّين في مدينة أنطاكيَّة.


وقد عَمِل سابقًا مترجمًا لبطرس الناسك قائد الحملة الشعبيَّة الصليبيَّة، كما أشار المؤلِّف نفسه إلى مترجمٍ آخر يَعْرِف العربيَّة أرسله الأمير النورماني بوهيموند إلى مسلمي معرَّة النعمان؛ واعدًا إيَّاهم بالمحافظة على حياتهم إذا ما قاموا بتسليم المدينة له في (1098م=491هـ).

ويرى حسين عطيَّة -في بحثه المهمِّ عن تعلُّم الصليبيِّين اللغة العربيَّة- أنَّه ربَّما كان هؤلاء المترجمون الأوربِّيُّون من سكَّان الجنوب الإيطالي الذي ارتبط بالمسلمين، لذا كان بعض أهله يعرفون العربيَّة قبل الوصول إلى الشرق العربي.

عرف بعض الحكَّام الصليبيِّين اللغة العربيَّة، وكان أهمهم ريموند كونت مدينة طرابلس، والوصيُّ على مملكة بيت المقدس الصليبيَّة عام (1174م=569هـ)، الذي نجح في استغلال فترة أَسْرِهِ السابقة والطويلة عند المسلمين -(1164-1173م) في مدينة حلب- في تعلُّم اللغة العربيَّة، كذلك كان رينالد حاكم مدينة صيدا (1171-1187م) مهتمًّا باللغة والأدب العربي، وكان لديه معلِّمٌ عربيٌّ مسلم.


كما يذكر ابن شدَّاد -مؤرِّخ صلاح الدين الأيوبي- أنَّ أرناط أمير قلعة الكرك كان يستعين بأحد المعلِّمين المسلمين من أجل أن “يقرأ له ويفهمه”.

بالإضافة إلى ذلك أشار -أيضًا- إلى مفاوضات الملك العادل الأيوبي مع الملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد إبَّان الحملة الصليبيَّة الثالثة حول بنود صلح الرملة وغيرها من مفاوضات سابقة، ولاحظ أنَّ أحد الفرنجة وسمَّاه “ابن الهنفري” كان يعرف اللغة العربيَّة، لذا تكفَّل بمسألة الترجمة بينهما.

كما تحدَّث أمبرواز في ملحمته “ريتشارد قلب الأسد” عن الرجال الفرنجة الذين تنكَّروا بملابس عربيَّة وأخبروا الملك الإنجليزي عن أمر القافلة التجاريَّة الكبرى القادمة من القاهرة في طريقها إلى دمشق، وأشار إلى أنَّه لم يُشاهد قط من يتحدَّث العربيَّة أفضل منهما.

أمَّا الإمبراطور فريدريك الثاني الذي استطاع الاستحواذ على مدينة بيت المقدس من جديد بمقتضى اتِّفاقه مع صديقه السلطان الكامل الأيوبي كنتيجة للحملة الصليبيَّة السادسة (1229م=626هـ)، فقد كان نسيجًا خاصًّا بعدما تربَّى في صقلِّيَّة اعتمادًا على التراث الإسلامي للجزيرة، لذا أجاد كتابة اللغة العربيَّة، وقراءة أهم الكتب العلميَّة والفلسفيَّة العربيَّة، وكان صديقًا للأيوبيِّين، وأبدى احترامًا كبيرًا للحضارة الإسلاميَّة، كما كان يُقدِّر الإسلام واللغة العربيَّة والتراث العربي.


وهو الأمر الذي دفعه مرَّات عدَّة من قبل للتسويف إزاء مطالب الكنيسة الكاثوليكيَّة التي أمرته بضرورة الخروج بحملة صليبيَّة لمحاربة المسلمين واستعادة مدينة القدس من قبضتهم مجدَّدًا، وحدث هذا قبل أن تقوم الكنيسة بإعلان قرار الحرمان الكنسي عليه، وهو ما اضطرَّ فريدريك في النهاية إلى الخروج في الحملة الصليبيَّة السادسة، واستعطاف صديقه الكامل الأيوبي الذي منحه مدينة القدس للحفاظ على مكانته في مواجهة السلطة الكنسيَّة في أوربَّا.

وأخبرتنا الاكتشافات الأثريَّة الحديثة عن وجود نقشٍ باللغة العربيَّة على صخرةٍ رخاميَّةٍ عُثِرَ عليه العام (2013م) في ميناء يافا الفلسطيني، تذكر بعض العبارات به “… فريدرك الثاني ملك بيت المقدس عام (1229م=626هـ) من تجسَّد سيدنا يسوع المسيح …”.


ويُشير النقش العربي -أيضًا- إلى المناطق والأماكن الخاضعة للإمبراطور فريدريك بمقتضى الاتفاق مع السلطان الكامل، ويُعدُّ هذا دليلًا على أنَّ الإمبراطور فريدريك كان يعتمد على اللغة العربيَّة في بعض الإشارات الرسميَّة في مملكته.

ولدينا دليلٌ آخر من المصادر التاريخيَّة الصليبيَّة حول وجود مترجمين عملوا في البلاط الصليبي عملوا على ترجمة الرسائل الواردة من الجانب الإسلامي، من ذلك ما كان يحدث في بلاط الملك الفرنسي لويس التاسع، وأشار المؤرِّخ جوانفيل في كتابه عن “سيرة حياة القدِّيس لويس” إلى أنَّ الصليبي بلدوين الإبليني كان يعرف اللغة العربيَّة جيِّدًا، لذا اختير ليكون على رأس السفارة التي توجَّهت للتفاوض مع المماليك في مصر من أجل إطلاق سراح الملك الفرنسي لويس التاسع.

كما أشار -أيضًا- إلى نيكولاس من مدينة عكَّا الذي عرف العربيَّة جيِّدًا، ولعب دورًا مهمًّا في إنهاء النِّزاع بين القدِّيس لويس والأمراء المماليك في شأن التعهُّدات الواجبة إزاء إطلاق سراح الملك الفرنسي.


وتكرَّر الأمر في بلاط الملك الفرنسي في شكلٍ خاصٍّ لدى تبادله السفراء والرسائل مع شيخ الطائفة الإسماعيليَّة بالشام؛ فقد استقبل المترجمون الرسول المسلم وقاموا بترجمة حديثه إلى لويس التاسع، الذي ردَّ على ذلك -أيضًا- بإرسال أحد الرهبان الدومينيكان الذين يعرفون اللغة العربيَّة وهو إيف ألبرتوني إلى زعيم الإسماعيليِّين بالشام، وهو المترجم نفسه الذي قام لويس التاسع بإرساله للتفاوض مع الملك الناصر يوسف الأيوبي عام (1250م=647هـ).

وفي شكلٍ عامٍّ يُمكن القول: إنَّه قد وجد أفراد من الصليبيِّين الذين أجادوا اللغة العربيَّة قراءةً وكتابةً في شكلٍ كبيرٍ ضمن جميع الوفود التي قام الصليبيُّون بإرسالها إلى الحكَّام المسلمين الأيوبيِّين والمماليك في مصر والشام.


ونتيجةً لاستمرار النشاط التجاري بين الصليبيِّين والسكَّان المسلمين فترة الحروب الصليبيَّة، فقد استلزم الأمر من السلطات الصليبيَّة تعيين موظَّفين يعرفون اللغة العربيَّة في الموانئ وعند بوابات المدن؛ من أجل التعامل مع التجَّار المسلمين، وتسجيل السلع والبضائع والجمارك المتوجَّبة عليها، وذلك وِفْقَ رواية الرحَّالة الأندلسي الشهير ابن جبير الذي زار الشام والمناطق الصليبيَّة في بداية الربع الأخير من القرن (الثالث عشر الميلادي= السابع الهجري).

على أنَّ جيلًا جديدًا من الصليبيِّين كانت له معرفته العميقة باللغة العربيَّة، وهم أولئك الشبَّان الذين جاءوا نتيجة حالات زواج تمَّت بين الصليبيِّين وكثيرٍ من المسيحيَّات الشرقيَّات؛ أرثوذكس، وأرمن، وسريان، وهم الذين أطلقت عليهم المصادر التاريخيَّة الصليبيَّة لقب البولان Poulan أي “الأفراخ”، ولعب هؤلاء دورًا كبيرًا في تعليم الصليبيِّين اللغة العربيَّة، لغة أخوالهم الشوام.

كما كان من الضروري أن يعرف الصليبيُّون أصحاب الأراضي الزراعيَّة القليل من اللغة العربيَّة الذين يسمح لهم بالتعامل مع الفلَّاحين المسلمين الذين يقومون بزراعة إقطاعاتهم الزراعيَّة، فضلًا عن مشاركتهم والمسلمين في ما عُرِف بأراضي “المقاسمات” أو “المناصفات”.


كما عرف بعض المؤرِّخين الصليبيِّين اللغة العربيَّة ونبغوا فيها، ويُعدُّ وليم الصوري المنسوب إلى مدينة صور هو أشهرهم في القرن (الثاني عشر الميلادي= السادس الهجري)؛ فقد أجاد القراءة والكتابة بالعربية تمامًا كما لغته الأم، وقام بتأليف كتابٍ عالج فيه مسألة ظهور الإسلام ونبيِّ المسلمين معتمدًا على المصادر العربيَّة، خاصَّةً كتاب سعيد بن البطريق.

وعلى الرغم من فقدان مخطوط كتاب وليم الصوري فقد اعتمد المؤرِّخون الصليبيُّون الذين جاءوا بعده كثيرًا على ما ورد به تجاه العرب والمسلمين، كما أشار وليم في كتابه الشهير عن “أعمال الفرنجة فيما وراء البحار” إلى إرسال الصليبيِّين رسولًا منهم يعرف العربيَّة إلى أنر حاكم دمشق عام (1147م=542هـ).


ونتيجةً لمعرفة كثيرٍ من المؤلِّفين والمثقَّفين الصليبيِّين اللغة العربيَّة، فقد نجحوا في ترجمة الكثير من المخطوطات العلميَّة والفلسفيَّة عن اللغة العربيَّة، من ذلك قيام أحد الصليبيِّين من مدينة بيزا الإيطاليَّة بترجمة مخطوط “كامل الصناعة الطبِّيَّة” لعليِّ بن عبَّاس المجوسي، كما قام -أيضًا- فيليب الطرابلسي بترجمة مخطوط عربي يتعلَّق بالأخلاق والفلسفة عنوانه “سر الأسرار”، الذي ربَّما كان يعود في أصله إلى الفيلسوف اليوناني أرسطو.

يتَّضح ممَّا سبق نجاح اللغة العربيَّة في فرض نفسها على الغزاة الصليبيِّين لاعتبارات ثقافيَّة وعلميَّة وحياتيَّة كان لا مفرَّ منها، لذا ولأسبابٍ أخرى -أيضًا- اعتُبِرَت بلاد الشام أحد المعابر الثلاثة التي انتقلت من خلالها الحضارة العربيَّة والإسلاميَّة إلى أوربَّا، بعد بلاد الأندلس، وجزيرة صقلِّيَّة.
____________________
المصدر: عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، أغسطس 2014م.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى