جيرالد برنس والاصطلاح العلمي
ليسوا كثيرين أولئك النقاد الذين كنا نعدّهم بنيويين وما بعد بنيويين، لكن تبين لنا أنهم ليسوا كذلك بظهور المدرسة الأنكلوأمريكية التي معها غدت توجهاتهم البحثية أكثر وضوحاً في ما قدموه من تحليلات، وما طرحوه من مفاهيم، سائرين على منوال منظري علم السرد ما بعد الكلاسيكي ونقدهم في العقدين الأخيرين من هذا القرن.
ومن هؤلاء الناقد الأمريكي جيرالد برنس (1942) الذي كان قد انتهج في ستينيات القرن الماضي خطاً بنيوياً فيه إمارات ميل خفي ما بعد بنيوي، وحنين ما قبل بنيوي نحو مدرسة النقد الأرسطي عامة، ومدرسة شيكاغو في النقد الجديد خاصة، من ناحية تركيزه على السارد ونقد ملفوظاته والقارئ ونقد استجابته، ومن ثم تأويل السرد وفق فاعليتهما الداخل والخارج نصية ثقافياً وظاهراتياً وإنثروبولوجياً.
وما كان لمثل هذه الإمارات أن تتبدى واضحة إلا في العمق من دراسات جيرالد، تارة من خلال اختبار الرؤى والطروحات البنيوية بما يضادها بقصد تقييمها، وتارة أخرى من خلال الانزياح عن المرجعيات الشكلانية والأسلوبية ومغايرتها بمرجعية سياقية أو كلاسيكية بقصد ملاءمتها لمختلف أنواع النصوص السردية. وبما يوسّع أطر النظر البنيوية في دراسة النص السردي وتحليل عناصره وجدولة تراكيبه.
وأياً كانت هذه الإمارات، فإنها وقتذاك ظلت في المجموع محسوبة، إما لصالح البنيوية السردية وهي في ذروة إنجازاتها النصية، أو لصالح ما بعد البنيوية وهي تشرئب متطلعة إلى مزيد من الإنجازات في مجال دراسة الخطاب السردي.
وعلى الرغم من أسبقية جيرالد برنس في التنظير لعلم السرد، فإن كتابه لم يلق الاهتمام الذي يستحقه لا من لدن المدرسة السردية الفرنسية ولا المدرسة الأنكلوأمريكية، إذا ما قارناه بالاهتمام الكبير بكتاب واين بوث (بلاغة الفن القصصي The Rhetoric of fiction) كأهم مرجع عند منظري السرد ما بعد الكلاسيكي.
ربما لأن مناهضة بوث للبنيويين كانت علنية وربما بسبب التباس مفاهيم جيرالد وعسر تأويلاته. ومع هذا، فإن هذين الكتابين يعدان مبكرين في التنظير لعلم السرد، وعليهما اعتمد ديفيد هيرمان وبراين ريشاردسون وبراين ماكهيل وهيلاري داننبرغ وروبين وارهول وغيرهم.
ولأن جيرالد برنس كان ناقدا مناورا، يساير البنيويين ويغالبهم في الآن نفسه، اتسمت كتاباته بالتعقيد إن لم نقل بالاستغلاق، فهي كثيرة الإثارة للبس وتولد الإشكال سواء في التمثيلات أو الشروحات. وهو ما كان يوضع تحت باب الاجتهادات في فلسفة النقد وعلمنة السرد اللتين هما سمتان من سمات المدرسة السردية الفرنسية، بينما كانت حقيقة التعقيد ناتجة عن سعي جيرالد إلى الجمع بين منهجي برسي لوبوك في دراسة تراكيب السرد وولغانغ أيزر في دراسة سيميائية الدلالات.
ولعل أوضح الأمثلة على ذلك بحثه الموسوم (فهم السرد understanding narrative) المنشور ضمن ملف الدلالة السيميولوجية للأدب في مجلة (STTCL دراسات في أدب القرن العشرين والواحد والعشرين) المجلد السادس/العدد الأول 1981. وفيه طرح جيرالد برنس مفهوم (الكفاءة السردية) وزج مسائل تتجاوز نصية السرد وخطابيته إلى (القولtelling ) من قبيل ملاحظته أن القصة يمكن أن تروي نفسها من خلال إضافة أحداث أو حوارات أو تغيير في بعض عناصرها الرئيسية.
وعندها قد تغدو قصة أحسن وقد تصبح باهتة ومثاله قصة السامري. ومنها أيضا تساؤله عن الروايات التي فيها تعليقات مباشرة على الأقوال السردية. ومنها تأكيده أن القدرة على السرد تعني أن يركز السارد على السمات الكرونولوجية المصوَّرة في العالم السردي.
ولأهمية هذا البحث ضمه جيرالد إلى فصول كتابه (علم السرد: الصيغة والاشتغال السردي narratology : the form and functioning of narrative) 1982 وهذا الكتاب مثال آخر على الطريقة التي كان فيها جيرالد يسير في ركب السردية البنيوية وفي الوقت نفسه يجترح لنفسه مسارا خاصا يعبد الطريق أمام المدرسة الأنكلوأمريكية لانتهاج مسالك أخرى تصب في باب علم السرد ما بعد الكلاسيكي.
ويظل التعجب كبيرا من هذه الحفريات النيرتولوجية التي كان جيرالد برنس يمارسها، وهو يدرس الأبنية والخطابات السردية دراسة علمية. ليكون واحدا من المنظرين الذين بنوا القاعدة التي عليها قامت تلك المدرسة كبرسي لوبوك وواين بوث وآن بنفيلد.
واليوم بعد أن قطع علم السرد ما بعد الكلاسيكي أشواطا مهمة وتفرعت عنه علوم أخرى، منها علم السرد غير الطبيعي، فإن التباسات نقد السرد عند جيرالد برنس غدت أقل حدة وأخذت تتوضح أهمية بعض مفاهيمه وتمثيلاته، لاسيما في كتبه اللاحقة التي فيها ترك نهج المناورة النقدية، وصار ذا خط نقدي يصب في باب علمية السرد ما بعد الكلاسيكي كواحد من النقاد المعروفين بباعهم السردي في دراسة الروايات الفرنسية ونقدها.
ويعد بحثه المعنون ( The disnarrated) المنشور في العدد الأول من المجلد الثاني والعشرين من مجلة النظرية السردية والنقد في جامعة بنسلفانيا ربيع 1988، أول دلائل خطه ما بعد الكلاسيكي وفيه ركز على ما لا ليس معقولا أن يكون ساردا أو مسرودا، أو ما هو غير قادر على التلفظ (unspoken) الذي عبر عنه بمسمى( disnarrated) وترجمه منصف الوهايبي بـ(الممتنع السردي) في مقاله المنشور في «القدس العربي» بتاريخ 25 نوفمبر/تشرين الثاني.
وبدا غير مقتنع بهذه الترجمة في تلبية مقتضى الدلالة تلبية قاطعة. لكنني أرى أننا قبل الوقوف على نظير عربي لمفهوم disnarrated، علينا أن نقف أولا عند مفهوم (مسرد narrated) في كتاب (علم السرد) الوارد ذكره آنفا.
صعب علينا أن نضع أيدينا على مسمى عام فيه تكون الدلالة مطابقة، فإنه لا ضير على لغتنا العربية إن نحن استعملنا المفردة بلفظها الأعجمي مع الشرح المطلوب لها، وبغيتنا من وراء استعمالها الدقة الاصطلاحية.
وبإيجاز أقول إن جيرالد بنى هذا الكتاب ظاهريا على بنيوية فهم السرد، لكنه في العمق تعامل مع السرد كفعالية أو عملية كلية ليس فيها للفعل (يسرد narrate) أهمية، بل الأهمية هي لتفريعاته الآتية (narrating، narratee , narrator، narration ،narrative ،narrated، narrativity) وكل واحد منها شكل مبحثا، وربما فصلا وأسفرت هذه المفاهيم بمجموعها عن أن السرد عملية تلفظية قولية.
قد تكون موثوقة وقد لا تكون كذلك. وهنا تكون غاية برنس قد تجلت في حقيقتها وهي بناء قاعدة نظرية لعلم ينطلق من الاكتراث بالبنية السردية وينتهي عند الاكتراث باللابنية السردية التي فيها يكون السارد غير موثوق به ويكون السرد معطلا عن الإفهام أو مهملا وغير مهم.
وبهذا يلتقي كتاب (علم السرد) مع كتاب (بلاغة الفن القصصي) في مسألة مركزة القارئ داخل السرد، أولا بوصفه عارفا بناء القواعد السردية وهو ما تناوله جيرالد في الفصلين الأول والثاني (تسريد narratingومسرد narrated) وثانيا بوصف القارئ حاكما على صحة القواعد أو عدمها، وهو ما يتضح في الفصلين الثالث والرابع (قواعد السرد narrative grammar وقراءة السردnarrative reading ).
واستمر جيرالد برنس من بعد كتابه هذا يعمل على تعضيد نظريته في علمنة السرد، جامعا ما بين النظر إلى البنية، والنظر إلى القارئ، وطرح مفهومات جديدة تصب في خدمة علم السرد ما بعد الكلاسيكي بوجه عام، وتخدم علم السرد غير الطبيعي بوجه خاص، ومنها disnarrated الذي له صلة بالموثوقية السردية. وإذا كانت مونيكا فلودرنك قد استعملت السرد الطبيعي في التعبير عن اللاموثوقية، فإن جيرالد استعمل هذا المفهوم للدلالة على الفكرة نفسها.
ومهما كانت مرشحات الترجمة دقيقة فإنها ينبغي أن تكون مؤطرة بهذا الفهم العلمي للسرد كفعل قولي، أو قول فعلي أو كليهما معا. وقد ضرب جيرالد برنس أمثلة على ذلك بأجناس وتجارب فيها تفاصيل تُهمل في أثناء السرد، فلا يذكر تسلسلها لبساطتها، ومنها مثاله أن يقول أحدهم لصديقه: (أنا مشيت ظهيرة يوم أمس) دون أن يذكر أنه ربط حذاءه، بعد ان أزاح مركز ثقله فاصطدم كعب قدمه اليسرى بالأرض ورفعت قدمه اليمنى بوصتين أثناء تأرجحها للأمام.
فهذه تفاصيل تشتت الفعل السردي من جهة وتجعل التركيز على فئات غير صالحة للتسريد، أو هي عصية على السرد، أي لا يمكن سردها، أو أن السرد ليس بحاجة إليها فلا تستحق الذكر. أما التركيز على هذه الفئات فيعني خرق القانون المتعارف عليه سرديا واجتماعيا وتأليفيا، فيكون التحدي موجهاً صوب منظومة السارد العليم أو أي سارد من السراد المعروفين والمألوفين.
وهذا الذي يدل عليه (disnarrated) من ناحية إثارة التفكير في السرد وطرائقه الممكنة واللاممكنة هو ما يضعه جيرالد برنس تحت مجهره النقدي. ووجد أمثلته في قصص العصور الوسطى، كحكايات كانتربري لجيفري تشوسر وكذلك في الروايات الكلاسيكية لهنري جيمس وديكنز وجورج أليوت.
ويبدو أن جيرالد اتخذ من ( disnarrated) في دلالته على (ما لا يمكن أن يسرد أو يروى لأن لا أهمية سردية له) جهازا مفاهيميا، تتفرع عنه مفاهيم سردية غير معتادة وإشكالية مثل( narratability Threshold of عتبة السرد) وترجمته هيلاري دننبرغ Narrativehood أو Narratabilityبينما ترجمه فرانك واغنر Alternatted disnarrated .
فلا عجب إذن إن نحن اختلفنا حول ترجمة disnarrated لكن المهم ليس إيجاد مسميات بديلة، بل المهم هو فهم الآلية التي بها تعمل المفردة اصطلاحيا، كي نتمكن من تطبيقها على النصوص السردية تطبيقا ملائما وبالدلالة نفسها التي تنص عليها في حاضنتها الأصلية.
وإذا كان صعب علينا أن نضع أيدينا على مسمى عام فيه تكون الدلالة مطابقة، فإنه لا ضير على لغتنا العربية إن نحن استعملنا المفردة بلفظها الأعجمي مع الشرح المطلوب لها، وبغيتنا من وراء استعمالها الدقة الاصطلاحية.
وعلم السرد كأي علم يحتاج إلى الضبط الاصطلاحي، ونحن ما زلنا غير معترفين بهذه العلمية من خلال مداومتنا على استعمال مفردتي (سردية وسرديات) وهما لا تفيان بالغرض لأنهما صفتان عامتان ولا تخصيص اصطلاحيا فيهما، إذ يمكن أن يُستعملا في أي سياق كان.
وإذا كنا استعملنا (الكلاسيكية) مع (علم السرد) لأنها تحقق الضبط، فإن مثل ذلك يقال مع استعمال مفردات أعجمية مماثلة ليس لأن لا مقابل لها في اللغة العربية، بل لأن استعمالها يؤدي المطلب العلمي نفسه الذي تؤديه دلالاتها باللغة الأصل.
نادية هناوي -كاتبة عراقية.