الترجمة نافذة نفتحها على العالم الخارجي بقصد رؤيته والتعرف على ما فيه، من جهة، ومن جهة أخرى لترك الهواء والنور يتسربان لتنقية المكان وتجديده. ما أكثر أنواع النوافذ وصورها وأشكالها، بحسب نوع النوافذ التي نصطنع تتحدد نوعية الرؤية التي نختار للتطلع على ما يجري خارج بيتنا المعرفي.
تحدثنا كثيرا عن الترجمة، وعقدنا مؤتمرات، وصنفنا كتبا، واستحدثنا مؤسسات ومعاهد وجوائز تشجيعية، وأدرجناها أحيانا في مقررات.
لن أتناول هنا نوعيات الترجمات، ولا قيمتها ولا علاقتها بالأمانة أو الخيانة. كما لن أتحدث عن تأثيراتها على اللغة العربية المترجم إليها، أو درجة استفادة المتلقي منها إذا كانت تعوزه لغة أخرى. فهذه قضايا طالما تناولتها الدراسات والأبحاث، ويظل في نفس كل متناوليها شيء من حتى الترجمة العربية.
يهمني طرح سؤال مركب حول استراتيجية الترجمة عندنا نحن العرب، وأصوغه على النحو التالي: لماذا نترجم ما نترجم؟ وما علاقة ما يترجم بعضنا بما يترجم الآخر؟ إن هذا السؤال يتصل بكل أنواع الترجمات التي نقوم بها، وفي أي مجال معرفي أو اختصاص علمي.
لا فرق في ذلك بين الطبيعيات أو الإنسانيات، أو العلوم الاجتماعية. سأتوقف على الترجمة الخاصة بالدراسات الأدبية عامة، والسردية خاصة للتمثيل بهدف الجواب عن السؤال المطروح.
ما دفعني إلى طرح هذا السؤال المتعلق باستراتيجية الترجمة يجد مستنده، حسب رأيي، في كون غيابها لا يمكن إلا أن يؤدي إلى غياب الاستفادة منها، نافذة نتفاعل من خلالها مع المعرفة الإنسانية. وبغياب هذا التفاعل الإيجابي لا يمكننا أبدا المساهمة في تلك المعرفة، مهما تحدثنا عن الترجمة، أو مارسناها، أو ألححنا على ضرورتها وأهميتها.
لقد سمح لي تخصصي في السرديات أن أطلع على أهم ما كتب فيها منذ بداية تشكلها إلى الآن، منوعا متابعتي ومطالعاتي بكل ما يتصل بها مما كتب، سواء بالفرنسية أو الإنكليزية، أو ترجم إليهما من الألمانية أو الإسبانية أو الإيطالية وغيرها من اللغات.
كانت تثيرني أبدا في الكتابات بالإنكليزية، أيا كان أصل الباحث، أن أجد ضمن مراجعه أغلب، إن لم أقل، كل الكتابات التي ظهرت في الأصل بالفرنسية وقد ترجمت إلى الإنكليزية.
الترجمة عندنا عملية فردية تخضع لرغبة المترجم ومزاجه وثقافته. لا تهتم بنقل الأصول، ولكن بكتب تبسيطية أو ثانوية. لا تتكامل الترجمات العربية، ولا تتضافر.
بعض هذه المراجع ظهر في مجلات، في الستينيات أو السبعينيات، ولم يجمع في كتاب، وأحيانا لكتاب ليست لهم إسهامات غزيرة. وبعض هذه المجلات مما اشتغلت بها، وكان من الصعوبة بمكان الحصول عليها. ويمكن قول الشيء نفسه عن الإسبانية.
فعندما اطلعت على كتاب «النظرية البنائية في النقد الأدبي» لصلاح فضل، وكانت مرجعيته إسبانية، وجدت كل ما كان متداولا بالفرنسية في مجال البنيوية آنذاك مترجما إلى الإسبانية، وفي وقت وجيز جدا من تاريخ صدورها بالفرنسية.
مع التطور الذي أحرزته السرديات بظهور «السرديات ما بعد الكلاسيكية» في الكتابات بالإنكليزية الحالية، استدعت الضرورة اعتماد الأصول البنيوية للسرديات. صرت أجد الشيء نفسه: فأغلب الإحالات إلى المرحلة الكلاسيكية (وكانت فرنسية بامتياز) مترجمة إلى الإنكليزية.
أستنتج من هذا ببساطة أن هناك استراتيجية للترجمة، وأن هناك مسحا شاملا لما يكتب في اختصاص معين، ويكون الاضطلاع بنقله إلى لغة أخرى لتكون المساهمة في تطوير المعرفة. لا يمكننا إنكار الجهود الكبيرة التي تبذل عربيا في الترجمة.
نذكر، للتمثيل لا الحصر، مجهودات المركز القومي للترجمة المصري، وسلسلة «عالم المعرفة» الكويتية، والمنظمة العربية للترجمة اللبنانية، وبيت الحكمة للترجمة التونسي، وسواها من المؤسسات العربية، ناهيك عن المجلات الخاصة بالترجمة، أو العامة التي تخصص ركنا للترجمة.
كل هذه المجهودات متفرقة وبلا استراتيجية محددة لفتح نوافذ معرفية، تمكننا من التعرف الشامل الذي ينجز في حقل من الحقول المعرفية أو العلمية. لو أخذت أدبيات السرديات الكلاسيكية المترجمة إلى العربية لوجدت أن حصيلتها هزيلة جدا.
أما السرديات ما بعد الكلاسيكية، وقد صارت تراثا حقيقيا، يساهم فيه الباحثون عالميا، فهي منعدمة تماما؟ صار الحديث العربي الآن مبتذلا ورخيصا حول الأدب الرقمي والثقافة الرقمية، وكل يدلي فيه بدلو بلا قاع، وما أنجز في نطاق «السرديات الرقمية» لا حصر له.
الترجمة عندنا عملية فردية تخضع لرغبة المترجم ومزاجه وثقافته. لا تهتم بنقل الأصول، ولكن بكتب تبسيطية أو ثانوية. لا تتكامل الترجمات العربية، ولا تتضافر. نترجم الكتاب الذي نراه مفيدا في ذاته، وليس حسب موقعه في الاختصاص الذي ينتمي إليه.
لا نترجم الكتب في جدتها وهي محل اهتمام ونقاش، ولكن بعد ان يتم تطويرها وتجاوزها. ماذا ترجم لجنييه أب السرديات إلى العربية؟ وماذا ترجم لغريماس؟ وقس على ذلك في الاختصاصات العلمية والمعرفية المختلفة.
غياب استراتيجية محددة للترجمة حسب الحقول والأصول، يجعل علاقتنا بما نترجم محدودة جدا وناقصة، وليست النتيجة سوى عدم الاستفادة منها، ولذلك لا يمكن أن تتشكل عندنا علوم ولا تيارات فكرية. حين لا تكون الترجمة نافذة ملائمة فإنها لا تسهم مهما كان حجمها لا في رؤية العالم، ولا في التهوية. لا عجب إذن أن نجد بيوتنا خارج التغطية.