حين يُتحدث في العادة عن الترجمة، غالبًا ما توصف بأنها وسيلة للتفاعل الحضاري وحوار الثقافات. غير أن فاعلية الترجمة لا تنحصر في ذلك، فهي أيضًا بشكل ما منتجة للتبعية الثقافية، وخالقة لأوهام وموجات ثقافية لا تلبث أن تتبدد. الترجمة ذات حدّين، فهي بقدر ما تخلص الثقافة المحلية من أورامها بقدر ما تخلق مناحي قد تجعلها سجينة للعديد من الإشكاليات، التي قد تكون سببًا في تكليس الفكر الثقافي العربي، وجره إلى أوهام التجديد والمثاقفة السلطوية. الترجمة، أيضًا، تعبير عن توالي سلطات اللغات الأجنبية، وتعبيراتها الثقافية.
ففي وقت ما كانت الثقافة الأنغلوسكسونية مسيطرة من خلال الترجمات المصرية. وكانت الثقافة الفرنسية في حينها تتسلل من خلال بعض الأقلام والترجمات لكتاب ومثقفين ممتلكين للغة الفرنسية. وفي العقود الأخيرة، أضحت مرجعية الثقافة الفرنسية واضحة من خلال الفاعلية التي أبان عنها مترجمون مشرقيون ومغاربيون، والحركية التي خلقوها في الفضاء الثقافي العربي.
ثمة، أيضًا، ما يمكن أن نسميه سياسة الترجمة، لا بمعنى فعلها السياسي الذي لا يمكن إلا أن يكون وراء عديد الترجمات ذات الطابع السياسي، كما في أبعادها، وإنما في ما تخلقه من صراع للثقافات داخل الثقافة المستقبلة، كما في ما تكون وراءه من توجهات ثقافية تكون في البداية محررة لتأخذ أحيانًا طابعًا “رجعيًا” يكلس الحركية الثقافية، ويجمد أطرافها في ما بعد.
فضائل البنيوية وكوارثها
في الوقت الذي كانت فيه الآداب العربية ترزح تحت نَوْء كتابات من قبيل كتاب “الأدب والأيديولوجيا في سورية”، والنقد الماركسي الأيديولوجي الذي استمر حتى أواخر السبعينيات، صدرت ترجمة لكتاب عبد الكبير الخطيبي بعنوان “الرواية المغربية”، كان عبارة عن ملخص لأطروحته في الدكتوراة يستلهم فيه إلى جانب التحليل الاجتماعي ذي البعد الماركسي أطروحات رولان بارت، وجاك دريدا.
وقد انتبه محمد برادة في ذلك الحين (وكان يشتغل على رسالته عن محمد مندور) إلى هذه الأطروحة التي كانت تبشر بشكل ضمني بما عرف بالبنيوية التكوينية، كما عرفناها لدى لوسيان غولدمان، التي تخلق توازنًا بين بنيات النص الأدبي وخلفياته الاجتماعية. وقام بنقلها إلى اللغة العربية.
للأسف، لم تُنشر ترجمة هذا الكتاب المميز في المشرق، فهو لم يحظ سوى بطبعة محدودة صدرت عن المعهد الجامعي للبحث العلمي في الرباط، ولم تحظ بالتوزيع الذي كان في مستوى عمقها وجدتها. والمعلوم أن الكتاب المغربي في ذلك الوقت لم يكن يحظى بالوصول إلى المشرق إلا من يد ليد في تلك الفترة. والكتّاب الذين كانوا ينشرون حينئذ في لبنان في مجلاتها، أو دور نشرها، كانوا قلة، من بينهم محمد عزيز الحبابي، وعبد الكريم غلاب، وشكري، وبرادة…
هكذا حُرمت الثقافة العربية من تداول كتاب كان سيكون له بالغ الأثر في المساهمة في استنبات فكر جديد، وخلخلة المقاربات الأدبية المتداولة في ذلك الوقت، وصْفيةً كانت، أو تاريخيةً، أو مضمونيةً. بيد أن هذا الكتاب وبعض الترجمات للوسيان غولدمان في السبعينيات (نَدين بها للقاص وأستاذ الفلسفة مصطفى المسناوي)، وترجمة برادة لكتاب “الدرجة الصفر للكتابة” سوف تساهم بشكل حثيث في طرح السؤال عن ممارسة نقدية أدبية كانت مهمومة بالجوانب الاجتماعية والأيديولوجية، في خلخلة يقينياتها الراسخة.
ومع توالي بناء الجامعات الجديدة في المغرب سوف يتأسس درس نقدي جديد سوف يستهدي بتلك الآثار، ويستلهم ترجمات جديدة لرولان بارت، والشكلانيين الروس، ثم جماليات التلقي، كان الفضل يعود فيها لمترجمين من قبيل إبراهيم الخطيب، وغيره.
كنت في أواخر الثمانينيات من بين الأساتذة الذين أدخلوا السرديات للدرس الجامعي، في وقت كانت فيه كتابات سيزا قاسم، وصلاح فضل، وسعيد يقطين، تشكل مرجعيات للدرس السرداني. كنا حينها نسعى بشكل واضح إلى “تصحيح” مرجعيات الدرس السردي ومفاهيمه التي ألفيناها ضبابية وملتبسة في بعض هذه المرجعيات.
لقد غدا الدرس الأدبي يركز على النص وآلياته معلنًا شعار المحايثة ضدًّا على المقاربة البرانية. وغدا بذلك أشبه بورشة مخبرية لتفكيك أوصال النص وفهم طرائق كتابته. غير أني أحسست في الوقت ذاته بأننا في المغرب والعالم العربي قد انتقلنا من خارج النص إلى داخله، ولم نستطع الخروج من تلك الشرنقة قط، فنحوت، تبعًا لتكويني الفلسفي، ومشاربي الهايدغرية، والديريدية، نحو الاهتمام بالتأويل والتفكيك والمقاربة الفينومينولوجية… كان ذلك في مرحلة برزت فيها معالم سيميائيات غريماس الشكلانية، التي كانت تهتم بالدلالة لتعيد للمعنى مكانه في الدرس الأدبي، وإن بطريقة منطقية بالغة.
لكننا لم نكن نعي أننا نعيش مفارقة كبرى تتمثل في الحيز الفارق بين تبلور البنيوية في الغرب وتمثلها لدينا. ففي الوقت الذي كان فيه النقد العربي مزهوًّا ببنيويته، يشيد معالمها، ويتعمق في تأسيسها، كان فيه رواد هذا الاتجاه، كبارت، وجوليا كريستيفا، وجيرار جينيت، وتودوروف، ودعاة السردانية، قد نفضوا أيديهم منها، وأضحوا يتجهون نحو آفاق جديدة، وتركونا نتشبث بتركتهم التي غدت لديهم أشبه بسقط المتاع.
هكذا حلّق بارت في حميميته قبل وفاته، وعادت كريستيفا إلى التحليل النفسي، فيما رجع تودوروف إلى تاريخ الثقافة والفن، وبلور جيرار جينيت تصورًا فكريًا جديدًا لجمالية الأعمال الفنية… أما غريماس فقارب في نهاية حياته الجسد والأهواء، وتخلى عن السيميائيات الأدبية. ومع مطالع الألفية الجديدة، أضحت السرديات تأويلية، والسيميائيات انفتحت على الصورة، والنقد غدا هرمينوسيا (هرمينوطيقيا)، وبدأ التصور البنيوي يتقوض ليغدو أشبه بالشبح الهارب…
تحولات وعقائديات جديدة
في هذا السياق الذي كان أشبه بالصحوة الثقافية، عرفت الترجمة حركية جديدة، واستعادت أنفاسها مع الحاجات الجديدة للدرس الأكاديمي والثقافي. فلقد غدت عضد الكتابة النقدية، فصارت تتخلل الدرس الأكاديمي، وغدا الأساتذة والمؤلفون في هذا المضمار عبارة عن مترجمين بامتياز، لأن أغلب مؤلفاتهم كانت ترجمات شخصية للمرجعيات النظرية والتحليلية في هذا المضمار. وباتوا يعتمدون على المرجعيات في لغتها الأصل. وكثرت المؤتمرات الأكاديمية عن التأويل والنص وخلفياته حتى صار ذلك أشبه بـ”بنيوية جديدة” فاتحة.
أما السردانيون القدماء فقد مزجوا بين السيميائيات والتخييل الذاتي لتحليل السيرة الذاتية، وتابعوا طريقهم في كشوف جديدة يلقنونها لطلبتهم، فتنتج أطاريح تلو الأخرى.
في هذه المسيرة، التي عشناها الموجة تلو الأخرى، ظلت الترجمة بمختلف أشكالها وراء هذه التحولات، تستبقها أحيانًا، وتعضدها أحيانًا أخرى. بل، في مستطاعنا القول بأن المؤلفات “النظرية” التي أُنتجت في هذا المضمار يمكن اعتبارها ضربًا من ضروب الترجمة التركيبية المتصرفة، إلى هذا الحدّ، أو ذاك، أو بمثابة تعريب لا يلتزم بقواعد الترجمة الأدبية.
ومع ما حظيت به هذه “الترجمات التأليفية” (بمعنَييْ الكلمة) بأشكالها المتعددة من احتفاء جامعي وأكاديمي، أضحت تفرض نفسها خارج المجال الأكاديمي، وخاصة منها الدراسات الثقافية مثلًا. فبعد أن كانت الحركة الثقافية العامة رافدًا غنيًا للثقافة الأكاديمية، سيطرت هذه الأخيرة على الفضاء الثقافي، حتى إنها كادت أن تحوله إلى هامش من هوامشها.
تدعونا هذه التحولات المتسارعة والتابعة إلى أن نطرح سؤال الثقافة الأدبية في العالم العربي، في لهاثها وراء الثقافة الغربية وتياراتها من جهة، كما في سعيها المعطوب إلى بلورة ثقافة ذاتية لا تمنح نفسها الوقت لبنائها والتفكير فيها. فبعد أن كانت التيارات الأدبية النقدية تتوالى أضحت تتداخل وتتزامن بشكل مثير ومدوّخ أحيانًا. والقبول الذي تلاقيه مقولة التفاعل المبحثي interdisciplinarity، ظل، في المقابل، أمرًا نادرًا، وقليل التحقق والنجاح في مستوى الواقع الثقافي.
لكن هنا وهناك ثمة مساع لتأسيس خطاب أدبي مغاير بلورته كتابات الخطيبي عن الأدب في الرواية المغاربية، وعن الأدب الفرنسي، وأدونيس في “الثابت والمتحول”، ثم كتابات عبد الفتاح كيليطو، وغيرهم.
هوامش ضد التيار (ات)
تفضح الترجمة الممارسة النقدية (الأدبية والفنية)، لأنها تكشف عن مرجعياتها، بل تكشف أن أغلب ما يكتب في مجال النظرية الأدبية والتحليل ضرب من الترجمة والتحويل والتأويل والتقويل. وهي بالكشف عن المرجعيات وإشاعتها بين القراء، تكشف أيضًا أن هذه المصنفات هي بالأحرى ترجمات شخصية، وغالبًا ما يكون طابعها غائيًا.
إنها تفصح أيضًا عن أن الثقافة الأكاديمية أضحت تفرض سلطتها ومنظورها على عموم القراء، بحيث أنها مع الوقت أخذت حصة الأسد من الفضاء الثقافي، فأُفردت لها الجوائز الكبرى، وأضحى لها قناصوها وممثلوها وكهنتها ورهبانها وقديسوها. أليس من الغريب في الأمر أن دراسات بارت للتراث الفرنسي وللصورة (راسين وميشليه والفوتوغرافيا)، ودراسات الخطيبي للثقافة الشعبية (الاسم العربي الجريح)، ودراسات باختين (للكرنفال)، على سبيل المثال لا الحصر، لم تجد صدى في الدراسات العربية؟ ألا يعبر ذلك عن الطابع الانتقائي البراغماتي، لا في الترجمة فحسب، بل أيضًا وأساسًا في توجهات الدرس الأدبي ومحدوديته الثقافية؟
في المقابل، تمثل كتابات كيليطو، على سبيل المثال، تجربة أدبية (وفكرية) من نوع خاص. وهي، في خصوصيتها تلك، أشبه بجزيرة مقطوعة عن اليابسة، لم تنتج أتباعًا، بالشكل نفسه الذي لم ينتج به بارت أتباعًا إلا في دراساته البنيوية التنظيرية التي جاوزها نحو آفاقه الرحبة.
وإذا كان كيليطو يذكرنا بخورخي لويس بورخيس، فهو يذكرنا أيضًا، وأحيانا أكثر، ببارت، الدارس لراسين وميشليه. ومن دون التوقف عند وصف هذه التجربة في فرادتها وإبداعيتها، فهي تحيل إلى الحرية العميقة التي يفتقدها الدرس الأدبي العربي، التي يمكن اعتبارها شرطًا لإبداعيته وفرادته.
كما أنها تحيل إلى الإنصات للتراث العربي، وللماضي بحساسية جديدة لا تتغيا إبراز الجديد الآتي من الآخر بقدر ما تجدد النظر للذات بوعي كوني، من غير انطواء، وبانفتاح يتأول تلك الذات، ويمنحها حللًا معاصرة غير مشهودة، ومن غير شقشقة اصطلاحية تلغو أكثر مما تبدع، وتترجم حرفيًا أكثر مما تتأول وتتمثل وتفكك. هكذا تنبثق النظرية من صلب التحليل والإبداع الفكري في النص، ويغدو النص النقدي أشبه برواية (كما يقول بارت)… أي إبداعًا مزدوجًا، في اللغة والبحث والكتابة واستكشاف النصوص.
لقد سقط أغلب ما كتبه بعض المنظرين المغاربة والعرب للسرديات في وهاد النسيان، والتحق بالأدبيات الأيديولوجية السابقة عليه، ليؤثث معروضات الكتب المستعملة. وأغلب ما يُنشر اليوم من دراسات أدبية ستطويه موجات أخرى ستتسبّب فيها ترجمات أخرى شخصية واحترافية…
فهل تكفي النظريات المتناسلة والمتوالية لإبداع كتابة أدبية جديدة من غير تمثلها إبداعيًا ونسيانها في صلب الإبداع الشخصي للكتابة؟ أي من نسيانها باعتبارها سلطة مرجعية لتمثلها وصفها ممكنات للترجمة فقط؟
لذا حين يسألني بعض الصحافيين: لماذا تمارس الترجمة؟ يكون أول ما يتبادر إلى ذهني الجواب التالي: لأني أفضّل أن أترجم كتابًا قادرًا على أن يعمّر طويلًا، على أن أؤلف كتابا سيطويه النسيان سريعًا.