الوباء يطوي عصر الميليشيات والثورات والدولة القديمة
لم يكن من دون دلالة تكرار الإشارات الرسمية مؤخراً على لسان المسؤولين في العالم إلى تعبير “تأميم” الذي بات قريباً جداً من التطبيق، كما قال وزير المالية الفرنسي برونو لومير من أن الحكومة مستعدة إلى اللجوء “لكافة السبل” التي من بينها “التأميم إذا لزم الأمر، من أجل حماية الشركات الفرنسية المهددة جراء تفشي فايروس كورونا”. وقد أعلن لومير مؤخرا أن باريس سوف تؤمم الشركات الاستراتيجية، وأنه أرسل بالفعل إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قائمة “بالشركات الاستراتيجية التي قد تتعرض للخطر”.
تأميم له مبرراته التي لن يعترض عليها أحد، فنحن في زمن فايروس كورونا، الزمن الذي سيقبل الناس خلاله كل شيء في سبيل إنقاذ أرواحهم. ما يوحي بأن هناك تغييراً وشيكاً سيطرأ على شكل الدولة في العالم. وإلى جوار ذلك، لم يعد أحد يتخيل أن يستمر ذلك النمط الحشدي الذي انتشر في السنوات الأخيرة، القائم على تجميع البشر في مجموعات متراصة عقائدياً لتنفيذ مهمات محددة. فالمسافة الآمنة صحياً باتت تحرّم هذا النمط من الاصطفاف، ليس لاعتبارات إنسانية وعاطفية بل بسبب خطر الموت المحقق الذي يعنيه نقل العدوى من فرد إلى آخر.
مع كل ما سبق، وبافتراض اللحظة الراهنة التي يرى أكثر المتفائلين في العالم فيها أن العثور على مخرج من الوباء قد يستغرق سنة كاملة على الأقل، تعلو أصوات في الولايات المتحدة الأميركية تطالب بـ”الاقتصاد الكنزي”. نسبةً إلى المنظر الاقتصادي البريطاني الشهير جون مينارد كينز صاحب كتاب “النظرية العامة في التوظيف والفائدة والمال”. وتلك نظرية عرفها العالم عقب مرحلة الكساد العظيم في ثلاثينات القرن العشرين.
- كينز واليد الخفية
استعادة كينز اليوم، تعني حاجة حقيقية لدى الدول الأكثر تقدما في العالم، لتغيير دور الدولة بصورتها المعروفة حالياً، إذ إن نظرية كينز تقوم على فكرة الاقتصاد المختلط، وتمنح الكثير من الأهمية لدور القطاع العام بمقابل السوق الحرة.
يرى كينز أن الاقتصاد يمكن أن يكون في حالة عدم توازن لفترة طويلة من الزمن، لهذا يدعو إلى ضرورة تدخل الدولة لإعادة التوازن إلى الاقتصاد، وضمان عدم حدوث انهيار. بينما التفكير القديم قبل ذلك كان يتحدث عن تلك “اليد الخفية”، التي ابتكرها آدم سميث في كتابه “ثروة الأمم”. والتي يشير إليها بالقول إن “الفرد الذي يقوم بالاهتمام بمصلحته الشخصية يساهم أيضاً في ارتقاء المصلحة الخيرة لمجتمعه ككل”. لأن العائد العام للمجتمع هو مجموع عوائد الأفراد. فعندما يزيد العائد الشخصي لفرد ما، فإنه يساهم في زيادة العائد الإجمالي للمجتمع.
أهمُ ما في لغة سميث ضمن فلسفته تلك هي عدم الاكتراث بالمعاني الجارحة التي يستعملها حين يبشر باليد الخفية. بحيث نرى على سبيل المثال أنه لو سُمح لكل مستهلك بحرية اختيار السلعة التي يرغب في شرائها، وسمح لكل مُنتِج بأن يبيع ما يشاء وأن يُصّنِع السلعة التي يشاء وبالطريقة التي يرغب، فسينتهي المطاف بسلع ذات نوعية وسعر مناسبين ومفيدين لكل أفراد المجتمع وبالتالي للمجتمع ككل. والسبب يعود إلى أن “الجشع سيكون عامل دفع لتصرّف نافع”.
- الدولة الجديدة
غير أن كينز لا يعتقد أن هذا وحده كفيل بتحقيق الاستقرار الاقتصادي. فقد طالب بطبع النقد، لأن ذلك يساعد على زيادة الطلب على السلع، ويسرّع دورة رأس المال وينشرها في المجتمع، ويخلق قيمة مضافة لاحقة تدعم النقد الذي تم طبعه. ولكن لا يعرف أحد ما الذي سيعنيه هذا في حال تطبيقه على نطاق واسع اليوم، فتغيير شكل الدولة لن يتوقف فقط على الاقتصاد.
طي صفحة الشكل القديم للدولة ذات الاقتصاد الحر، سيؤدي إلى تقليص حريات أخرى في المجتمعات العالمية، وليس بالضرورة أن يقود إلى دولة مغلقة على مواطنيها خلف ستار حديدي، بل قد يقدّم نمطاً جديداً أكثر تطوراً من النمط السابق. فالدولة في الحضارة الغربية بنسختها المعولمة، لا يمكن أن تستمر وفق سلم قيم لا ينظر بعين الاعتبار إلاّ إلى رفاهية العدد القليل من سكان وحدهم، فهناك ما هو أهم من الرفاهية؛ الأمن العالمي، ولم يكن مشروع الحرب على الإرهاب سوى مقدمة لتحقيق ذلك الأمن الذي سيمتد ليشمل نواح عديدة في حياة الإنسان؛ الأمن الصحي، الأمن العلمي، الأمن النقدي، الأمن التكنولوجي، الأمن الفكري، الخ.
في دولة كهذه نحن على بعد خطوات قليلة منها، لن يكون مجال لمواصلة العمل بالأسلوب القديم، فالأحزاب والتجمعات والتيارات التي لم تجد نفعاً، سيتم استبدالها بأخرى ذات تأثير حقيقي على تلك الجوانب الضرورية، إلى أقصى حد، من الأمن العام.
مبدأ “القوة الغاشمة” الذي اتبع في العديد من المساحات على خرائط الكوكب، لم يعد قادراً على قتل أحد، ولم يعد من الممكن استخدامه لتحقيق أي أهداف سياسية أو استراتيجية، ولم يعد بوسعه بسط النفوذ بعد اليوم. وهذا يعني فقدان جدوى تأسيس الميليشيات وعديد وعدة الجيوش التي كانت قادرة على اجتياح المدن والمناطق وتنفيذ المجازر والانقلابات وغير ذلك. فمردود إنشاء تلك الميليشيات والجيوش لا يقارن بكلفة نتائجها الباهظة صحياً ومن الممكن أن تتحوّل إلى مزارع للوباء لا تهدد المنطقة التي تعمل فيها وحسب، بل العالم بأسره.
- مصير الجيوش
وليس خبراً عادياً إلى ذاك الذي نقلته وكالات الأنباء عن إقالة قائد حاملة طائرات أميركية أطلق تحذيرات بعدما تعرضت سفينته لتفشي فايروس كورونا المستجد، مستنجدا في خطاب إلى رؤسائه لإخراج البحارة من السفينة. ونقلت وكالة رويترز عن البنتاغون أن إقالة الكابتن بريت كروزييه قائد حاملة الطائرات ثيودور روزفلت من عمله، تمت بعد أن كتب خطابا لرؤسائه تسرب للعلن يطلب فيه من البحرية اتخاذ إجراءات أقوى للسيطرة على تفشي فايروس كورونا على متن حاملة الطائرات، وتهمة الرجل حسب وزارة الدفاع الأميركية أنه “تصرف خارج سلسلة القيادة”.
وهذا سنرى انعكاساته سريعاً على المنطقة العربية، لاسيما الأقاليم التي فاخرت إيران طويلاً بأنها باتت تحت نفوذها؛ العراق وسوريا واليمن ولبنان، ناهيك عن إيران ذاتها ومنظومة الحرس الثوري، بعد أن قام مشروع الولي الفقيه على تفكيك الدولة العربية وإحلال الميليشيات محلها. ولعل رصدا بسيطا للعمليات شبه المعدومة التي نفذتها تلك الميليشيات بشكل “حشدي”، بعد انتشار فايروس كورونا يرينا أنه لم يعد من الممكن تجميع المقاتلين بالصورة ذاتها والدفع بهم نحو الموت الأكيد. والأمر ذاته ينطبق على الحالة المقابلة، سواء في أوساط الفصائل العسكرية السورية أو حتى في أوساط التنظيمات المتطرفة، كداعش والقاعدة، أو في الحرب الدائرة في ليبيا. إنه زمن ولى من دون رجعة.
تتسابق دول العالم إلى تبييض سجونها، والإفراج العاجل عن الآلاف من المساجين والمعتقلين، بعد أن أصبح الاحتفاظ بهم كارثة تحل بسجانيهم أولاً قبل أن تهدد المدانين أنفسهم، مهما كانت تهمهم، ومهما كانت درجة خطورتهم. فنظام السجون في العالم بأسره يعتمد بشكل أساسي على حشر المساجين في مكان محدد، وهذا لن يساعد في إنقاذهم من الإصابة بالوباء أو نقله.
- نهاية المظاهرات والسجون
عدوى الإفراج عن السجناء لن تلبث أن تتواصل حتى تشمل العالم كله، مع تصاعد أرقام الوباء، والعجز عن إيجاد حلول لتطويقه في أحسن الحالات، ولنا أن نتخيل عالماً يتدفق إلى مجتمعاته عشرات الآلاف من محتجزي الحرية، سواء كانوا أبرياء أو متهمين، كيف سيتغير شكل تلك المجتمعات؟ وكيف سيتأثر النظام العدلي العالمي في حال كان من المستحيل إنزال عقوبة السجن بحق مدان؟ حتى لو كان سجناً إفرادياً، فهو سيعني حكماً بالموت على السجين. وتبقى سجون العراق وسوريا الأكثر عرضة لهكذا احتمال، طالما لا تعترف حكومتا البلدين بضرورة اتخاذ إجراء سريع ينقذ أرواح مئات الآلاف من المعتقلين.
ما لم تستطع الثورات والمظاهرات تحقيقه، سواء بسبب استيلاء المتطرفين عليها أو بسبب ضياع بوصلتها، أو بسبب تعنت الأنظمة التي واجهتها، حققها الفايروس برفة جفن، وهو يقوم بتغيير العالم، ليس بالضرورة نحو ما أرادته تلك الحركات، لكنه بالتأكيد سيقوده إلى مرحلة تطور جديدة. وسواء وعتها تلك الشعوب أو لم تعها، فهي مرحلة قائمة على تهديد عالمي علاجه سيكون حلاً عالمياً لا أبواب مغلقة في وجهه. لأن الضرورة ستفرضه وليس الاختيار.
أصبح اللجوء إلى العقل، والحلول العلمية هو المخرج الوحيد لجميع الاستعصاءات في العالم العربي، على سبيل المثال، وهو المنطقة الأكثر سخونة في العالم التي كانت تئن تحت وباء العنف، حتى أيام قليلة معدودة، قبل أن تصبح أوروبا هي بؤرة الوباء الجديد.
لم يعد ممكنا تنسيق الناس في تجمعات بعينها والطلب منهم التظاهر من أجل أي مطلب مهما كان عادلاً، فالموت أقرب إلى الإنسان من أي وقت مضى، كما لم يعد ممكناً، في الجهة المقابلة، إصدار تعليمات لرجال الأمن والشرطة بالاحتشاد لقمع أي حركة احتجاجية حتى بخراطيم المياه. وضع جديد تماماً، لم يكن في حسبان الطرفين.
إزاء ذلك، ماذا سيفعل العاطلون الجدد عن العمل، بعد أن ينهار الاقتصاد القديم، وريثما يستبدل بنمط جديد قادر على استيعاب الذين تستغني عنهم الشركات اليوم وغداً؟ وبالتأكيد سوف تواجه الدول التي لم تكن مستعدة لتحقيق أمن مواطنيها الصحي، إشكالات هائلة، بدءاً من هذه المرحلة المتفاقمة التي تطلب فيها الدولة من المواطنين البقاء في منازلهم، من غير أن تؤمن لهم أي شكل من أشكال الضمان الاجتماعي والغذاء والعمل من المنزل كما يحصل في الدولة المتقدمة.
كل هذا يصنع دوامات من التفاعلات لا نهاية لها، في حال استمرار الوباء، ستنتج بدورها، دون شك، أنماطاً جديدة أيضاً من الاحتجاج، وأكثر ما يُخشى منه أن تكون بوابة لعنف ونهب على نطاق واسع، سبق الشعب الأميركي الجميع واستعد له بالإقبال على شراء وتخزين السلاح، فالوباء يغير الأرض، تغييراً جذرياً اليوم، ويدخلها عصرا جديدا رغما عن الجميع.