نقد

الريحاني في «المغرب الأقصى»

في الحادي عشر من أغسطس/آب من هذا العام، تكون قد مرّت خمس وثمانون سنة على كتابة أمين الريحاني لمقدمة كتابه «المغرب الأقصى» (1939).


حمَّلت هذا الكتاب مؤخرا، وأعدت قراءته، فوجدته مختلفا عن المرة الأولى التي قرأته فيها إبان مراهقتي. ذكّرني بالكتّاب والمثقفين العرب الذين ساهموا في الحركة الثقافية والسياسية العربية في بداية القرن العشرين، وحتى نهاية الأربعينيات.


تذكرت شكيب أرسلان، وزيدان، وكل الشوام الذين هاجروا إلى مصر، وساهموا في إثراء النقاش الأدبي والفكري والسياسي، أو إلى المهجر الشمالي أو الجنوبي، وهم يؤسسون في بلد لا علاقة له بالعربية وثقافتها إبداعا وتراثا ينتمي إلى حضارة أخرى.


كان المثقفون ذوي قضية وموقف.. كانوا يعبرون عن حلم مشترك، وكل يعمل من أجل تحقيقه. وكان السجال والنقاش قويا وعنيفا، وكان الإخلاص والعمق في التعامل مع القضايا الشائكة. وفوق كل هذا كانت لغة الكتابة جميلة، والتعبير دقيقا، والأسلوب رشيقا وأصيلا.


استبعدت اللجوء إلى أي مقارنة بين مثقفي عرب عشرينيات القرن الماضي، وبداية الألفية الجديدة. لم يبق أي مجال للمقارنة، وعلى أي مستوى من المستويات التي ذكرتها.


كتاب أمين الريحاني حول «المغرب الأقصى» تجسيد لكل القيم الثقافية النبيلة التي كرس لها المثقفون العرب حياتهم. وهو لا يختلف عن كتبه الأخرى التي سجل فيها رحلاته المختلفة. تبدو القضية العربية ممثلة في فلسطين هاجسه المركزي، وهو الذي قضى شطرا كبيرا من حياته في أمريكا التي أتقن لغتها وثقافتها قبل أن يفتح عينيه على العربية وتاريخها.


كان أول عربي يكتب رواية باللغة الإنكليزية. كان أمريكيا في تكوينه وحسه، لكنه عانق القضايا العربية ودافع عنها داخل أمريكا. وتنقل في البلاد العربية متعرفا ومنافحا عن القيم الأصيلة والتاريخية. قراءة كتاب مرّ عليه أكثر من ثمانين سنة يبين لك الفرق الشاسع بين الأمس واليوم، ويكشف لك بالملموس كيف أن الموقف الواضح، والقضية المحددة يمنحان للنص المكتوب حياة أخرى تتعدى الزمن الذي كتبت فيه، عكس ما نقرؤه اليوم، والذي ينتهي أجله بانتهاء وقت قراءته.

بات الحديث الآن كثيرا عن «ما بعد الاستعمار». لكنني أرى أن ما كتبه أمين الريحاني خلال فترة الاستعمار أعمق بكثير مما يدعى أنه ما بعده، وإعادة قراءته تكشف ذلك.

يمكن إدراج كتاب «المغرب الأقصى» ضمن كتب الرحلات، لكنها رحلة مختلفة عما درجنا على إسناده إلى هذا النوع من الخطابات. إنه في آن واحد سيرة ذاتية، نلمس فيها حياة الريحاني، وفي الوقت نفسه نعتبره كتابا في التاريخ والجغرافيا، والسياسة والاجتماع والثقافة.


إنه وثيقة عن المغرب، تتعدى البعد السياسي والاقتصادي والأنثروبولوجي والتاريخي. تتداخل في الكتاب الوثيقة المكتوبة، والمشاهدات العينية، واللقاءات المباشرة، والتحليل السياسي الذي يربط بين مختلف البنيات والعناصر، وقد امتزج فيها المغربي بالعربي، وهما معا بالفرنسي والإسباني، فكشف مختلف أوجه العلاقات والتناقضات داخل المجتمع المغربي، بين شماله وجنوبه، وبين أنواع الاستعمار، وكشف ما تحت الخطابات والوقائع في كتاب واحد، ما نجده متفرقا في الكثير من الكتب.


وفوق كل هذا نجد كل ذلك يقدم إلينا بلغة جميلة ودقيقة تبهرك وتشدك إليها، وهي كما تبدو خالية من أي تكلف، أو تصنع، لغة منسابة وبسيطة وعميقة. ويمكن لمقدمة الكتاب لوحدها أن تكون موضوعا لدراسة تكشف التحولات التي طرأت على خطاب الرحلة العربي في كتابات أمين الريحاني.


كان الحدث الكبير الذي توقف عليه الريحاني طويلا، وناقشه بعمق لا نجد أيا من روحه، فيما ظل يتردد في المغرب عن الظهير البربري في الآونة الأخيرة. عايش المغرب لحظة احتدام النقاش حوله في مغرب الثلاثينيات، فنقل لنا أجواءه وأبعاده المختلفة، مما لا نجده بالصورة التي قدمها به.


أحاط بالملف من مختلف جوانبه، واطلع على أغلب ما كتب عنه، وعن آثاره ومآلاته. ومن بين نقولاته عن الظهير، ما كتبه محمد داود، صاحب «تاريخ تطوان» عن الظهير البربري سنة 1937، والذي جاء فيه: «يا فرنسا، إن الحقيقة التي لا مواربَة فيها، وإن الصراحة التي يسرنا ويهمك أن تسمعيها، هي أننا ـ نحن المغربيين ـ كبارا وصغارا، ذكورا وإناثا، علماء وجهالا، في حواضرنا وبوادينا، من حدود الجزائر إلى المحيط الأطلنتيقي، ومن البحر الأبيض إلى الصحراء الكبرى ـ نستنكر السياسة البربرية كل الاستنكار،

وننزه فرنسا الحقيقة ورجالها الأحرار عن المشاركة فيها، ونصارح كل من يهمه الأمر أن الإصرار على تنفيذها سوف لا تكون له نتيجة إلا إبعاد الثقة بين الحكومة والشعب، وخلق المشاكل العويصة التي يعود الشطر الأكبر من مضارها على الحكومة ورجالها ومشروعاتها».

وبعد استعراضه لمختلف وجهات نظر الأحزاب والمثقفين، يكشف من خلال استشهادات لكتاب فرنسيين عن الأهداف الحقيقية وراء الظهير البربري، الذي يرى فيه تجسيدا لحلم استرجاع المنطقة المغاربية إلى تاريخها اللاتيني قبل الفتح الإسلامي. ويقوم بالتحليل نفسه، وهو يفكك المنظور الاستعماري للمنطقة، ويقف على الدسائس والمؤامرات التي يمارسها الاستعمار الفرنسي والإسباني في المنطقة.


بات الحديث الآن كثيرا عن «ما بعد الاستعمار». لكنني أرى أن ما كتبه أمين الريحاني خلال فترة الاستعمار أعمق بكثير مما يدعى أنه ما بعده، وإعادة قراءته تكشف ذلك.

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى