الديمقراطية الرّقمِيّة؛ خطوةٌ ضرورية نحو الديمقراطية السياسية في الوطن العربي
عزَّزت الدول الديمقراطية مكسبَها الديمقراطي السياسي بالديمقراطية والحرية الرقمية. فيما قنعتْ شعوبُ بعض الدول ذات الأنظمة الاستبدادية بهذا النوع من الديمقراطيات الشكلية؛ ولو بصيغة معدَّلة وأكثر تحفظا، ونخص بالذكر هنا بعض الدول العربية (نسبيَّة الاعتدال) كالمغرب؛ الجزائر؛ تونس؛ لبنان والأردن. بحسب تصنيف منظمة (فريدوم هاوس)، فيما لا يكاد يُسمع للديمقراطية الرقمية وحرية الإعلام حسيسا ولا هَمْسًا في الدول العربية ذات الأنظمة الشمولية في الشرق الأوسط؛ باستثناء دوليتيْن أو ثلاثة.
استطاعت الأنترنيت إنهاء الرقابة واحتكار المعلومة وتوجيه الرأي العام، وبالتالي؛ أصبح كلُّ من يستطيع التعامل مع الأزرار؛ يحوز التخلصَ والانعتاق بشكل آلي من رقابة وتوجيه الدولة، وتتسع هذه الديمقراطية وتضيق بحسب النطاق الذي ينتمي إليه المتصفِّح. ففي الدول الديمقراطية؛ يمكن للمواطن التعبير عن رأيه وأفكارِه وانتقادَ مسؤوليه والسخرية منهم، وخلقِ عالمِه الرقمي الخاص به، وتسيريِه وتوجيهِه كيفما شاء، بِحُرية لا يحدُّها إلا القانون الذي يسري على الجميع في حال التجاوز.
أما في الدول ذات الأنظمة الشمولية، فإن هذه الحقوق الرقمية منقوصة، وتتناقص تدريجيا بحسب النِّطاق الجغرافي الذي ينتمي إليه المتصفّح، إلا أنها على كل حال تبقى ((دمقراطيةً رقمية)) إن صح هذا التعبير. أدْناها؛ أن يستطيع المواطن تصفُّح ومتابعة الأخبار والمستجدات التي تهمُّه وتعالج قضاياهُ الحياتية الحقيقية. وقد لا يَستطيع أن يتفاعل أو يُدلي بدلوِه؛ لما يترتبُ عن ذلك من متابعة أو مساءلة زجرية في بعض الدول التي تضيق فيها حرية التعبير. والتي تساوي فيها تدوينةٌ واحدة أو تغريدةٌ خارج السرب؛ سنواتٍ من السجن أو آلافِ الدولارات من الغرامة.
لقد أتاحت ثورة تكنولوجيا الاتصال أشكالا وأنواعاً وأدواتٍ كثيرةٍ متنوعة ومختلفة للتواصل والاتصال وتبادل المعلومات، وبأثمنة بخسة جداً. وبالتالي صار من العصب على السلطة السياسية؛ كبحُ هذا التحرر الجارف، كما أن التقوقع والانغلاق على الذات، وتسييج الحدود وتسويرِها، له تكلفةٌ سياسيةٌ واقتصادية وتنموية باهظة.
لقد أتاحت الثورة الرقمية هامشَ حريةٍ كبير جدا، استطاعت معه الجماهير إسقاط وساطة الحكومات أو الدولة في كثير من الأمور، خاصة ما يتعلق بالأمور الإجرائية والتنظيمية التي كانت بمثابة العصا والجزرة التي تتعامل بها الحكومات مع الأوضاع المضطربة، وبالتالي سقوط هذه الرقابة والتحرر منها إلى بدائل أخرى أتاحها الفضاءُ الرقمي. خاصة في وسائل التواصل كالبريد الإلكتروني ومنصات التواصل الاجتماعي، ومقاطع الفيديو التوثيقية المباشرة، وأصبح متاحا لكل متمكِّن؛ إيجاد بدائل مناسبة للخروج من وضعِهِ الصعب، فإلى جانب التحرر من التوجيه السياسي للرأي العام وفرض المعلومة عليه. أصبح بالإمكان الآن الاطلاع على وجهات نظر مختلفة، خاصة منها المعارِضة.
فقد استفادت المعارضات العربية التي تم نفيُها في العقود الماضية خارج البلاد، أو التي فرّت بجلدِها من بطش الأنظمة؛ استفادت وبشكل كبيرٍ جداً من الثورة المعلوماتية، واستغلَّتها أحسن استغلال لاكتساح الداخل، ونشر أفكارِها وآرائها دون أن يستطيع النظام السياسي فعلَ أي شيء لكبح هذا المد الجارف داخل قواعِده؛ اللهم حَجْبُ مواقعِها التي تتناسل كالفِطر.
ويتجلى لنا التأثير والفاعلية القصوى لهذه الوسائط في الربيع العربي، حيث استطاع الشعب العربي التوحد إلكترونيا وتجربة هذا الاتحاد ميدانيا، فكانت النتائج مبهرةً إلى حد كبير، فما لا يعلمُه كثيرٌ من المتابعين للحراك الشعبي العربي، أن هذه الثورات ليست في النهاية غير تجلٍّ فعليٍّ للديمقراطية الرقمية التي حرّرت الإنسان العربي افتراضيا أمام شاشة حاسوبِه أو هاتفِه الذكي، وجعلتُه يتوق للتحرر ماديا؛ والانعتاق من سلاسل القهر والكَبْتِ والعبودية والاستبداد، فإذا كانت نتائج سنوات قليلة من دخول تكنولوجيا الاتصال للبلدان العربية هي سقوط أنظمة وثورات متتالية، فإن ما سيتراكم وسيتسع من الممارسة الفعلية لهذه الديمقراطية الرقمية في السنوات القليلة القادمة، كفيلٌ بإحداث هزة حقيقية في الأنظمة الشمولية، وإجبارِها على تقديم بعض التنازلات، وسماحِها على مضضٍ بتمثيليةٍ معقولةٍ للشعوب في دوائر الحُكم، وتحقيقِ بعضِ مطالبِها في العيش الكريم والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
لقد ساهمت هذه الوسائل الرقمية أيضا، وبشكل فعال في فضح وكشف كثير من الشخصيات والحقائق التي كان محجوراً عليها وممنوعٌ تسرّبها للرأي العام المحلي أو العالمي. والتفاعل معها بشكل كبير، كما حدث مع وثائق “ويكيليكس”؛ التي سربت ملايين الوثائق السرية للرأي العام العالمي، مختصرةً بذلك ما يقاربُ خمسة عقودٍ من الزمن دفعة واحدة، فمثل هذه الوثائق لا يُسمح بالإعلان عنها إلى بعد مرور عقود من الزمن، عندها تصبح مجرد وثيقة تاريخية تزين رفوف الأرشيفات الوطنية، أما ما حدث مع ويكيليكس؛ فهي وثائق إدانة بكل ما للكلمة من معنى. كلُّ هذا الزخم الرقمي المتسارع؛ ساهم وبشكل كبير جدا في زيادة نسبة الوعي لدى الناس؛ وتعريفِهِم بقضاياهم وهمومِهم الحقيقية والمصيرية.
لقد استطاعت هذه الثورة التكنولوجيا الرقمية تعرية كثير من النفاق السياسي العربي، وإبطال كل المزاعم والخُطب والشعارات الزائفة التي روَّجت لديمقراطية زائفة طيلة عقود من الزمن، واستطاعت كذلك تغيير نظرة المجتمعات العربية القبلية للديمقراطية، وجعلِها مُبتغىً سياسيا عاجلا وضروريا لهذه الشعوب، خصوصا؛ بعد ممارستِها ولو افتراضيا على الوسائط الرقميّة.
في المقابل؛ استطاعت هذه الحكومات وبفعل عكسي كذلك؛ وبواسطة نفس هذه التكنولوجيا تتبع وكشف أهواء ومُيُولات وأفكار قطاعات عريضة من مواطِنيها؛ ورصد خلفياتهم السياسية والايديولوجية والعقَديَّة. بالإضافة إلى ظهور ما يُصطلح عليه حاليا بــ “الذُّباب الإلكتروني”، أو “الكتائب الإلكترونية”؛ وهم نسخة رقمية من المخبرين الموالين للسلطة، ينشطون في الصفحات وفي منصات التواصل الاجتماعي، هدفهم شقُّ الصفوف وتمرير خطابات السلطة. وممارسة رقابة على كل ما يُنشر أو يُتداول، والتغطية على الأحداث والوقائع الحقيقية بقضايا وموضوعات تافهة وتسليط الضوء عليها.
لا يختلف اثنان في أن لهذه الثورة الرقمية سلبيات ومخاوف ومخاطر كذلك، لكنها في المقابل لها آفاق واعدة وجمة. خصوصا ما يتعلَّقُ بالتأسيس لديمقراطيةٍ سياسية ستُفرض فرضاً على الأنظمة الراديكالية الشمولية. من خلال تحرير الفرد ومنحِه إمكانية الانتقاء والاختيار والتعقيب والرد، موفِّرةً له مصادر المعرفة والمعلومة والخبر. كل هذا سيؤدي حتما إلى تحرير هذا الإنسان العربي وانعتاقِه؛ وبالتالي انحلال هذه الأنظمة السياسية الصلبة والجامدة والخشنة. ومنح الشعوب حق الاختيار وحق التنصيب والعزل وحق المساءَلة أيضا.