«أُورْهان باموق» والفن الرِّوائي بين السّذاجة والحساسية
“لا شكَّ أن الإبصار من بين أهم التجارب الحياتية التي يُحسِّها كل واحد منا.
فكتابة رواية ما تتم من خلال الرَّسم بالكلمات، وقراءتها ترتكز على تخيُّل صورٍ
بفضل كلمات شخص آخر.”
أورهان باموق، الروائي الساذج والروائي الحسَّاس
- التقديم:
وُلد “أورهان باموق” سنة 1952 بمدينة إسطنبول التركية. درس المرحلة الثانوية بمدرسة أمريكية، قبل أن يلتحق بعد ذلك بكلية العِمارة في الجامعة التقنية بإسطنبول؛ ذلك أنه كان يظن إلى حدود سنة 1974 أنه سيصبح رسامًا. فجأة، غيَّر “باموق” الاتجاه، وانتسب إلى كلية الصحافة. بيْد أنه ــ من جديد ــ ترك كل شيء وتفرَّغ كُلِّيَّة للكتابة، ولا شيء سوى الكتابة، وذلك ابتداء من سنة 1975.
هكذا ابتدأت ملحمة “أورهان باموق” الإبداعية برواية “جودت بيك وأبناؤه” سنة 1982 التي نالت جائزة وطنية تركية (جائزة أورهان كمال للرواية)، فرواية “البيت الصامت” التي نالت هذه المرة جائزة أوروبية “Prix de la Découverte Européenne“، ثم رواية “القلعة البيضاء” التي حصلت على اعتراف عالمي من خلال ترجماتها المتعددة إلى عشرات اللغات العالمية، لتتواتر بعد ذلك إنتاجاته الإبداعية وتتواتر معها الجوائز من مختلف ربوع العالم. تُوِّجت مجمل أعماله بجائزة نوبل للآداب سنة 2006.
أثارت أعمال “باموق” جدلاً داخل تركيا وخارجها، خاصة أنه تحدث فيها عن حقوق الأقليات، وأخص بالذِّكر هنا “الأرمن”، وعن مواقفه المعارضة لتوجهات الحكومة التركية، فضلاً عن تجسيده ــ من خلال روحه القلقة التي تُلمس في رواياته ــ للحزن والكآبة اللذين يلفان إسطنبول ويسبغان عليها رداء قاتمًا؛ وهو ما جرّ عليه مرارًا الكثير من المتاعب مع الحكومة التركية.
أما بالنسبة إلى النَّصِّ موضوع الترجمة، فهو يركِّز ــ بعد تمهيد حول شخصية “أورهان باموق” وأعماله الروائية ـــ على بعض أهم المنطلقات التي تُشكِّل عَصَب روايات “باموق”؛ فهو على وَعْيٍ تامٍ بضرورة التَّمييز داخل العمل الأدبي بين الجوانب الإبداعية فيه، التي تشكِّل قيمة مضافة من توقيع المؤلِّف، وكذا الجوانب الواقعية بما هي حقل خصب للملاحظة والتَّدَبُّر. وانطلاقًا من مرجعية مُركَّبة أدبية وفكرية، تمتاح من هويات متعددة فرنسية، وألمانية، ومجرية، وروسية، وإنجليزية… ومن حقب تاريخية متعددة، يخلص “باموق” إلى أن الروائي هو في الحقيقة شخصان في ذات واحدة؛ إذ يجب عليه أن يكون من ناحية عفويًا يُجسِّد البساطة في أبهى صورها، ومن ناحية ثانية عاطفيًا ذو قدرة على التَّأمُّل الفكري.
وعلى العموم، يبقى هذا النص ذو أهمية محورية في فهم مُنطلقات “باموق” الإبداعية، ومرجعياته التي عليها يبني أعماله الإبداعية ويصوغ رؤيته للعالم.
- نص الترجمة:
حصل الكاتب التركي “أورهان باموق” Orhan Pamuk في الـ 12 من أكتوبر 2006 على جائزة نوبل للآداب لتعبيره بقوة عن تلاقح الثقافات، وعن كآبة مسقط رأسه ـــ إسطنبول.
“أورهان باموق”، كاتب ذو شعبية كبيرة، ورجل حرّ، يَصْرِف عشر ساعات يوميًا في الكتابة. اقتحم بقوة ساحة النقاش الأوروبي، بإعلانه في الصحافة سنة 2005: “قُتِل مليون أرميني، وأكثر من 30000 كردي، بدون أن يجرأ أحد على التفوّه بكلمة واحدة”(2). وإذا كان [الكاتب] قد أُدين من لدن الدولة، فإنه لقي مساندة واسعة في عالم الأدب؛ حتى إنه أصبح بمثابة رمز.
“أورهان باموق”، المواطن الملتزم، يعتبِر نفسه أولاً وقبل كل شيء روائيًا طيب الخاطر، حالمًا وشاعريًا.
تأثر “أورهان باموق” بـكل من “ستاندال” Stendhal و”بلزاك” Balzac و”دوستويفسكي” Dostoïevski و”نابوكوف” Nabokov؛ وقد حققت أعماله نجاحًا عالميًا [ساحقًا]. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، نذكر: رواية القلعة البيضاء(3) الصادرة سنة 1985 (تحكي قصة العلاقة التي ربطت بين عبد إيطالي من مدينة البندقية وعالِمٍ عثماني)، ورواية الكتاب الأسود(4) الصادرة سنة 1990 (وهي رواية تجريبية مثيرة، تدفع بمحام إلى العوالم السفلية سريعة التغير لإسطنبول)، ورواية اسمي أحمر(5) الصادرة سنة 2000 (وهي رواية بوليفونية(6) حول الشرق بكل حكاياته وفنونه التشكيلية)، وأيضًا رواية ثلج(7) الصادرة سنة 2004 (وهي رواية ترصد التَّوتُّر على مستوى الهويَّات في قلب مدينة صغيرة بالشمال الشرقي لتركيا(8)).
وعلى هذا الأساس، كانت صَنْعَة الرواية في صُلب المحاضرات التي ألقاها “باموق” بنيويورك، في خريف سنة 2008، وذلك بدعوة من صديقه وزميله الأكاديمي “هومي بهابها”(9) Homi Bhabha. وقد تم تجميعها في كتاب بعنوان: الروائي السَّاذج والروائي الحسّاس(10). [في هذا الكتاب/المحاضرات] حاور “باموق” كلاً من “مونتيني” Montaigne و”نيتشه”Nietzsche ، جامعًا في نفس الآن بين التأمل النقدي واستعراض مسار حياته الشخصية؛ فـ”باموق” استهلّ الكتابة [الأدبية] في سن الثانية والعشرين، معبِّرا عن تركيا كما انطبعت في مخيلة طفولته من خلال [رواية] جودت بيك وأبناؤه(11). كما أنه ناقش فن الشعر لـ “هوراس” Horace، ونظرية الرواية لـ “جورج لوكاش” Georg Lukács، وأَوْجُه الرواية(12) لـ”إدوارد فورستر” Edward Forster.
كيف يمكن للكاتب أن يفرض صوته الخاص؟ أي أجزاء الرواية يجسِّد جانب الإبداع، وأيُّها يمثِّل جانب الواقعية؟ يُشكِّل جواب “باموق” [عن هذين السؤالين] مدخلاً رائعًا إلى الأدب؛ فالرواية بالنسبة إليه بمثابة إدراك أدبي بصري ونصي في نفس الوقت. ذلك أن “فن كتابة الروايات يرتبط بالقدرة على إدراك أفكار الشخصيات وأحاسيسها داخل مشهد ما”.
وانطلاقًا من ثنائية “أدب بصري” (يُثير كل من “هوميروس” و”تولستوي” Tolstoi الدهشة من خلال الصور والرؤية)، و”أدب نصّي” (يؤثر كل من “إدجار ألان بو” Edgar Alain Poe و”دوستويفسكي” من خلال فقراتهما وتأملاتهما)، يذكر “باموق” أن “فريدريش شيلر” Friedrich Schiller ميَّز في سنة 1796 بين مجموعتين من الشعراء: السُّذَّج والحسَّاسون. تمثِّل المجموعة الأولى العفوية الطبيعية للفنان (“دانتي” Dante، و”شكسبير” Shakespeare، و”سيرفانتس” Cervantès)، في حين تُجسِّد المجموعة الثانية العاطفية التأمُّلية (الاستبطان الأخلاقي لـ”شيلر” [مثلاً]). وما يهم حسب “باموق” هو أن يكون الروائي ساذجًا وحسَّاسًا في الوقت نفسه؛ فالكاتب يصل الشعور الشخصي (“ساذج”) بفكر عام (“حسَّاس”). ولعمري، تُشكِّل هذه العلاقة محور الرواية؛ إذ بفضلها تتبدَّى قوة إبداعية الحكاية، وترابط الجُمَل، فضلاً عن شاعرية النثر وموسيقاه السِّرِّية أو العفوية. “داخل الروايات محبوكة التأليف، تَنسج هذه العلاقات الإطار العام للكِتاب، وتحدد حجر زاويته السِّرِّي”.
بعد دراسة “باموق” للوشائج التي تجمع بين الفن والأدب والحياة، ختم بحثه بالتذكير بأنه لطالما حلم في ريعان شبابه أن يصبح رسامًا؛ بحيث إنه كان شديد الانتباه لكل ما يحيط به، شأنه في ذلك شأن “كمال” بطل روايته العاطفية التراجيدية مُتحف البراءة(13)، الذي كان مهووسًا بجمع كل ما يُذكِّره بخطيبته (زجاجة عطر، دبُّوس، فنجان شاي…). وبإنهائه لتأملاته حول ثنائية واقعية – خيال، افتتح “باموق” متحفا بإسطنبول، يضم كل الأشياء التي سردها في روايته المذكورة أعلاه.
وهكذا، يُعتبر [كتاب “باموق”] براءة الأشياء(14) بمثابة دليل للصُّور والأشياء الغريبة التي عرضها الكاتب، والتي حصل عليها على مراحل أثناء كتابته للرواية (ملابس البطلة “فُسُون”، تذكرة يانصيب ورد ذكرها في الرواية)، أو أشياء مُتخيَّلة (مثل العلامة التِّجارية المتخيَّلة لمشروب غازي).
لقد قام الكاتب بتحويل الخيال إلى واقع؛ ذلك أن هذه الأشياء هي في نفس الآن محرِّكة للسرد، وأيضًا دعامة للذَّاكرة.
- هوامش وإحالات:
1 – مصدر النص المترجَم:
Aliocha Wald Lasowski, «Le roman selon Pamuk», Le Magazine Littéraire, N : 524, octobre 2012, p : 38.
ملاحظات:
– تم تعديل عنوان المقال حتى يعبر أكثر عن المضمون الْمُرام؛
– العنوان الفرعي للنص المترجَم من وضع المترجِم؛
– جميع الهوامش من وضع المترجم؛
– الكلمات والعبارات بين معقوفين […] هي إضافات من المترجم زيادة في الإبانة والتوضيح.
2 – في الحقيقة، تحدث “باموق” عن إبادة الأرمن والأكراد متهمًا تركيا بذلك صراحة لأول مرة في روايته “ثلج” الصادرة سنة 2004؛ حيث دعا حكومة بلاده إلى الاعتراف بهذه الجرائم، غير أن الدولة التركية اتهمته بإهانة الأمة التركية، وحاكمته بناء على ذلك.
3 – صدرت الترجمة العربية لهذه الرواية سنة 2000، عن دار ورد للطباعة والنشر والتوزيع بسوريا، بترجمة “عبدالقادر عبداللي”.
4 – صدرت الترجمة العربية لهذه الرواية سنة 2003، عن دار المدى للثقافة والنشر بسوريا، بترجمة “عبدالقادر عبداللي”.
5 – صدرت الترجمة العربية لهذه الرواية سنة 2000 في طبعتها الأولى، وسنة 2004 في طبعتها الثانية، عن دار المدى للثقافة والنشر بسوريا، بترجمة “عبدالقادر عبداللي”.
6 – أو “الرواية متعددة الأصوات”. وهي الرواية التي تعتمد على تداخل الأفكار والرؤى الإيديولوجية، وتعدد الرواة والشخصيات… وما يستتبع ذلك من تنوع في الأساليب والصيغ والسجلات اللغوية وغيرها. وندين بهذا المصطلح للباحث الروسي (السوفيتي) “ميخائيل باختين” في دراسته للنِّتَاج الروائي للكاتب الروسي الأشهر “فيودور دوستويفسكي”. Fiodor Dostoïevski
7 – صدرت الترجمة العربية لهذه الرواية سنة 2005، عن منشورات الجمل بألمانيا، بترجمة “عبدالقادر عبداللي”
8 – هي مدينة “قارص”.
9 – فيلسوف وأستاذ جامعي وناقد أدبي أمريكي من أصول هندية، التحق بهيأة التدريس بجامعة هارفارد منذ سنة 2001. يعتبر رفقة كل من “إدوارد سعيد” Edward Said و”غايتري سبيفاك”Gayatri Spivak من أهم المنظرين المنتمين إلى تيار ما بعد الكولونيالية، ممن أَثَّروا ــ ولا يزالون ــ في الأبحاث الثقافية المعاصرة. من أهم مؤلفاته: الأمة والسّرد. (ويكيبيديا بتصرّف)
10 – صدرت الترجمة الفرنسية لهذا الكتاب سنة 2012 بترجمة “ستيفاني لوفي” Stéphanie Levet عن دار نشر “غاليمار”، تحت عنوان:
Le Romancier naïf et le Romancier sentimental
أما بالنسبة إلى الترجمة العربية فكانت من توقيع “ميادة خليل” سنة 2015، عن منشورات الجمل. ويرى ناقل روايات “أورهان باموق” إلى اللغة العربية “عبدالقادر عبداللي” أن الترجمة الصحيحة لهذا العنوان هي: الروائي البسيط والمُفكِّر.
11 – صدرت الترجمة العربية الكاملة لهذه الرواية سنة 2007، عن دار التلوين للتأليف والترجمة والنشر بدمشق، بترجمة “عبدالقادر عبداللي”.
12 – صدر هذا الكتاب بالإنجليزية تحت عنوان: Aspects Of The Novel، وذلك سنة 1927. وفي سنة 1960، قام كل من “كمال عياد جاد” و”حسن محمود” بنقله إلى اللغة العربية بعنوان أركان القصة ونُشِر بدار الكرنك للنشر والطبع والتوزيع بالقاهرة.
وقد آثرت أن أُغَيِّر العنوان إلى أوجه الرواية لأن الكتاب يتحدث عن الرواية لا عن القصة، ولأن الكاتب الإنجليزي يشرح في كتابه أنه اختار Aspects باعتبارها تعبيرًا غامضًا سيتيح له حرية الكلام؛ ويبدو أن هذا التحديد يتصادى مع كلمة “أوجه” أكثر من اختيار “أركان” جليَّة المعنى ومحدَّدَته، لاسيما في الثقافة الإسلامية.
13 – نشر “أورهان باموق” هذه الرواية سنة 2008، وقد صدرت ترجمتها العربية سنة 2016، عن دار الشروق بمصر، بترجمة “عبدالقادر عبداللي”.
14 – لم أعثر على ترجمة عربية لهذا الكتاب، ولكنه صدر في ترجمة فرنسية سنة 2012، من توقيع المترجم “فاليري غاي أكسوي” Valérie Gay Aksoy عن دار النشر غاليمار.
يحكي “باموق” في هذا الكتاب المراحل التي مرَّ منها تأسيس مُتحفه، ويصف الأشياء التي يحويها، وينتصر فيه للمتاحف الصغيرة التي تُعبِّر عن المظاهر الإنسانية في الحياة المعاصرة.
خاص لمجلة فكر الثقافية
نبيل موميد: أستاذ مُبَرَّز في اللغة العربية، مركز أقسام تحضير شهادة التقني العالي – أغادير – المغرب