فكر وفلسفة

هايدغر والديمقراطية أو زعامة الرعاة

قالت حنّا أرندت ذات مرة بشكل بيوغرافي: أرجو أن يكون هيدغر آخر الرومانسيين. ونحن سندفع بهذا الرجاء إلى فرضية سؤال أكثر جذرية ونصوغه كما يلي: إنّ هيدغر هو “آخر الشرقيين” أو “آخر التوحيديين” بالمعنى الجوهري لهذا الانتماء في أفق الغرب والإنسانية الحالية.

الشرقيون التوحيديون – ونحن سنعتمد هنا على دراسة طريفة لميشال فوكو تحت عنوان ’’في الجمع وفي المفرد’’: نحو نقد للعقل السياسي (تعود إلى 1978)” – هم الذين اخترعوا نموذج الملك-الراعي ( le roi-pasteur). هم الذين فهموا السياسة بوصفها “رعياً” ( pastorat ) وليس “دولة” (Etat).

وهذا نموذج عرفته الأمم الشرقية القديمة مثل مصر وسوريا وبابل ويهودا. بدءً من الإله /الراعي إلى الملك /”راعي البشر”. وهذا كما ينبّه على ذلك فوكو في تقابل حاد مع الفكر السياسي اليوناني.

وليس من الصدفة في شيء أنّ أوّل تعريف فلسفي غربي واسع النطاق للسياسي قد انطلق في محاورة أفلاطون السياسي من نقد النموذج الشرقي القائم على فكرة “الملك-الراعي” (le roi-pasteur)، أي السياسي الذي يفهم السياسة بوصفها أحد “الفنون الرعوية” ( arts pastoraux) ،

ومن ثمّ الذي يحكم باعتباره “راعي ومربّي القطيع البشري”. وأطروحة أفلاطون – وهو ينفرد هنا عن أرسطو الذي يسكت تماما عن النموذج الرعوي- هي أنّ السياسي ليس منافسا في فن رعاية القطعان،

إذ أنّ الفرق بين الملك والمستبدّ هو كالفرق بين السياسة والرَّعْي: بين ما يسميه “فنّ العناية بالبشر” وبين الرَّعْي بوصفه يقف عند “تربية القطيع” و”تغذيته” في نحو من الميميزيس السيّئة. فن العناية بالبشر من حيث هم “مدنيون” أي مواطنو مدن، هو السياسة ومهنة السياسي.

التوحيديون هو “الرعويّون” بامتياز. ولذلك يمكن تعريف الإغريق، كما تحدّدت ملامحهم الحاسمة لدى أفلاطون في محاورة السياسي بخاصة، بأنّهم “مدنيّون” بامتياز.

وهنا يصبح التقابل بين الرعوي التوحيدي والمدني الإغريقي قطب الرحى في أيّ استشكال غربي لماهية السياسي بعامة، ولمعنى “الزعامة” بخاصة.

إنّ نكتة الإشكال في السياسي في أفق الإنسانية الغربية منذ أفلاطون هي : تحرير “السياسي”(le politique ) من “الرعوي” ( le pastoral)، وبعبارة حرفية واصطلاحية أدقّ إعادة “البوليطيقي” إلى “البوليس” (Polis)، ومن ثمّة تحرير “المدني” من “الرعوي”.

هذا هو الرهان الأكبر للفلسفة السياسية الغربية من أفلاطون إلى سلوتردايك (ونعني هنا نصّه “قواعد لحضيرة النوع البشري”).

لذلك فمسألة الزعامة سوف تُطرح على صعيد يؤدي فيه الرهان على تحرير السياسي من نموذج الراعي دورا حاسما. ولكنّنا قد نحتاج هنا إلى فرضية ثانية: الزعامة هي في سرّها طمع رومانسي توحيدي شرقي في تنشيط النموذج الرعوي باستعادة شخصية الملك-الراعي.

وتعريف الزعيم بامتياز هو السياسي /الراعي : الراعي الذي يستجمع فوكو عناصره في كونه يتسلط على القطيع، ويجمّعه، ويقوده، ويؤمّن خلاصه، ويعتبر السلطة عليه “واجبا” وتعهّدا روحيا.

ويبدو لنا أنّ هيدغر قد انتهى في الكتابات ما بعد 1933 إلى استعادة صريحة للمعجم الرعويّ، وليس ذلك فقط في العبارة الشهيرة :” ليس الإنسان سيّد الكائن. بل الإنسان هو راعي الكينونة” (ضمن رسالة في الإنسانوية).

بل إنّ عبارات “القيادة” و”الطاعة” و”الجماعة” و”الشعب” و”الأمة” و”القدر” و”الحراسة” و”الحماية” و”المحافظة” و”اليقظة” و”الشجاعة” و”الوحدة” و”الخطر” و”المنزل” و”الأرض” و”الطريق” و”العودة إلى الديار”،الخ،

وهي أدوات تفكير هيدغر الثاني في تاريخ الكينونة، كلّها من أصل رعوي، وليست مدنيّة في أيّ شيء. وحسب تقدرينا هذا هو بيت الداء في الصدمة التي أحدثها انخراط هيدغر في أفق “الثورة المحافظة” بعامة وفي صيغتها النازية بخاصة.

– كيف أتى هيدغر إلى اعتبار اللقاء بين الذات الحديثة والتقنية المنصَّبة على مستوى كوكبي حدثا ميتافيزيقيا من الحجم الذي أدّى بفيلسوف من وزنه إلى الخطأ في تقدير الحركة النازية وفهمها في أوّل الأمر على أنّها أهل لقيادة الإنسان الأوروبي لإصلاح عصر العدمية بواسطة زعامة روحية عالمية قادرة على رعاية الكينونة في أفق الإنسانية الحالية ؟

من الناحية البيوغرافية يرجع خطأ سنة 1933 ومن ثمّ طريقة هيدغر في تفسيره لاحقا كما يصرّح بذلك بنفسه في الخمسينات إلى طبيعة قراءته لكتاب إيرنست يونغار ( Jünger) العامل Der Arbeiter (1932) ، الذي تمّ فيه طرح شخصية العامل-المحارب الحديثة بوصفها تجسيدا لإرادة القوة النيتشوية واكتمال ميتافيزيقا الذاتية الهيغلية على أساس التقنية الكوكبية،

وقد سبق ليونغار أن طرح صيغة أوّلية لنفس الكتاب سنة 1931 تحت عنوان لافت هو “التعبئة العامة” ( Die Totale Mobilmachung، La Mobilisation totale ).

وهو عنوان أعاده سلوتردياك إلى الخدمة سنة 1989 في الترجمة الفرنسية لكتابه “أوروطاوية” (Eurotaoismus) تحت عنوان “التعبئة اللامتناهية”(la mobilisation infinie)، وذلك كاحتفاظ صريح وحريص بأنّ العصور الحديثة ينبغي أن تؤوَّل بوصفه ضربا من “التعبية” العامة واللامتناهية أي التعبئة الكوكبية.

إنّ الحركة النازية- وهيدغر لا يستثني هنا الحركة الشيوعية ولا حركة الأمركة أيضا كما جاء في مقابلة 1966- هي نتيجة تاريخانية للقاء مع التقنية الكوكبية. إلاّ أنّ وعي الحركة النازية بنفسها إنّما هو تطبيق سيّء لنموذج العامل-المحارب وفق إرادة القوة.

باعتبارها الحل الوحيد لممارسة عدمية نشيطة بالمعنى الذي اشترطه نيتشه أي من أجل قلب جميع القيم وخلق لوحة جديدة للحياة على الأرض تمكن من المرور من الإنسان الأخير إلى ما فوق الإنسان. هذا ما لم يتفطّن إليه هيدغر إلاّ بعد الأوان. وهذا ما اعترف به في تلك الجملة التي أثارت غبارا عاليا سنة 1953 عند نشر درس صيف 1935.

لكنّ ما يهمّنا حقا هنا هو أنّ هذا التشخيص ليس بيوغرافيا فقط بل هو قد أدّى بهيدغر إلى إصدار حكم جدّ مخيّب للآمال حول الديمقراطية كأفق مناسب للعيش معاً على الأرض. إنّ فشل “العصر الحديث” لا يكمن فقط في الحطّ من ماهية العلم الغربي من رعاية الكينونة إلى تحسيب وتعليب تقني استفزازي لقوة الكائن في “الجهزوت” أو القشتال،

بل في الانزياح بشكل أو بآخر في حضن “الدولة الكليانية” التي تحوّل جوهر التقنية في كل لحظة إلى بنية خطر وهيمنة ومن ثمّ إلى بنية تسليم عميق بعدم القدرة على الاهتداء إلى إعادة التقنية نفسها إلى طبيعة الكينونة كإمكان عفوي ومعافى وسليم ومن ثمّ مقدّس فيها.

  • عن الفشل إزاء إمكانية كبح جماح التقنية الكوكبية، يقول هيدغر:

“لا أحد، ولا أيّ رهط من الناس، ولا أيّ هيئة ، ولو كانت مكوّنة من أعظم رجالات الدولة والعلماء والتقنيين، ولا أيّ مؤتمر لأرباب الصناعة والاقتصاد يمكن أن يكبح أو يوجّه المسار التاريخي للعصر النووي. لا توجد منظمة إنسانية بحتة بإمكانها أن تأخذ في يدها مقاليد الحكم على عصرنا”.

وعن الفشل في الخروج من أفق الدولة الكليانية بواسطة الديمقراطية، يقول هيدغر سنة 1966 في المقابلة مع مجلة دير شبيغل أو المرآة :

“إنّها لمسألة حاسمة بالنسبة إليّ اليومَ أن نعرف كيف يمكن أن نجد نظاما سياسيا مناسبا للعصر التقني وأيَّ نظام سوف يكون هو. لا أعرف جوابا عن هذا السؤال. ولست مقتنعا بأنّ ذلك سيكون الديمقراطية.[..] أنا أسمّي [حلولا من هذا النوع] “حلولا وسطى” (des demi-mesures)،

لأنّني لا أرى في كل ذلك أيّة مساءلة حقيقية للعالم التقني، ولأنّ وراء كل ذلك، حسب رأيي، توجد الفكرة القائلة بأنّ التقنية هي من حيث كينونتها شيء يملكه الإنسان في اليد. في تقديري هذا غير ممكن. إنّ التقنية في كينونتها شيء ليس للإنسان من نفسه أن يسيطر عليه.”

لا يرى هيدغر في “الدولة التقنية” غير “شرطي ” هو أكثر الشرطيين خضوعا وعمى إزاء التقنية. وذلك أنّ الدولة التقنية لا وطن لها. إذ هي لا تفعل غير اقتلاع الإنسان من تراثه الخاص والزج به في عالم آلي فيه كلّ شيء يعمل دون أيّ تقدير خاص لعلاقة الإنسان بالأرض.

الدولة التقنية تصنع إنسانا بلا أرض. كيف نفهم الآن اعتراض هيدغر على الديمقراطية كحلّ مناسب للسياسة في العصر التقني ؟

يمكن أن نستفيد هنا من بعض إيضاحات دريدا في الفصل 4 من كتابه سياسات الصداقة حول “التردد” الذي سكن الكلام اليوناني “باسم الديمقراطية”. – إذ أنّ الديمقراطية تفترض “الديموغرافيا” و”العدد”، فهي ما تنفكّ تترجم نفسها في ضرب من “تجربة العدد” حسب عبارة المسعدي.

وليس “الشعب” غير العدد الذي يريد أن يبني نمطا أقصى من “الأخوّة” أو “الجماعة” أو “الصداقة” كمستحيل عددي، وبعبارة دريدا : ” يتعلق الأمر بالشعب من جهة ما يتماهى مع نفسه (en tant qu’il s’identifie)، من جهة ما هو هو أو ما يريد أن يكون”.

لكنّ مفهوم “الشعب” هو الذي قاد هيدغر إلى القومية سنة 1933. ومنذئذ اكتشف هيدغر أنّ “الوطن” في ماهيته ليس مشكلا قوميّا. بل هو يتعلق بشيء أعمق وأكثر خطورة هو ترتيب علاقتنا السياسية بجوهر علاقتنا التقنية الكوكبية بالكائن.

يقول :” بالنظر إلى اللاّوطن الجوهري الذي من شأن الإنسان إنّما يتبيّن للتفكير من جهة تاريخ الكينونة أنّ القدر المقبل للإنسان يكمن في أن يكشف عن حقيقة الكينونة و أن يضع نفسه على طريق هذا الكشف.

إنّ كلّ قومية إنّما هي من زاوية ميتافيزيقية نزعة انثروبولوجية و بما هي كذلك هي نزعة ذاتية. والقومية لا تُتجاوَز بواسطة الأممية ، بل توسَّع و تُرفع إلى رتبة النسق فحسب. إنّ القومية لا يُبلَغ بها و لا تُرفع إلى الإنسانية إلاّ قدر ما يحدث ذلك لنزعة جماعية بلا تاريخ. [..] ليس الإنسان سيّد الكائن. إنّما الإنسان هو راعي الكينونة”.

وعلينا أن نختم هذا السفر القليل ولكن المتوعّر مع هيدغر بإعادة المشكل إلى منبته ونسأل: أيّ موقع عندئذ للزعماء في عصر التقنية الكوكبية ؟ أليسوا هم أيضا “رعاة” كينونة ؟

يبدو أنّ هيدغر فقد الأمل على مستوى بشري عندما صرّح سنة 1966 : ” وحده إله يمكن أن ينقذنا”. وبالحريّ هو قد يئس من أيّ نوع من الزعامة أو القيادة “الإنسانوية”. فهو يعلّق على كل من يواصل لوم القادة على فشل العصر بأنّهم بذلك هو يقدّمون لهم أقصى إطراء ممكن.

ذلك أنّهم في الواقع “ليسوا هم الذين يفعلون”، وليس ذلك خطأ في أنانيتهم بل هو ضلال كامن في ظاهرة عالمية هي لقاء الإنسان بجوهر التقنية دون أيّ وجهة حقيقية لقيادتها نحو رعاية الكينونة كـ”ملكوت” (Ereignis ) لا نملكه بل يملكنا ، ككائنات في طريقها إلى المدى الخاص بها دون قدرة على امتلاك قدرها.

فتحي المسكيني

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

تعليق واحد

  1. شكرا لكم على هذه المؤلفات الرائعة فعلا الأمر أشبه بالإبحار في محيط من المعارف و الأفكار كلما أبحرنا و استكشفنا جزء انتابتا الفضول إلى استكشاف المزيد, أو أن الأمر أشبه بالشرب من مياه البحر كلما شربنا إزددنا عطشا و لكن أكثر تنويرا ,نعم مؤلفات و أفكار تسمح لنا بفهم العالم أحسن و فهم العلاقات التي تسود البشر و المشاكل و المعضلات الفكرية التي تشغلهم , جزاكم الله عنا كل خير .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى