نقد

كورونا يعيد “الطاعون” وألبير كامو إلى واجهة المكتبات

 

نشر ألبير كامو روايته “الطاعون” عام 1947. حكاية الرواية مبنية على جائحة الطاعون التي قتلت نسبة كبيرة من سكان مدينة وهران الجزائرية، فالمدينة والمناطق المحيطة بها عانت من الأوبئة مرات عدة، وفتك بها الطاعون في الأعوام التالية: 1556 – 1678 – 1921 – 1931 – 1944. الأهم من كلّ هذا أن أحداث الرواية وقعت عقب الاحتلال الألماني النازي لفرنسا، في الحرب العالمية الثانية.

وتعد “الطاعون” أوّل نجاح كبير لكاتب من حيث عدد المبيعات، خاصة بعد ترجمتها إلى لغات كثيرة حول العالم، ونال عنها كامو جائزة نوبل. وعرفت الرواية انتشارًا واسعًا في اليابان عام 2011، بعد كارثة فوكوشيما النووية، وفرض السلطات حصارًا على السكان، وإخضاعهم للحجر الصحي. ومع جائحة كورونا، هذه الأيام، عادت الرواية لتتصدر قائمة المبيعات في إيطاليا.

الطاعون مرض معدٍّ يصيب الإنسان والحيوان، منشأه بكتريا تصيب الإنسان من خلال لدغات البراغيث، والتلامس المباشر مع الحيوانات، وانتشار الرذاذ المعدي. إنّها هجمات إرهابية بيولوجية حواملها القوارض، والمرض يحدث عندما تصيب بكتريا الطاعون الرئتين. ويمكن أن تنتقل البكتريا عن طريق الهواء، بعد السعال، أو العطس.

وُلِدَ ألبير كامو في السابع من نوفمبر/ تشرين الثاني 1913، وتوفي في فرنسا في الرابع من يناير/ كانون الثاني 1960، في حادث سيارة. وهو فيلسوف وجودي، وكاتب مسرحي وروائي فرنسي. وُلِدَ في مواندافي في قرية الذرعان في مقاطعة قسنطينة، وعائلته من أصحاب الأقدام السوداء، أي من المستوطنين الفرنسيين، في بيئة شديدة الفقر. أبوه فرنسي قُتل بعد مولده بعام في إحدى معارك الحرب العالمية الأولى، فربته أمّه، وهي إسبانية أمية مصابة بصمم

“عرفت الرواية انتشارًا واسعًا في اليابان عام 2011، بعد كارثة فوكوشيما النووية، وفرض السلطات حصارًا على السكان، وإخضاعهم للحجر الصحي”

التحق بمدرسة “لي سي بوجو”، حيث أنهى الدراسة الثانوية. ومن خلال المنح الدراسية، التحق بجامعة الجزائر، فدرس الفلسفة في كلية الآداب، وانضم إلى المقاومة الفرنسية أثناء الاحتلال الألماني لفرنسا، ووقف ضد الاستعمار الفرنسي للجزائر، ودافع عن حقوقهم في العمل والسياسة.

تحكي “الطاعون” عن تحول المدينة إلى سجن كبير لا يدخل ولا يخرج منها أي شخص، وتطرح الأسئلة حول ماهية القدر والوضعية الإنسانية، بعضهم يرى أنّه عقاب إلهي، والكاهن يرى فيه غضبًا إلهيًا وعقابًا سماويًا، ولكنه يموت وحيدًا بصمت وبلا رحمة. كذلك يموت طفل بريء.

يقول كامو: “سأرفض هذا الخلق الذي يعذب فيه الأطفال”، إنّها قصة النفي والصراع بين سعادة الإنسان وتجريدات الطاعون، أي بين الخلاص الفردي والجمعي، بين الهروب وخوف المجابهة مع الوباء الذي يشبه القدر. وهي تطرح كثيرًا من الأسئلة التي تتعلق بطبيعة القدر والحالة البشرية، فهي رواية عبثية وجودية، ووتيرة السرد فيها شبيهة بوتيرة السرد في رواية “المحاكمة” لكافكا، فغالبًا ما يكون للمادة صدى واضح باعتبارها تمثيلًا صارخًا للوعي الهائل والحالة البشرية.

والعبثية الوجودية مدرسة أدبية فكرية تعني حالة الصراع بين ميول الإنسان للبحث عن هدفه من الحياة، وعدم قدرته على فعل ذلك، وفيها عدم وضوح وانعدام الرؤية، والشكوك السياسية والاجتماعية، ومقاومة النازية في فرنسا وأوروبا، فيها الوجود والحبّ والموت والثورة والمقاومة والحرية، فقد اجتاحت القوات الألمانية النازية أرض فرنسا من دون أي مقاومة تذكر، وغمر الفرنسيون شعور بالخزي. وبعد أن حصلت مقاومة محدودة، تشكل جيش فرنسي انضم إلى الحلفاء في الخارج بقيادة ديغول، غير أن الاحتلال الألماني لم يدحر من الداخل، وتخلصت فرنسا من قبضة النازيين بواسطة جيوش الحلفاء.

بقيت وهران مسرحًا لرواية الطاعون، لكن الاسم ليس سوى إطار للرواية، وليس له علاقة بمصائر أبطالها، فالمدينة غير مهمة، وتاريخ حدوث الطاعون فيها ليس واردًا، إنه اسم مستعار لأي مدينة فرنسية، أو أوروبية، إنّها تمزج الأحداث المأساوية بحوارات عميقة إلى الأسئلة الإنسانية الكبرى (الصمت، الخوف، الجنون، إلى شجاعة لا وجود لها)، فقط الدكتور ريو وصحبه يقاومون وباء لا يعرفون أنهم ضحاياه.

تساعد الشخصيات كافة التي في الرواية في إظهار تأثيرات الطاعون على العامّة، فالطبيب

“تطرح الرواية أسئلة تتعلق بطبيعة القدر والحالة البشرية، فهي رواية عبثية وجودية، ووتيرة السرد فيها شبيهة بوتيرة السرد في رواية “المحاكمة” لكافكا”

برنار ريو رجل في الخامسة والثلاثين من عمره، معتدل الطول، أسمر البشرة، ذو شعر قصير جدًا، أوّل من عالج أولى ضحايا الطاعون، وأوّل من استخدم هذه الكلمة لوصف هذا الوباء. حذر ريو السلطات، إنّ لم تتصرف مباشرةً، فمن الممكن أن تفتك الجائحة بنصف تعداد السكان، وهو يترأس مستشفى احتياطيًا، ويعمل طوال اليوم في علاج الضحايا بحقنهم بالمصل، ويبضع الدمامل، ولكن ليس باستطاعته أن يفعل غير ذلك، ولا يعود إلى المنزل إلا متأخرًا، وغالبًا ما يتوسل إليه أقارب الضحية ألا يفعل ذلك، نظرًا لعلمهم أنهم قد لا يرون الشخص مجدّدًا، إنه يعرف أن مقارعة الموت أمر لا يمكنه من الفوز فيه أبدًا.

وفيها بعض الأطباء الآخرين الذين يعملون بصمت لإنقاذ الآخرين من تأثيرات الطاعون، وهناك الانتهازيون الذين يتاجرون بالطاعون لزيادة أرباحهم. إنّها تصور الفقر والتخلف، وفيها مشاهد لتراكم القمامة، وجثث القوارض، في الشوارع العامّة، ومداخل البنايات السكنية، التي ما تلبث أن تنقل الطاعون إلى السكان، وتخضع المدينة لحجر صحي عام. شخصيات الرواية تريد الخروج، لكن السلطات تنكر تفشي الوباء، فيما السكان يتساقطون موتى من الطاعون.

يتخلل الرواية وصف حي للطبيعة، وللشعب وعاداته وتقاليده ونضاله في صراعه ضد الاستعمار، وضد التخلف والجوع، ضد الطاعون الذي يحصد آلاف الضحايا كلّ يوم، وأخيرًا يعلن المجلس البلدي أن الوباء قد زال.

إنّها تروي قصة أناس يتآزرون في عملهم زمن جائحة الطاعون، وتطرح أسئلة حول ماهية القدر والوضعية الإنسانية، وتغطي طبقات اجتماعية مختلفة، إنّها تصف واقع الوباء على الطبقة الشعبية، وتعتبر هذه الرواية من الكلاسيكيات الخالدة.

إنّ وباء كورونا، أخطر من الطاعون، فقد دبّ الهلع في قلوب الناس، وخلخل النسيج الاجتماعي، وجعل الناس يعتكفون في المنازل خشية أن تصيبهم العدوى.

وإلى “الطاعون”، كتب ألبير كامو روايات عديدة منها: الغريب، السقطة، المقصلة، الإنسان المتمرد، الموت السعيد، المنفى والملكوت، الرجل السعيد (سيرة ذاتية).
وفي المسرح: كاليغولا، سوء تفاهم، الحصار، العادلون.

 

فيصل خرتش

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى