قراءة أخرى لمشروع طه حسين
ماذا يعني ان نناقش اليوم ونحن على مشارف القرن الواحد والعشرين, مشروع طه حسين الثقافي والتربوي بعد مرور ستين سنة على وضعه كتابه (مستقبل الثقافة في مصر؟ هناك افكار وفلسفات تصير في ذمة التاريخ, و لا يبقى يهتم بها سوى المؤرخين, وهناك افكار من الماضي مايزال لها معنى بالنسبة للحاضر, لا لانها تظل محافظة على صفة الدوام والقيمة المطلقة, بل لان الحاضر مايزال يستدعيها ويعيد قراءتها وهو يتطلع الى المستقبل, وصلاحية مثل هذه الافكار ليس في كونها تتلبس الحقيقة الثابتة, بل في كون الذي يعيد تداولها هو واع تماما بأنه يقوم بتحويل في معناها الاصلي, وتجديد لمقاصدها, وذلك بنقلها من مجال تداولي قد مضى الى مجال تداولي جديد.
الذي نحاوله هنا مع مشروع طه حسين الثقافي والتربوي هو تناول مزودج فمن جهة سنحاول تحديد الاطار التصوري لهذا المشروع ذلك انه يقوم على فلسفة تربوية لها منطلقاتها ومحدداتها, ومن جهة ثانية, هناك عالم قد تحول تحولا عميقا منذ ان وضع طه حسين مشروعه, فلابد من اعادة قراءته على ضوء هذه المتغيرات الكبرى.
هناك قضية لا تخلو من مفارقة: وهي ان طه حسين, والذي لقب بعميد الادب العربي, كان القسط الاكبر من شغله الثقافي هو هذا الادب العربي وتراثه, لكن التراث العربي, – وهنا المفارقة -, لا يعتبر طه حسين مرجعا يؤسس عليه اي بناء للنهضة, كان تفكيره وهو يفكر بالنهضة يتحدد بحدود مصر, جغرافية وحضارة, ربما لأن فكرة القومية العربية, وحتى القومية الثقافية العربية,
لم تكن قد راجت في مصر آنذاك, حين كان طه حسين يملي كتابه مستقبل الثقافة في مصر, كان هناك دعاة لما كان يسمى بالرابطة الشرقية, الا ان طه حسين لم يكن يأخذها مأخذ الجد, كان اقتناعه ان الحضارة الغربية فرضت نفسها على كل الامم باعتبارها حضارة عالمية, فنسخت كل الحضارات, واصبح للتقدم طريق واحد, وهو الاندماج في هذه الحضارة (العالمية) والاندماج يقتضي الدخول من المدخل اي من اصول هذه الحضارة, اي التراث اليوناني.
ومفهوم الحضارة العالمية مفهوم غربي وضعه المفكرون الغربيون في القرن التاسع عشر وفي تصور (العميد) فان اية حضارة من الحضارات السابقة لم تكتسب, صفة العالمية, ليس هذا وحسب, بل لان هذه الحضارة في قيمها ومؤسساتها لا نظير لها, وان اصولها ومنطلقها هو الثقافة اليونانية, وعليه فان النهضة المصرية الحديثة لن تكون ممكنة الا بالبدء من الاصول اليونانية للحضارة الغربية واستيعابها.
اننا لسنا بصدد مناقشة فهم (العميد) لاصول الغرب الحديث, فالمؤرخون يعطون لاصوله وتطوره تفسيرات اعمق واعقد من تفسير طه حسين, وانما الذي يستوقفنا هو اعتقاد طه حسين بأن الحضارة الغربية هي نهاية التاريخ, ان الحضارة الغربية عنده ابتكار محض في اسسها وقيمها,
وهي ليست استئنافا لحضارات سابقة فقد ابتكرت العقلانية ابتكارا, فتغلغلت العقلانية اولا في داخل الحضارة اليونانية فانتصر اللوجوس على الميثوس, العقل على الاسطورة وحين انتصرت اليونان في حروبها مع الفرس انتصارا نهائيا كان ذلك انتصارا للعقلانية الغربية على الروح الشرقية وابتكر اليونان الحرية ونظامها السياسي اي الديمقراطية, كما ابتكروا العلم ونظريته, والفن المطلوب لذاته بابداع وتنظير يقول طه حسين: (العقل اليوناني ظهر في العصر القديم مظهرين مختلفين: احدهما يوناني خالص هو الذي انتصر,
وهو الذي يسيطر على الحياة الاوروبية الى اليوم, والاخر شرقي انهزم مرات امام المظهر اليواني, وهو الان يلقي السلاح ويسلم للمظهر اليوناني تسليما, ومادامت الحضارة الغربية اصبحت في رأيه حضارة عالمية, او هي الحضارة, فانه لا طريق للنهضة الا بالاندماج في هذه الاخيرة, ويكون ذلك بالدخول من المدخل, اي من الاصول اليونانية,
وذلك بأن تستوعب النخبة من (المفكرين المستنيرين قادة النهضة) هذه الاصول اليونانية للحضارة الغربية العالمية. وتفكير عميد الادب العربي لم يكن في المجال العربي, بل في المجال المصري وبما ان النهضة الاوروبية في رأيه احياء للاصول وبناء عليها, فان النهضة المصرية هي اعادة ادماج مصر في مجالها الطبيعي, مجال حوض البحر المتوسط (مصر الجديدة لن تبتكر ابتكارا) (ولن تقوم الا على مصر القديمة) حين كانت هذه الاخيرة وثيقة الصلة بالحضارة اليونانية ودليله على ذلك الاسكندرية التي (كانت مدينة يونانية بأدق معاني هذه الكلمة واصدقها واحلاها) واذن فالكاتب المصري يقطع بأن مصر كانت جزءا من الغرب الثقافي, ثم جاءت حقبة طويلة ابتعدت فيها مصر عن مجالها المتوسط الغربي, اي الحقبة الاسلامية والعثمانية.
بالنسبة للفترة الاسلامية نجده يميز امور العقيدة والقيم التي اكدها ا نها قد تجسدت في الصدر الاول هذه الفترة لم يعرف فيها الاسلام نظام الاستبداد الذي هو دخيل على الاسلام والروح العربية, او هذا ما اصبح يقوله طه حسين منذ كتابه على هامش السيرة, اما الفترة الثانية, فترة مصر العثمانية, فهو يحمل عليها بشدة هذه الفترة التركية بالنسبة اليه هي قرون مصر المظلمة, فاذا كانت الحضارة العربية قد نقلت ولو أجزاء من الثقافة اليونانية,
فان الاتراك قد قطعوا صلة مصر بمجالها الحضاري المتوسطي: (العنصر التركي يرد الشرق (الادنى) ومصر الى الانحطاط, ويقطع الصلة بينها وبين اوروبا دهرا) ثم يذهب ابعد فيفلسف التاريخ قائلا: (واني اعتقد انه يكاد يكون مؤكدا ان الترك العثمانيين لو لم يوقفوا سير الحركة العقلية في مصر مدة طويلة لكان الذهن المصري من تلقاء نفسه ملائما للاذهان الاوروبية في الاعصر الحديثة, ولكن الترك كانوا عقبة كأداء, فنامت مصر, بينما خطت اوروبا خطوات كبيرة, ولم تستيقظ الا بتأثير اوروبا والحملة البونابارتية المباركة, فنهضت واحتكت بالاوروبيين الذين غدوا اساتذتها, واني اعتقد بمنتهى اليقين ان تأثير اوروبا, وفي مقدمتها فرنسا, سيعيد الى الذهن المصري كل قوته وخصبه الماضيين) .
ونحن نلاحظ على هذا الكلام ملاحظتين: الاولى ان تركيا هي بلد متوسطي اذا تقبلنا منطق الرجل, وهي جغرافيا اوروبية بخلاف مصر, فلماذا اعتبرها بلدا ليس شرقيا وحسب, بل ناشر للاستبداد الشرقي في امبراطوريتها, طبعا طه حسين هنا يفكر بما روجه كتاب ورحالة أوروبيون قبله بقرنين من ان انحطاط الشرق – والعثمانيون هم مثلهم المفضل – عائدا الى طبيعة النظام السياسي الاستبدادي ونموذجه الدولة العثمانية.
الملاحظة الثانية هي ان طه حسين يصف غزو نابليون لمصر بـ (الحملة البونابارتية المباركة) ومثل هذه العبارة مؤشر على موقف ملاحظ عند الذين سموا بالليبرالية وهو ان اعجابهم المفرط بالغرب جعلهم يبحثون (عن ظروف تخفيف) لوجوده الاستعماري, هناك ترادف عند طه حسين بين الحداثة والتغريب, ولو انه يشير احيانا الى ان دعوته الى الاندماج في الحضارة الغربية لا تعني فقدان الشخصية الوطنية ومعلوم ان التطبيق الشامل للتحديث المرادف للتغريب قام به اتاتورك,
وقد احدث قيام نظامه وانهاؤه الخلافة رد فعل قوياً في العالم العربي والاسلامي, كان من نتائجه نقاش ساخن حول نظرية الخلافة ومستقبلها, وفي خضم هذا النقاش وضع على عبدالرزاق كتابه الشهير الاسلام واصول الحكم, وقد كان هذا الكاتب متصلا اتصالا شخصيا وفكريا بطه حسين, وكان الاثنان انذاك منتميين الى الحزب ذي المنزع الليبرالي, حزب الاحرار الدستوريين ان طه حسين يفكر بما روجه كتاب ورحالة اوروبيون قبله بقرنين من ان انحطاط الشرق عائد الى طبيعة النظام السياسي الاستبدادي ونموذجه الدولة العثمانية.
الملاحظة الثانية هو ان غزو نابليون لمصر يصفه بـ (الحملة البونابارتية المباركة) ومثل هذه العبارة مؤشر على موقف ملاحظ عند الذين سموا بالليبراليين من الاستعمار, فقد جعلهم يبحثون عن (ظروف تخفيف) لوجوده الاستعماري لقد ادى اعجابهم الثقافي بالغرب, وبمؤسساته الى التسليم بعالمية حضارته, ولذلك كان التقدم الذي ينشدونه لبلدانهم هو تحديثها تحديثاً لم يكونوا يتصورونه دون اندماج كامل في الحضارة الغربية, فاعتقدوا تلازم الحداثة والتغريب.
لم يكن كتابًا يتصور امكان تعدد الحضارات في المستقبل, او امكان تعدد انماط الحداثة او سبل التحديث, وهو ما اصبح مسلما به الان حتى عند الباحثين الغربيين) وان السيادة في المستقبل لن تكون للحضارة الغربية وحدها, وان حداثة المستقبل ستكون متعددة الثقافات, وكل هذا لم يكن من قبيل المفكر فيه عند الكاتب المصري, فلم يكن امامه في عصره سوى الغرب, حضارة وحيدة طاغية,
فالغرب كان يتحكم في 70 في المائة من اقتصاديات العالم, ويسيطر الاستعمار على 49 في المائة من مساحة المعمورة ويتحكم عالميا في طرق المواصلات, وسوق رأس المال, والنظام المصرفي والتجاري, ويحتكر البحث العلمي وتكنولوجيا السلاح, وينشر قيمه, وثقافته باعتبارها متفوقة وعالمية.
اذا كان يقال ان الاصلاحيين المحدثين بمختلف اتجاهاتهم يفكرون ضمن ثنائية (نحن والاخر) او يفكرون بالاخر, فان هذا الاخر كان هو الغرب واذا كنا اليوم نعايش تحولا كبيرا على مستوى العالم وصعود قوى اقتصادية وحضارية غير غربية واسيوية بالخصوص, فاننا لا يمكن ان نأخذ عليهم انحصار فكرهم في اطار الحضارة الغربية وحدها لانه لم يكن في عهدهم كما في عهد طه حسين قوى اخرى اقتصادية وحضارية صاعدة,
فكان الغرب وحده هو الاخر المحاور او المقتبس منه, او المقتدى به حسب اتجاهات الاصلاحيين, ولم يكن منتظرا من طه حسين ان يتجاوز هذا الاطار التصوري واذا كان لطه حسين والاصلاحيين عذرهم, فان مفكرينا لا يزالون حتى اليوم منحصرين في نفس ثنائية (النحن والاخر) وان الاخر هو الغرب, والحال ان حال العالم قد تحول, وان العالم الاسيوي الذي كان زمان طه حسين غير ذي شأن فان وضعه الان قد تغير جذريا اذ ان اسيا تتحدى الان الغرب على مستويات ثلاثة اقتصادي وسكاني وثقافي وهو ما سنتعرض له في الشطر الثاني من هذا الموضوع.