أخبار ومتابعات

أين اختفتْ أفراح وادي العرايس؟

قد لا يعلم قسم كبير من أهالي حلب، بوجود حارة كبيرة (أو حي صغير) في مدينتهم تدعى “وادي العرايس”.. حسناً كنتُ مثلهم: لا أعرفها وما سمعتُ باسمها في طفولتي الغابرة، فرغم قربها من حي “السكري” جنوب حلب حيث أقيم، ورغم مروري بحي “الكلاسة” الشعبي – الذي يتفرع منه الوادي – عدة مرات بصحبة أمي وأبي.


إلا أنني لم أسمع به إلا بعد دخولي المدرسة، ولم أزُره إلا في بداية شبابي!.
ففي الصف الثالث الابتدائي على ما أذكر، قامت مديرية التربية بحلب برفد مدرستي “الثورة للبنين” بمعلمات (آنسات) لأول وآخر مرة إلى جانب المعلمين الذكور، طبعاً تعلقت قلوب معظم الأساتذة بالآنسات الجميلات الشابات، كذلك تعلقت بهن قلوب التلاميذ على صغر سنهم، على وجه الخصوص التلاميذ الأشقياء والزعران، الذين كانوا يقومون بحركات بهلوانية للبصبصة على سيقان الآنسات، وما بعد السيقان.


طبعاً أنا أيضاً فرحت بآنسة صفنا الجديدة اللطيفة الجميلة، كانت بهية الطلعة، باسمة الثغر، حسنة الوجه والقوام، ذات هندام حسنٍ على الطرز الحديث المخالف لأزياء النسوة في حينا الشعبي، والأهم من ذلك وذا، إنها لا تستخدم العصا لضرب الكسالى والعصاة، وغالباً ما توزع ابتساماتها وبطاقات “المرحى” على التلاميذ المجدين بسخاء.


صادفتُ رفيقي ابن حارتي “محمود” الشقي في الاستراحة بباحة المدرسة، رأيته يلف ويدور حول الآنسة المناوِبة ذات القَدّ الأهيف الجميل، القاسية القلب، المقطبة الحاجبين، ذات العقاب الغليظ.. كان يرمي قلم الرصاص والممحاة على الأرض من خلف ظهرها، ثم ينحني ليلتقطهما ويبصبص على ما تحت تنورة المعلمة الغافلة عن حركاته، صحتُ باسمه بصوت عالٍ، وبدون “مرحبا” أنّبته لمّا جاء، قلت له:


ما الذي تفعله يا محمود؟ ألا تخجل على نفسك من هذه الحركات الصبيانية؟ ماذا سيقول عنك قريبك الأستاذ “عبد القادر” إذا رآك، وماذا سيقول عنك من يعرفك أنك ابن الشيخ التقي؟ ألا تكتفِ بما تراه من آنسة صفكم؟

قهقه محمود بصوت مرتفع وأردف قائلاً:
آنسة؟ عن أي آنسة تتحدث يا محظوظ؟.. “آنستي” ما في مثل جمالها بوادي العرايس، ولا في الفردوس!
قال محمود آخر جملة، وأردفها بضحكة عالية ساخرة وهو يبتعد عني ليواصل حركاته البلهاء.. تركني واقفاً في مكاني وكلي في حيرة من أمره، فهل وصلت شقاوته إلى حد التلصص على الآنسة المناوبة الفظة غير المحبوبة؟ ألا يكتفي بجمال آنسة صفّه الذي يفوق جمال العروسات في وادي العرايس وجنة “الفردوس” كما قال لي؟


كنتُ أحسب حتى ذلك الوقت، أن وادي العرايس منطقة مشهورة بالفتيات الجميلات الشابات، بحيث يختارهن العرسان حصراً من تلك المنطقة للزواج، فالوادي يدل اسمه على وفرة العرائس، بحيث يقتصر على العرائس فقط دون بقية السكان.

فكم ورد أمامي ذكر فلان أو علّان من ضيعتي أو أقربائي، فيقال: (تزوج فلان بعروسه فلانة من وادي العرايس)، وكم كان يأخذنا أبي – أنا وبعض اخوتي – لزيارة عمتي “الحاجة زمزم” بالكلّاسة في طريق ذهابه إلى عمله، ثم يعود أول المساء ليعود بنا إلى بيتنا في السكري.


فكنا نسمع أصوات حفلات الأعراس المقامة في “ساحة الأحرار” القريبة من بيت عمتي، نسمع صوت المغني والزغاريد والموسيقى وإطلاق النار ابتهاجاً بفرح العريس، نسألها أن تأذن لنا بالذهاب إلى الساحة لحضور العرس، فتزجرنا عن ذلك بحزم قاطع، نسألها بحسرة وخيبة:
عرس من هذا يا عمتاه؟


تقول بنبرة قاطعة:
إنه عرس فلان ابن فلان من ضيعة كذا، أو من أهالي حلب، فلا يقربنا ولا نحضر عرسه مطلقاً.
أو تقول لنا غالباً بنبرة فرح:
إنه عرس فلان ابن فلان، قريبنا من بيت كذا من وادي العرايس، لكن لا أسمح لكم بحضوره إلا مع أبيكم إذا جاء الآن..

ننتظر وننتظر، حتى نعلم أن أبي تأخر علينا وحضر حفل زفاف قريبه لوحده، نعلم ذلك حين تطلب منا عمتي النزول من السطح لنأوي باكراً إلى الفراش، فإذا طال وقت العرس حتى آخر الليل ونحن نيام، يعود أبي لينام ليلته في بيت اخته ويتركنا برعايتها لثاني يوم، فنكتفي ليلتها بما نشاهده من سطح بيتها من خيالات، وبما يصل أسماعنا من نغم وطرب وألحان، وبما يجود به خيالنا البعيد من تصورات.


لم أكن أعلم أن رفيقي الشقي محمود، كان يهزأ بي عندما أجابني ذلك الجواب الساخر، فقد علمتُ فيما بعد، أن الصفوف الأعلى من صفنا الثالث – من الرابع حتى السادس – لم يزودها المدير بالمعلمات الجديدات، خوفاً عليهن من تحرش التلاميذ اليافعين، بدل ذلك، عيّن لهم الأساتذة الأشداء القادمين من الأحياء الشعبية المشهورة بالعنتريات، من ذوي القلوب الفظة، والوجوه الظالمة، والعصا الحامية!..

هكذا تبين لي أن محموداً الشقي، كان محروماً من جمال آنسات الصفوف الدنيا، فهو يكبرني بعامين، ويتقدمني بصف واحد (الصف الرابع)، فكان من فئة الضالين، الذين يعوضون حرمان عيونهم من التمتع والتحرش بمفاتن الآنسات، بالتلصص والتحرش بقوام الآنسة المناوبة في باحة المدرسة أثناء الفرصة (الاستراحة) فقط، وهذا عذره.


كما تبين لي فيما بعد، أن سكان “وادي العرايس” ليسوا كلهم عرائس جميلات كما تخيلت، ولربما هذا ما قصده رفيقي محمود بتلميحه إلى آنسة صفّه المعلم “الذكر”.

فقد كان الشقاء يتجسد في معالم أجساد نساء وادي العرايس و وجوههن، كما يتجسد في معالم بيوت وأزقة الحارة الشعبية العشوائية الفقيرة ذاتها، أيضاً يتجسد الشقاء والفقر والحرمان، بأبشع صوره في وجوه وأجساد الذكور – حتى الأطفال – الذين تُجبرهم ظروفهم السيئة على سكناها.. وهذا ما تبين لي من أول زيارة إلى وادي العرايس.


حدث ذلك في مراهقتي، حيث كنتُ أدرس في الصف الثاني الإعدادي بمدرسة “الشهداء”، التي تقع بآخر “حي المغاير” على حدود حي “الفردوس”، إذ صادقتُ زميلاً دعاني لزيارة بيته في وداي العرايس تمتيناً لعُرى الصداقة، فلبيت دعوته مسروراً أيما سرور!..

قلت في نفسي: (أخيراً ستتكحّل عيناك يا جهاد برؤية فتيات الوادي الجميلات، فقد تحظى بإحداهن وتتخذها عروساً لك في قادم الأيام..)، لكن ما تخيلته عن وادي العرايس كان في وادٍ، وما رأيته بعيني في وادي العرايس في وادٍ آخر سحيق مظلم مخيف، وهذا عذري في تأويل الأسماء وفق تخيلاتي الجامحة!
لكن في الحقيقة، وكيلا نظلم وادي العرايس.


فقد كان له نصيباً يسيراً من اسمه، ففيه تكثر حفلات الأعراس، أو بالأحرى تكثر فيه الزيجات، التي تقام حفلاتها في ساحة الكلاسة الفسيحة لضيق أزقته وعجزها عن إقامة الحفلات، فساحة الكلاسة (ساحة الأحرار) الملاصقة للوادي من شرقيها، تخلو من بسطات وعربات الباعة الجوالين في آخر النهار، فلا يبقى فيها إلا عربة بائع المشاوي على طرفها الجنوبي قرب جدار الجامع، فوجود العربة والشواء اللذيذ بعيداً عن فناء الساحة لا يمنع إقامة الحفلات فيها، بل وجود الشواء مرغوب ومطلوب في كل حال، وخصوصاً إذا صاحب حفل الزفاف بعض المشروبات الروحية.


عرفت هذه المعلومات من خلال حضوري لبعض حفلات زفاف أبناء أقربائي ومعارفي في مطلع شبابي، أذكر منها جيداً آخر حفلة حضرتها برفقة قريبي القادم من “دارة عزة” خصيصاً لحضور الحفل المميز، الذي سيغني فيه المطرب الشعبي “أبو حسن الحريتاني” الشهير بعرس أحد الدراعزة من وادي العرايس، دعاني ضيفنا لحضور الحفل معه ثاني يوم، فلبيت دعوته بعد حصولي على إذن الوالدين.


حضر كلانا الحفل من أوله لنستمتع بصوت المطرب المحبوب، ونسمعه يغني ويجود على أنغام الطبل والزمر والعود، ومن كثرة حضور المعازيم، كنا نجلس على الكراسي عندما يقومون عنها لتأدية الرقصة العربية المشهورة فرادى وجماعات، وكلما هدأ القوم الراقص والنغم الصادح، يقاطع عريف الحفل غناء المطرب، يمسك بالميكروفون ويقول:


(أهلاً وسهلاً بالضيوف الكرام، أبو عمشة يتكلم بالأفراح، ألف تحية وسلام من تسجيلات صوت البلابل، والآن عربية على طلب الشباب).

فيدور الطبل حالاً بنغمة الرقصة العربية المطلوبة (رقصة السماح، والسيف والترس، والحكم..)، حينها يدبّ الحماس ثانيةً بجمهور الرقص على أنغام المواويل والعتابا والموسيقى الشرقية العربية، فينهضون ثانية عن الكراسي، ويقعد عليها الأولاد الواقفون مثلنا، ثم نعود لنقف خلف الكراسي خلال الاستراحة بين دورات الرقص.


لاحظتُ أن معظم هواة الرقص يتداولون أباريق فيها سائل بلون الحليب تقريباً، يشربون منها بإسراف، فتدب فيهم جرعة حماس زائد بتأثير الشرب الزائد، فجأة يسحبون مسدساتهم من قرابها وهم جلوس، يذخرونها ويطلقون النار منها باتجاه السماء، على قدر ما ترتفع أياديهم الممسكة بالسلاح المنهكة من تأثير الشرب!
قبل أن تنتهي الحفلة ذلك اليوم، يبدو أن الحماس الشديد أصاب المطرب نفسه، فبدأ يغني العتابا المشهورة التي تقول:
(فردك استندر.. فردك استندر..
يضرب ضرب رشاش يا عيني!
والضِهر ما أقدَرْ.. والضهر ما أقدر،
أجيك تالي الليل يا عيوني).


حينذاك، وقبل الوصول بالغناء لآخر بيت من العتابا، انطلق الرصاص من كل فَرد (مسدس) موجود مع الأفراد، فتحولت ساحة العرس بلمح البصر إلى ساحة قتال، معظم الأيادي تمسك بالأسلحة النارية الفردية، تلقّمها وتطلق نيرانها نحو السماء أو أدنى..

عندئذٍ وبلا تردد، جذبت قريبي من ياقة قميصه، سحبته من جمهور الحضور الخلفي بسرعة البرق، قلت له: هيا بنا نترك العرس قبل أن تصيبنا رصاصة طائشة من جمهور طائش مجنون!

تلك كانت آخر حفلة ذهبية، بل آخر حفلة “رصاصية” أحضرُها للمطرب المذكور، فالرصاص الذي أُطلق فيها سُمع صوته من حي السكري البعيد، لكن لم يصل لأسماع رجال شرطة مخفر الكلاسة القريب، لأن أهل العريس أغلقوا لهم آذانهم بمال الرشوة الكثير.


بعد عقود، وبعد رحلة لجوئي إلى النمسا، أرسل لي أخي مقطع فيديو على تطبيق “الواتس اب”، يغني فيه المطرب الشعبي الحلبي أبو حسن الحريتاني عتابا بعنوان: “يا تيل يابو عَمَد”.
سألني قبل أن أشاهد المقطع:

هل تتذكر الحفلة التي كان يغني فيها أبو حسن هذا المقطع؟ كانت الحفلة مسجلة على شريط كاسيت، جلبه أبي مع المسجلة التي اقتناها لأول مرة في بيتنا القديم بالسكري، هل تذكرتها يا جهاد؟
بدون شعور، سقطت دمعةُ شوق وحنين من عيني وأنا أكتب ردي، أجبته :
أجل يا أخي، أتذكرها بالتأكيد، كان ذلك في “بيت شجرة زهر العنقود” في السبعينيات، شكراً على تذكيري به.

بعد المحادثة مع أخي، وبالعودة إلى أرشيف موقع اليوتيوب على الإنترنت، وجدتُ معظم حفلات الأعراس الشعبية التي كنا نحتفظ بها في بيتنا المذكور، وجدت حفلات المطرب الشعبي المشهور “محمد أبو سلمو”، والمطرب “أحمد علي الحسن”، والمطرب “أبو عبدو القضيماتي”، والمطرب “مصطفى ماهر”، والمطرب “عقيل قدور أبو كنان”، وغيرهم كثر، ولربما كنتُ من جمهور الحضور في بعضها ذلك الزمان.

لاحظتُ أن أغلب الحفلات الشعبية القديمة، يتصدرها ويقاطعها صوت المدعو “أبو عمشة” الذي يتكلم بالأفراح باسم “تسجيلات صوت البلابل”، خطر في بالي على الفور “أبو عمشة” الرائج اسمه في ساحة الحرب السورية – السورية، أبو عمشة الجديد الذي يتكلم بالمجازر بصوت السلاح، وبذات الوقت، تذكرت حفلة العرس التي حضرتها مع قريبي في ساحة الكلاسة، تلك الحفلة المميزة التي تحولت إلى ساحة حرب من شدة الفرح والابتهاج!

الآن، وبعد كل تلك الأفراح الشعبية القديمة البسيطة، وما أعقبها من حرب قذرة، بالسلاح الثقيل والخفيف، وبالأسلحة الفردية والجماعية والبرية والجوية والبحرية، وبعد تصدر أمثال أبو عمشة “الآخر” من أصحاب البزات العسكرية للمشهد المأساوي في سوريا، وبعد كل هذا الخراب والتشرد والموت والضياع… لعلكم تتساءلون مثلي:

يا ترى أين اختفتْ أفراح وادي العرايس، وأفراح أيام زمان؟.. أما آن لها أن تعود ويعمّ الفرح والسلام، أم هو قَدَرُنا أن نبقى تحت حكم القهر والذل والسيف والطغيان؟


في فيينا ١٦ كانون الثاني/يناير ٢٠٢٣

جهاد الدين رمضان

جهاد الدين رمضان، محامٍ وكاتب مستقل من سوريا. مُقيم في النمسا حالياً بصفة لاجئ. أكتب القصة القصيرة والمقال ومُجمل فنون أدب المدونات والمذكرات والموروث الشعبي. نشرتُ بعض أعمالي في عدد من المواقع ومنصات النشر الإلكتروني والصحف والمجلات الثقافية العربية. لاقت معظمُها استحسانَ القراء و لفتت انتباه بعض النقاد لما تتسم به من بساطة في السرد الشيق الظريف و أسلوب ساخر لطيف؛ مع وضوح الفكرة وتماسك اللغة وسلامتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى