“الجن الأخيار” في أخبار شعراء الجاهلية .. من الميثولوجيا العربية
كثيرا ما نشهد في الأوساط المتحدثة باللغة العربية ذكرًا للجن والشياطين، سواء من الذين يؤمنون بهم أو لا يؤمنون. ومنهم من يهابهم ومنهم من يسعى للقضاء عليهم أو إبعادهم.
طبعا ذكرها في الإسلام والمسيحية واليهودية، لكننا اليوم قرّرنا أن نبحث في الزمن الأوّل من الحضارة العربية في فترة ما قبل ظهور الإسلام في الجزيرة وتحديدًا في “الجاهلية” كما يسميها مؤرخو تاريخ الأدب العربي. والمدهش أننا نجد أخبار إيجابية تصور الجن كمساعد كريم!
نحن نعرف أن في هذه الفترة كانت أساطير كثيرة، ولكننا لم نجر بحثًا مثيولوجيًا (علم الأساطير) كما فعل الأوروبيون في أساطير أجدادهم. لذلك نبحث اليوم عن مفهوم الجن في أخبار الشعراء المعلقات.
والمعلقات هي قصائد طويلة ألّفها شعراء الجاهلية (أي ما قبل الإسلام) وعلّقت على الكعبة. ونستعين برسالة ماجستير للباحث عبد اللطيف بن علي بن صديق العريشي في جامعة الملك سعود.
نجد ذكرًا كثيرًا للجن في أخبار هؤلاء الشعراء، حتى أن لكلّ شاعر جني خاص به! ولكلّ جني اسم يدعى به، وقد ذكرت هذه الأسماء في الشعر. وقد اخترع الرواة قصصًا عديدة أسطورية عن لقاء الشعراء بالشياطين، واقتران الإبداع الشعري بالشياطين المصاحبة.
مثلًا شـيطان الأعشى مسحل، وشيطان امرئ القيس لافظ بن لاحظ، وشيطان النابغة الذبياني هاذر، أما شيطان عبيد بن الأبرص وبشر بن أبي خازم فهو هبيد…
من الشعراء مَنْ ساعده الجن في تأليف شعره. فمثلاً عبيد بن الأبرص كان رجلا محتاجًا لا يقول شعرًا ولكن عمل الجن أعطاه قدرة على إلقاء أفضل المعلقات. وهذا يعتبر عملًا قريبًا من السحر.
وكذلك الأعشى الذي التقى شيطانه مسحلًا في طريقه إلى اليمن فأنشد له أشعاره هو ولفت نظره لأشياء في شعره لم يقدر على تفسيرها كذكر شخصيات يعرفها مسحل ولا يعرفها الأعشى.
وما تبين من هذه القصّة الأسطورية أن مسحل هو “هاجس” الأعشى يؤلف القصائد ويلقيها في أذن الأعشى.
ونجد أيضًا أن هؤلاء الجن يساعدون البشر ويحفظون الوعود غير إعطائهم الشعر. ومن المألوف في كتب السير والأخبار بين الإنس والجن أن يقدّم أحدهما معروفًا للآخر.
فمثلًا عبيد بن الأبرص أثناء سفره في الصحراء التقى بشيطانه الذي يدعى الشجاع، بعد ما كـاد يهلكه العطش، فسقاه الماء. والشجاع ردّ ذلك الإحسان وزاد، فرد إلى عبيد جمله وأهدى إليـه جمـلًاآخر.
الجدير بالذكر أن هذه الأخبار الأسطوريّة تصوّر لنا الجن كسكنة الصحراء بعيدًا عن الناس (ولكن في عالمنا نفسه وليس في عالم آخر) وصورت هيئتهم كالبشر ولكن أجمل حتّى وليسوا مشوهين كما هي الصورة المعهودة عنهم. طبعًا نجد أخبار أسطورية أخرى تصورهم مشوهين.
كما اعتادت الثقافة الدارجة اليوم، كخبر جرير بن عبد الله البجلي الذي التقى بقوم مشوهين عند الماء فقعد معهم. وظهر بينهم رجل أشد تشويها منهم اعتبروه شاعرهم الذي يلقي الأشعار في آذان الشعراء.
يكشف لنا التحليل العلمي الحديث لهذه الأحداث الأسطورية مكوناتها الأساسيّة ويعلل وجودها. ففي كلّ هذه الأخبار هناك عناصر ثابتة من الواقع المعهود: الصحراء، والليـل، والمـاء، والسـفر، والضياع، وفقدان الرواحل، وفعل المعروف، والشجاعة والمروءة.
ومثلما بدأت من الواقع، فالميثولوجيا عادة تحاول أخذ العناصر الواقعية المعهودة وخاصة تلك التي تتسم بالغموض كالليل والصحراء وتضيف إليها المكون الأسطوري لتفسير الظواهر غير المفسّرة كالشعر الحسن، وتحاول أن تعالج الهواجس الإنسانية كخوف الموت والعطش، وتدخل في المفاهيم والأخلاقيات المعهودة كالمروءة.
مثلما وجدنا ميثولوجيا فيها هذه العناصر الواقعية والغموض وتفسير الظواهر والهواجس الإنسانية والأخلاقيات عند الغرب، نجدها في ميثولوجيا العرب. ولايبقى سوى أن نكرس جهدًا لدراستها بشكل علمي.