شعر

الأندلس المسلمة في  مرحلتي الوحدة والتفكك في شعر ابن دراج القسطلي

  • تمهيد

كانت حسرة المسلمين في جميع بلاد الإسلام أشدَ وأقوى حينما سقطت غرناطة  ٱخر  جهة في الأندلس التي عاش فيها المسلمون قرونا عديدة  ، لقد خلف ضياعها  جروحا عميقة في نفوس  المسلمين جميعا ، فقد عمت الحسرة كل بلاد الإسلام ٱنذاك ، لم يمحها الزمن من ذاكرة المسلمين ، ولن يستطيع محوها لأنها كانت درَة في جبين العالم الإسلامي مثل بلدان المشرق : مكة المكرمة والمدينة المنورة وبغداد ودمشق ، وبلدان المغرب مثل فاس وسبتة ومراكش،


كل هذه العواصم كانت متألقة بشعرائها وأدبائها وعلمائها بجانب مدن الأندلس كقرطبة ومالقة   وبلنسية وغرناطة . عواصم كانت مفخرة العالم الإسلامي  في صنع مجد المسلمين  وحضارتهم التي أنارت الدنيا  ، وفي علو شأنهم  في الأدب والعلم والبناء والتعمير والاستقرار  . هذه الحسرة التي شعر بها المسلمون في تلك الفترة  لا تماثلها إلا حسرة ضياع فلسطين حينما احتلتها عصابة من شداد الآفاق في غفلة من حكام العالم الإسلامي ، وتهاونهم في مد يد العون لإخوانهم.

هذه العصابة ما زالت تمارس أشد أنواع التنكيل والعنصرية بالشعب الفلسطيني ، أصحاب الأرض الشرعيين، ولم تقف يوما  تلك العصابة عما تقوم  به من جرائم في حق هذا الشعب الذي أبتلي بهم في عصرنا الحديث لأنهم وجدوا الدعم والتأييد المطلق من دول كبرى .


والأندلس التي ستكون محور حديثا برغم أنها أصبحت أثرا بعد عين فإنها كانت في  تلك الأزمنة بلدا ولادة ، أنجبت الشعراء والمفكرين والفلاسفة والعلماء والفقهاء ما زال التاريخ يذكر دورهم في الحضارة والتنمية والتعمير ، وكيف كان لجهودهم  الأثر الكبير في عصر الأنوار عند مفكري الغرب في مرحلة بداية نهضتهم . وكان الشعر الذي هو متأصل في أمة العرب علامة مميزة  لحضارة الأندلسيين  بجانب إبداعاتهم  الأخرى  في المجالات الفكرية والعلمية .


  •  العرب أمة الشعر والبيان

  كان الشعر عند العرب منذ وعيهم بوجودهم في جزيرة العرب هو الوسيلة التي يعبرون بها عن همومهم وأفراحهم ، وآمالهم وتطلعاتهم ، ومسيرة حياتهم في السلم والحرب . لقد وجدوا  في بيئة حرمتهم من كل متع الحياة بل من ضروراتها التي تعين الكائن الحي على البقاء إلا بجهد ومشقة، لذلك لم يكن العربي يستغني عن سماع الشعر وإنشاده ونظمه  في إقامته ورحلته لأنه  الأداة الوحيدة التي يروَح بها عن نفسه، ويسجل بواسطتها مٱثره وتاريخه الحافل بالصراع ، ولولا الشعر لما عرفنا تاريخ الجاهليين جملة وتفصيلا .


وظلَت للشعر هذه المكانة بعد مجيء  الإسلام  في المشرق العربي والغرب الإسلامي حينما فتح المسلمون الأمصار واستقروا فيها  ، فمثَل الشعر  بذلك  في كل العصور صورة جليَة لثقافة المجتمعات الإسلامية أفرادا وجماعات ، حكاما وقادة ، لم يخل الشعر من بيت أو قصر  أو منتدى  ؛ وبهذه الخاصية كان الشعر  يحتل الصدارة  في الفكر  وفي   الأحاسيس  والمشاعر في كل ما دونوا من أحداث تاريخية، وحتى المجالس العلمية والفكرية ، كان الشعر حاضرا فيها بقوة ، يتمثَل به اللغوي والنحوي والفقيه والفيلسوف.


فكان كالنسيم والروح والريحان يسري سريان الدم  في الجسد  . ولم يستطع فن آخر أن يقوم بهذا الدور وحتى الخطبة  التي ظهرت في فترة مبكرة بجانب الشعر وكان لها جهابذتها لم تحجب الشعر عن دوره الريادي في المجتمع . ومن المظاهر    الاجتماعية التي عبَر بها الأعراب عن شغفهم بالشعر  وتقديمهم الشعراء على الخطباء إقامتهم الأفراح  والحفلات إذا نبغ فيهم  شاعر أو ظهر بينهم  فارس مغوار ، لأن كليهما يحميان القبيلة ويعليان  شأنها بين القبائل  الأخرى ، فالأول يمدح  سادتها وأشرافها ويخلَد أمجادها ومٱثرها ، ويهجو كل من يحاول النيل من عزتها وشرفها  ، والويل لكل من أصابته سهام الشعراء ؛ والثاني يحميها بشجاعته وإقدامه لتعيش عزيزة منيعة آمنة من كل خطر .


وظل للشعر هذه المكانة والهيبة في النفوس حتى عندما انتشر العرب خارج جزيرتهم  في البلاد التي لم تكن فيها لغة الضاد سائدة ، لكن هذه اللغة فرضت نفسها بقوة على كل من دخل الإسلام لما كان لها من خصائص متميزة عن اللغات    الأخرى ، فكان الفرد  من العرب  أو من تلك الأمم  التي دخلت الإسلام حينما يصبح لسانه عربيا فصيحا ، وينبغ في الشعر تفتح له أبواب قصور الخلفاء والأمراء والأعيان  والقادة  بكل ترحيب وإجلال ، وينال  من الجاه والحظوة ما لا يناله غيره وتحترم آراؤه  الاجتماعية والسياسية والفكرية مثل القادة ورجال الدولة في قصور الخلفاء والأمراء .


  • الشعر والأدب في الأندلس المسلمة

كانت الأندلس منذ فتحها على يد العرب وإخوانهم البربر الذين أحبوا العرب والدين الذي حملوه إليهم تعدَ درَة ثمينة في بلاد الإسلام ؛ لقد عاشت قرونا عديدة في ظل حكم عربي إسلامي ، فأصبح المجتمع الأندلسي بكل أفراده عربا وبربرا عربيا صميما في لغته وفكره ووجدانه وأدبه ؛ وقد كانوا يدركون ما للشعر من أثر ومكانة في نفوس الخاصة والعامة ، والبربر الذين اعتنقوا الإسلام طواعية واختيارا أحبوا اللغة العربية وآدابها لأن كتاب الله عز وجل الذي قَدسوه  كان بهذه اللغة ،


فسكنت وجدانهم  وقلوبهم ، وأقبلوا على تعلمها ودراسة قواعدها  بلهفة وشغف لمعرفة معاني كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام ، وأشعار العرب ولغاتها  وأخبارها  حتى إن الكثير منهم  أصبحوا في زمن قصير من كبار شعراء العربية وأدبائها ولا أدل على ذلك من شاعرنا ابن دراج الذي ينتمي إلى أصول بربرية  صميمة من قبيلة  صنهاجة ، فقد أصبح أكبر شاعر في عصره ، يملك أدوات الشعر مثل الأعراب أهل الوبر ، ولذلك لقَبوه ب متنبي الأندلس  لما  احتوى شعره من معان رصينة ،  ولغة جزلة ، وحكم دالَة ، وأمثال سائرة مثل شعر المتنبي شاعر العربية الأكبر .


هكذا كان العرب والمجتمعات التي اختلطت بهم تعتبر الشعر هواء ينعش رئتيها ،   ونورا   يضيء  طريقها ، وسجلا يوثق أخبارها ، وسفرا يخلد أمجاد حضارتها، ومنارة تعلي شأنها بين الأمم ؛ كل فرد كان يحلم بأن يسبح في عالم الشعر وسحر الكلمة  ونبل العواطف ، وحتى الذين غلبت عليهم  ثقافة العلم المحض كالفقه والتفسير ودراسة السنة الشريفة والتاريخ والنحو والطب والرياضيات والفلسفة    والكيمياء كانوا يجدون متنفسا ومتعة إذا نظموا الشعر ، فهو روح النفس وريحانها  به يستريحون من عناء الدرس والبحث المضني.


  • الحالة الفكرية والاجتماعية في الأندلس في عصر ابن دراج القسطلي

عاش ابن دراج في القرن الرابع الهجري وبداية القرن الخامس –   347 هج – 421 هج – وكانت الأندلس في هذه المرحلة قد بلغت نضجا  فكريا وعلميا واستقرارا    اجتماعيا فضلا عن القوة العسكرية التي كانت ترهب الأعداء وبخاصة في عهد عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم حيث كانت ممالك النصارى في الشمال يملأها الرعب من قوة المسلمين .


وتشاء الأقدار أن يشهد ابن دراج مرحلتين في تاريخ الأندلس المسلمة ، المرحلة     الأولى كانت متمثلة في الوحدة والقوة والمنعة واطمئنان السكان على يدي القائدين العربيين الحاجب المنصور بن أبي عامر ، وابنه عبد الملك المظفر ؛ والمرحلة الثانية  تميزت بالتفكك والانقسام وبداية الضعف في عهد ملوك الطوائف الذين أسهموا بقوة في إضعاف الأندلس بعد تمزيق أوصالها إلى ولايات ، وإفساح المجال للأعداء كي يستجمعوا قوتهم . وبرغم هذا الضعف السياسي فإن شعر ابن دراج  ظل يحمل سمات الأمل لعودة قوة المسلمين وعزهم كما كان عليه الحال من قبل .


  • مرحلة مدح ابن دراج للحاجب المنصور بن أبي عامر وابنه عبد الملك

كانت هذه المرحلة من أهم مراحل حياة ابن دراج  لكونه وجد في هذين القائدين صورة البطولة العربية مجسَدة في كل غزواتهما لحماية أرض الإسلام ونشر الأمن  والاستقرار ، فكل حروبهما مع ممالك النصارى كانت انتصارات  عظيمة أعلت هامة المسلمين في بلاد الأندلس ، وأذلَت الأعداء في عقر دارهم  ، وهي تشبه إلى حد كبير بطولات سيف الدولة الحمداني في المشرق التي جسَدها  بالكلمة الشاعر المتنبي ، فعدت قصائده في هذا البطل من أبدع ما نظم المتنبي من معاني البطولة العربية  ” وشعر القسطلي في الدولة العامرية يعتبر من أروع ما نظم وأحقه بالتقدير ولاسيما ما توجه به من مديح إلى المنصور . والذي يقرأ شعر ابن دراج  في القائد العامري لا يملك تفكيره من أن يثب إلى مدائح المتنبي لسيف الدولة الحمداني ، فهو مدح لا يقوم فقط على الطمع – وأي امرئ  شاعر أو غير شاعر تجرَد منهما ؟- وإنما المصدر الأول فيه هو شعور قوي من الإعجاب بشخصية الممدوح ” [1]


لقد جسَد ابن دراج في مدح هذين البطلين صورة البطولة العربية في الأندلس       لحماية الدين والبلاد والعباد ، كانت أعين المنصور العامري وابنه من بعده لا تغفل لحظة واحدة عما يهدد البلاد من أخطار وفتن سواء كانت داخلية من المتمردين الذين كانوا يريدون إحداث الفتن أو من ممالك النصارى الذين كانوا يتحينون الفرص للانقضاض على المسلمين .


ومما نظمه ابن دراج  في بيان يقظة المنصور العامري وحزمه في القضاء على الفتن الداخلية  قصيدته التي أعدَ فيها هذا البطل العدة  الكاملة لمواجهة  زيري بن عطية الذي خرج عن الطاعة وأراد إحداث الفتنة في البلاد ، فقال :

             ألا في سبيل الله غزوك من غوى                

                          وضلَ به  في    الناكثين    سبيل

            لئن صدئت ألباب قوم بمكرهم                  

                            فسيف الهدى في راحتيك صقيل

ثم وصف جيشه المستعد للمعركة ، وعتاده  الجاهز  لتحقيق النصر ، وهذه            الأوصاف ليست من خياله واختراعه ، وإنما هي حقائق شاهدها وعاينها ، ثم وصفها كما هي ،  فقال :

 

     كتائب تعتام   النفاق كأنها                     

                    شآبيب   في  أوطانه    وسيول    

     بكل فتى عاري الأشاجع ما له        

                   سوى الموت في حمي الوطيس مثيل

    خفيف على ظهر الجواد إذا عدا     

                      ولكن على   صدر الكمي    ثقيل [2]

هذا القائد العربي الذي اكتسب مجدا  في الأندلس بشهادة المؤرخين ، ولم يكن الشاعر مبالغا في هذه الأوصاف ، فإقدامه وشجاعته وعدم هيبته من قوة الأعداء مهما بلغت ، جعلت ملوك الممالك الإسبانية يأتون إليه متوددين القرب منه ،          وطالبين مهادنته ووده  ، فهذا شانجة بن غرسية يأتي خاضعا ذليلا إلى قرطبة حاضرة الخلافة الإسلامية ليعلن طاعته وخضوعه لأوامر القائد العربي  ، فيقول ابن دراج قصيدة واصفا مجيء هذا الطاغية ذليلا صاغرا أمام المنصور ، راجيا المودة والصفح عما صدر منه  :

       وهذا عظيم الشرك قد جاءك خاضعا         

                       وألقى  بكفيه    إليك  محكما

       سليل ملوك الكفر في ذروة السَنا            

                       ووارث ملك الروم أقدم   أقدما       

       توسَط  أسباب  القياصر  فانتمى            

                       من الصيد والأملاك أقرب منتمى

       ولما تقاضى غرب سيفك نفسه             

                      وحاطت له الأقدار محتقن الدَما

      ولم يستطع نحو الحياة تأخرا              

                      بفوت ، ولا نحو النجاة    تقدَما

      تداركه المقدار في قبضة الردى            

                       وخاطبه   حنَا    عليه  فأفهما

         وبشَره  التَأميل منك   بعطفة                  

                          تلقَى بها روح  الحياة   تنسَما [3]

وانتصارات هذا القائد العربي لم تقتصر على مجيء ملوك العجم خاضعين له بل كان منهم من يقع أسيرا بين يديه ينتظر من يفك أسره ، فقد وصف ابن دراج في قصيدة أسر هذا القائد العربي قومس ” قشتالةغرسية بن فردلند ، وكان من أشد الأعداء ، وأكثرهم قوة  . قال ابن دراج:

    فيهن الدين والدنيا بشير           ” بغرسية ” الأعادي والعداء
    بصنع أعجز الآمال قدما              وقصَر دونه     أمد الرَجاء
    ألذ على السامع من حياة             وأنجع في النفوس من الشَفاء
     فيا فتحا لمفتتح وبشرى              لمنتظر ،  ويا  مرأى   لراء
     أسير ما يعادل في فكاك               وعان ما يساوى  في  فداء
    هو الدَاء العياء شفيت منه           فما  للدين  من  داء    عياء [4]

هكذا كانت البطولة العربية مجسَدة في هذا القائد الذي نعمت الأندلس في عهده   بالاستقرار والأمن والرخاء  والوحدة .

وتستمر هذه المواقف البطولية المعزة للإسلام والمذلة للكفر في الأندلس المسلمة في عهد ابن هذا القائد عبد الملك المظفر الذي كان نموذجا للإقدام وتحقيق          الانتصارات بعد أبيه المنصور ، وقد صوَر ابن دراج  فتوحات هذا القائد في شعره أبدع تصوير ، ومنها القصيدة التي نظمها بمناسبة إحراز هذا البطل النصر العظيم على قومس برشلونة ، قال فيها :

      عزَت بذكرك في البلاد  صوارم                تركت رجاء عداتها مصروما
       وأسنَة الخط  التي خطت على               شيع الضلال حينها المحتوما
 
       طلعت على دين الهدى بك أسعدا              وعلى ديار المشركين رجوما
      فاطلب به – والله مسعد حظها –              حظا من الفتح المبين جسيما [5]

لكن هذا العز والشموخ الذي عرفته الأندلس المسلمة في هذه المرحلة سيصبح سرابا بعدما عرفت قرطبة فتنا واضطرابات حينما تولى الحجابة عبد الرحمن بعد موت أخيه ، لقد ظهرت بوادر الضعف والانقسام  والشؤم في عهد هذا الحاجب حتى اعتبره المؤرخون بداية شؤم على الأندلس ، فأصبح كل طامع في الحكم يحاول اقتطاع جزء من البلاد بعدما كانت عصية على كل متمرد ، وبرغم ما بذلته دولة المرابطين العتيدة من جهود ، وكذلك دولة الموحدين لعودة القوة والمنعة     والوحدة للأندلس  لكنها لم تفد في عودتها لعزها القديم  لأن ملوك الطوائف مزَقوا البلاد شر تمزيق ، ومدَوا أياديهم للأعداء من أجل حماية إماراتهم وبقائها بأيديهم .


  • شعر ابن دراج في مرحلة الفتنة والتفكك

لم يصمت الشاعر عن المدح  في هذه المرحلة ، فقد مدح ملوك الطوائف الذين أسهموا في تمزيق أوصال البلاد وإضعافها ، وربما كانت غايته من هذا المدح  البحث عن ملاذ آمن يحميه من غوائل الدهر بعدما ذهب عز الدولة العامرية التي وجد في ظلها الأمن والاستقرار والحياة الرغيدة ، فقصد ” ألمرية ” عند حاكمها خيران العامري الذي استقل بها  سنة 405هج ، وبقي عليها حتى توفي سنة 419هج  ، فمدحه بقصيدة مطلعها

        لك الخير ، قد أوفى بعهدك خيران            وبشراك ، قد آواك عزَ وسلطان

 يقول فيها :

      متى تلحظوا قصر ” ألمرية “تظفروا           ببحر حصى يمناه درَ ومرجان
      وتستبدلوا من موج بحر شجاكم                  ببحر  لكم منه  لجين   وعقيان
     فتى  سيفه  للدين  أمن   وإيمان                  ويمناه  للآمال  روح  وريحان
     تقلَد  سيف   الله   فينا     بحقه                    فبرَت  عهود  بالوفاء  وإيمان  [6]

فالأمل ما زال يراوده في وجود قائد عربي يحمي البلاد ، ويعيد للمسلمين هناك عزهم القديم .

ثم اتجه إلى  ” بلنسية ” وكان يحكمها ” مبارك ” و ” مظفر ” ، وكانا  من موالي المنصور العامري ، فمدحهما بمعان تدلَ على العز والسلطان وحماية بلاد الإسلام مثل مدحه للمنصور العامري ، وربما كان يعتقد بأنهما سيسيران على خطى ذاك القائد المظفر ، فقال :

     شريكان في صدق المنى ، وكلاهما             إذا بارز  الأقران  غير مشارك
     هما سمعا دعواك  يا  دعوة  الهدى             وقد أوثق الدهر الخؤون إسارك
     وسلاَ سيوفا لم تزل تلتظي  أسى          بثأرك حتى  أدركا   لك   نارك
     ويهنيك  يا دار  الخلافة  منهما                   هلالان لاحا   يرفعان   منارك
     كلا القمرين  بين   عينيه غرَة                     أنارت كسوفيك وجلَت سرارك
       فقادا إليك الخيل شعثا شوازبا                 يلبَين بالنصر العزيز اتنصارك [7]

إن هذا التنقل الذي فرضته الفتنة على ابن دراج سيجعل نفسه  تشعر ببعض الارتياح في ” سرقسطة ” في بلاط التجيبيين عند منذر بن يحيا التجيبي وابنه يحيا ، فقد كان هذان القائدان يمثلان صورة البطولة التي عرفها الشاعر في دولة العامريين ، شاهدها مجسدة في الانتصارات المتتالية . فمنذر وابنه كانا يدافعان عن الثغور الإسلامية بكل شجاعة وإقدام ،   وقد حققا انتصارات كثيرة على العدو مثل المنصور العامري ، ومن هنا وجدنا الشاعر قد أحسَ بأن هذه البطولات ينبغي أن يخلدها في شعره لأنها تستحق ذلك ، وربما كان يأمل أن تعود وحدة   الأندلس على يد هذين القائدين ، فمدحهما  بقصائد نجد فيها الصدق والتعلق بهما ، والرغبة في الاستقرار بجوارهما ، من ذلك قوله في قصيدة مدح بها منذر بن يحيا ،  يبين  فيها  قوة جيشه وكمال عدته التي أرهب بها العدو :

      جيش يجيش برعد الموت يقدمه             إلى عداك قضاء جمَ واقعه
      صباح  بارقة  لولا    عجاجته                  وليل  هابية  لولا   لوامعه
      دلائل اليمن في   الهيجا  أدلَته              وأنجم السعد بالبشرى طلائعه [8]

لكن غربة الشاعر لم تنته في ” سرقسطة  ” برغم الارتياح الذي شعر به هناك ، والأمل في الاستقرار ، فقد انتقل إلى ” دانية ” عند الأمير مجاهد العامري لعله يجد عنده مبتغاه ونهاية لطوافه وغربته التي أضنته وقد بدأت الشيخوخة تدب إلى جسمه ، وتضعف قواه الجسدية والذهنية .  وفي الأبيات التي مدحه بها  تظهر أنه كان يبحث بلهفة عن ملاذ أخير يكون آمنا ، يستريح فيه من هذا الطواف الذي أتعبه ، فمن ذلك قوله فيه :

       إلى أيَ ذكر غير ذكرك أرتاح         

                     ومن أيَ بحر بعد بحرك أمتاح

       إليك انتهى الرَيَ الذي بك ينتهي  

                    ولاح لي الرأي الذي بك يلتاح

      وفي مائك الإغداق والصفو والرَوي

                    وفي ظلك الريحان والروح والراح

       وكلَ  بأثمار  الحياة    مهدَل           

                     وبالعطف ميَاس وبالعرف ميَاح  [9]      

وقد صدقت تنبؤات الشاعر إذ كانت ” دانية ” آخر طوافه في المحنة التي عرفتها الأندلس ، ويذكر المؤرخون أنه توفي هناك بعدما أعياه التعب والتنقل وقد جاوز السبعين عاما من عمره .

إن الباحث في شعر ابن دراج في المرحلتين اللتين عرفتهما الأندلس المسلمة : مرحلة العز والقوة والمنعة ، ومرحلة الضعف والتفرق والانقسام ، يلاحظ أن ابن دراج لم يفقد الأمل في المرحلة الثانية لعودة الأندلس إلى مجدها كما عرفه في عهد الدولة العامرية ، فالأشعار التي مدح بها ملوك الطوائف نجد فيها معاني القوة العسكرية ، وعظمة الملك ،


وحمية هؤلاء الملوك للدفاع عن الثغور وإلحاق الهزيمة بالأعداء ؛ لكنها كانت مجرد أمان وأحلام لأن الأندلس في هذه المرحلة بدأت في التراجع والانهيار برغم المحاولات التي قام بها ملوك المغرب في عهد المرابطين والموحدين وحتى في عصر بني مرين، فالصراع بين ملوك الطوائف لم يتوقف ، والتحالفات مع الأعداء كانت سمة مميزة لكثير من هؤلاء الملوك الذين مزَقوا الأندلس شرَ تمزيق ، فسهَلت على العدو احتلالها وإخراج المسلمين من آخر معقل لهم في ” غرناطة ” .  


إن شاعرية ابن دراج وبلاغته كانت ثمرة ما بلغت إليه الأندلس في تلك المرحلة من نضج واكتمال في البيان والفصاحة والبلاغة حتى أصبحت تضاهي بلاد المشرق ولاسيما بغداد عاصمة العلم والأنوار ، وكل النقاد ومؤرخي الأدب الذين تحدثوا عن هذا الشاعر أشادوا بقوة بيانه وسحر كلماته وعمق معانيه وجمال صوره الفنية ، فهذا الشريف السبتي الشهير بالغرناطي ، وهو من أشهر أعلام ونقاد الغرب الإسلامي ،  يورد له أبياتا بديعة في وصف حاله بعدما ودَع أولاده الصغار ، وهي قوله :

         ولما تدانت للوداع وقد هفا           بصبري   منها أنَة   وزفير
       تناشدني عهد المودة والهوى           وفي المهد مبغوم النداء صغير
       عييَ بمرجوع الجواب ، ولفظه        بموقع أهواء   النفوس خبير
        تبوَأ ممنوع القلوب ، ومهَدت           له أذرع   محفوفة   ونحور

فذكر قبل هذه الأبيات مكانة  الشاعر في البيان والبلاغة واعتبره مقدَما على شعراء الأندلس ، فقال : ” وممن سبق إلى الإحسان في ذكر الأصاغر ووصف  حاله وحالهم عند الوداع بكل ما يصدَع الأكباد ويطرب الجماد أبو عمر أحمد بن دراج القسطلي من بلغاء الأندلس المقدمين على شعرائها

[10]

هذه هي الأندلس المسلمة ، كانت ولادة للشعراء والأدباء والفلاسفة ، أعطت      للإنسانية ثمارا ناضجة ، وغصونا خضراء ، وظلالا وغرفة ، لم يصب عطاؤها   بالذبول ، فكل ما أبدعوا يغذي الفكر ، ويهذب المشاعر ، ويصقل المواهب ، يلجأ إليه كل من أراد أدبا رفيع المستوى ، وفلسفة غزيرة بالرؤى  والتحليلات العميقة ، ونقدا يعين على فهم أصول الأدب والبلاغة والفصاحة  .

[1]     – انظر مقدمة الديوان : 48 . ديوان ابن دراج القسطلي . ضبط وتحقيق الدكتور محمود علي مكي . الطبعة الثانية .

[2]  – انظر القصيدة في ديوانه ص 3 – 7

[3]  – ديوانه : 336

[4]  – ديوانه : 369

[5]  – ديوانه : 378

[6]  –  القصيدة في ديوانه 73 – 79 .  

[7]  – ديوانه : 87

[8]  – ديوانه : 116

[9]  – ديوانه : 405

[10]  – رفع الحجب 1– 304 . وانظر الأبيات في ديوانه : 250 . رفع الحجب المستورة عن محاسن المقصورة . لأبي القاسم الشريف السبتي ، الشهير بالغرناطي . تحقيق وشرح صاحب الدراسة . ط 1 . 1997م,

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى