شعر

إعادة كتابة القصيدة العربية

ظلت القصيدة العربية في المرحلة الشفاهية، وحتى بعد هيمنة الكتابة، في العصر العباسي، بصورة خاصة تعتمد أساسا على الإنشاد. فنقول أنشد الشاعر، وقال وفي ذلك دلالة قوية على استمرار فعل «الأداء» الصوتي للشاعر، أو للراوي الذي ينقل أشعاره.


وحتى مع الكتابة التي كان يمارسها الشاعر نفسه، وهو يضطلع بكتابة قصيدته، ظلت تقاليد الأداء الشعري الشفاهي مهيمنة، وكأن قدر القصيدة العربية القديمة يكمن في بعدها الذي يقوم على الإلقاء المباشر على المستمعين. لهذا السبب لم تراع في الكتابة الشعرية العربية، سواء في مرحلة التدوين، أو الكتابة، وحتى مع ظهور الطباعة قواعد جديدة ترتهن إلى التلاؤم مع الفضاء النصي، الذي تفرضه الكتابة على الورق.

لم يبرز هذا التلاؤم الفضائي إلا مع قصيدة التفعيلة التي استفادت من طريقة التوزيع الفضائي للنص، والتي كانت سائدة في كتابة القصيدة الغربية، فشكل ذلك بداية جديدة لكتابة القصيدة العربية، تختلف عن التقليد الذي تكرس خلال عدة قرون. وقد استمر الوضعان التقليدي والحديث متجاورين إلى الآن. فالقصيدة الجديدة، من التفعيلة إلى الحرة، فقصيدة النثر، تراعي توزيعا فضائيا مختلفا عن الوضع الذي تعرفه كتابة القصيدة العربية العمودية.


إن فعل الإنشاد، أي الإلقاء الشعري الذي يقوم به الشاعر، أو حتى في حالة الغناء، الذي تصاحب فيه أداءَ القصيدة المغناة أدواتُ العزف، لا نعرف الآن كيف كانت تؤدى في العصور التي لم نتمكن من سماع تسجيلات لها.

لذلك نجد الأداء الصوتي للقصيدة ظل اعتباطيا، ولم توضع له قواعد محددة. إنه يخضع لمزاج الشاعر، أو إمكانيات الملحن. ويبدو لنا هذا بجلاء عند رغبتنا في تجريب الأداء الشعري، من لدن عدة شعراء لقصيدة قديمة، أو حتى لقصائدهم.

قد نجد بعض الشعراء المحدثين والمعاصرين مبدعين في قصائدهم إبداعهم في أدائها. وقد نجد العكس، حيث تكون القصيدة جيدة، لكن طريقة أدائها من قبل الشاعر رديئة، ولنا في التسجيلات المتداولة لشعراء عرب ما يؤكد لنا ذلك بجلاء.


لكننا حين نقارن وضع الشعر بالقرآن الكريم، نجد البون شاسعا جدا. إننا الآن، سواء في قراءة القرآن الكريم، أو تلاوته، أو ترتيله، نمارس ذلك وفق قواعد مضبوطة ظلت مستمرة منذ اللحظات الأولى لنزول القرآن. كما أن كتابة النص القرآني، وقد تفنن النساخ، في كتابته راعوا كل القواعد التي واكبت نزوله، صوتيا، وإملائيا.

فكان التمييز بين الآيات، والسور، وعلامات الابتداء والوقف. كما أن الخطوط، والألوان، والتمييز بين مضامين الآيات، وإضفاء البعد الجمالي على الكتابة القرآنية ظل من التقاليد التي تتطور مع الزمن، ويتنافس الخطاطون والمصممون في إضفاء صفات خاصة على الفضاء النصي القرآني.

إن إعادة النظر في الفضاء النصي للقصيدة القديمة ضرورة لقراءة الشعر العربي قراءة جديدة لا تتقيد بضرورة الإكراهات العتيقة. إنها تحرير للقصيدة من القيود التي تحول دون فهمها فهما جديدا وجيدا. إن إدراج علامات الوقف الجديدة، وتوزيع النص بكيفية تراعي النص في ذاته، وليس تقسيمه إلى صدر وعجز يتيح لنا فرصا جديدة للتفاعل معه بكيفية مختلفة عما ظل سائدا.

ومع الطباعة والرقامة تطورت الإمكانيات أكثر، فصارت أحجام الكتاب متعددة، وتوظيف الألوان المختلفة للتمييز بين الموضوعات داخل السور. كل الاشتغال الذي مورس في تقديم الفضاء النصي القرآني، لا نجد أيا منه مورس مع الشعر العربي القديم.

وتشهد بذلك كثرة العلوم الذي اختصت بالقرآن الكريم، بالقياس إلى القصيدة العربية، وفي ذلك تأكيد على قداسة النص القرآني عند المسلمين، رغم الاحتفاء الكبير بالشعر.

لقد ساهمت في الوضعية التي واكبت عملية كتابة القصيدة العربية القديمة إكراهات متعددة جعلت اعتماد أبعاد الفضاء النصي شبه مستحيلة. فهناك من جهة الانطلاق من التمييز بين الصدر والعجز. هذا التمييز فرضه، من جهة، في الأصل التصريع، فكان الأساس الذي تم التفريق فيه بين شطري البيت إلى كتلتين نصيتين، يُفصَل بينهما ببياض، أو علامة دالة عليه.


ومن جهة ثانية كان التصور السائد يرى أن القصيدة تبنى على ركيزة البيت بكتلتيه، فكان بذلك الحفاظ على استقلاليته، ورغم وجود التضمين الذي يقضي بامتداد عجز بيت في صدر البيت الموالي، ظل التمييز بينهما على أساس استقلالية البيت، واكتماله بالرويّ الذي ينتهي به، ولا يمكن للكلام الشعري أن يتواصل إلى وقف محدد، بالإضافة إلى هذه الإكراهات نجد مشكلة الوسيط الذي كانت تكتب فيه القصيدة قديما.

وحتى مع استعمال الورق حيث كان الخروج على ما تم التعارف والتواطؤ عليه، شبه مستحيل لندرة الورق، لأن توزيع القصيدة وفق ما صار سائدا مع القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة يتطلب لكتابة معلقة واحدة عدة صفحات يمكن أن تشكل لوحدها «ديوانا»، من حجم بعض الدواوين التي نصادفها اليوم.


إن إعادة النظر في الفضاء النصي للقصيدة القديمة ضرورة لقراءة الشعر العربي قراءة جديدة لا تتقيد بضرورة الإكراهات العتيقة. إنها تحرير للقصيدة من القيود التي تحول دون فهمها فهما جديدا وجيدا. إن إدراج علامات الوقف الجديدة، وتوزيع النص بكيفية تراعي النص في ذاته، وليس تقسيمه إلى صدر وعجز يتيح لنا فرصا جديدة للتفاعل معه بكيفية مختلفة عما ظل سائدا.

وبذلك نعطي للقصيدة العربية حياة جديدة، وأبعادا مختلفة في قراءتها، أو أدائها وإنشادها. كما أن إعادة طباعتها وترقيمها بدون وضع القيود القديمة في الاعتبار، يسمح لها بأن تصبح أكثر قابلية للتداول والبحث.

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى