الجواهري.. شاعر العرب الأكبر
الشاعر محمد مهدي الجوهري المعروف بـ”شاعر العرب” الأكبر أحد أعمدة الشعر العربي في القرن العشرين، وآخر شعراء الكلاسيكية السحرية في الشعر العربي.. أسطورة تشكلت عبر قرن من الزمن، وطالما اختلف مع رؤساء دول وملوك وأمراء.
ولد الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري في 26 يوليو 1899 وتوفي في دمشق في 27 يوليو 1997 ودفن فيها، وتعود قصة التسمية والنسب بالجواهري إلى عائلة نجفية عريقة، نزلت في النجف منذ القرن الحادي عشر الهجري، وكان أفرادها يلقبون بـ”النجفي”، واكتسبت لقبها الحالي “الجواهري” نسبة إلى كتاب ألفه أحد أجداد الأسرة وأسماه “جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام” ويضم 44 مجلدًا، لقب بعدها بـ”صاحب الجواهر”، ولقبت أسرته بـ”آل الجواهري” ومنه جاء لقب الجواهري.
- البدايات مع الشعر والصحافة:
كتب الجواهري أول قصيدة متكاملة في عام 1920 ضد الاحتلال الإنكليزي، بعنوان “ثورة العشرين” نُشِرَت في جريدة العراق آنذاك. ثم راح ينشر قصائده في مجلة “العرفان” الصيداوية، وفي مجلة “الهلال” المصرية، و”لسان العرب” البغدادية.
يقول الجواهري: عن البدايات، حيث نظم الشعر في سن مبكرة وأظهر ميلاً منذ الطفولة إلى الأدب فأخذ يقرأ في كتاب البيان والتبيين ومقدمة ابن خلدون ودواوين الشعر، واشترك في ثورة العشرين عام 1920 ضد السلطات البريطانية، وصدر له ديوان “بين الشعور والعاطفة” عام 1928م. وكانت مجموعته الشعرية الأولى قد أعدت منذ عام 1924م لتُنشر تحت عنوان “خواطر الشعر في الحب والوطن والمديح”. ثم اشتغل مدة قصيرة في بلاط الملك فيصل الأول عندما تُوج ملكًا على العراق بعد ذلك ترك الاشتغال في البلاط الملكي وراح يعمل في الصحافة بعد أن غادر النجف إلى بغداد، فأصدر مجموعة من الصحف منها جريدة (الفرات) وجريدة (الانقلاب) ثم جريدة (الرأي العام) وانتخب عدة مرات رئيسًا لاتحاد الأدباء العراقيين.
وأصدر الجواهري جريدته (الفرات) ثم ألغت الحكومة امتيازها وحاول أن يعيد إصدارها ولكن بدون جدوى، فبقي بدون عمل إلى أن عُيِّنَ معلمًا في أواخر سنة 1931 في مدرسة المأمونية، ثم نقل إلى ديوان الوزارة رئيسًا لديوان التحرير، ومن ثم نقل إلى ثانوية البصرة، لينقل بعدها لإحدى مدارس الحلة.
في أواخر عام 1936 أصدر جريدة (الانقلاب) إثر الانقلاب العسكري الذي قاده بكر صدقي لكنه سرعان ما بدأ برفض التوجهات السياسية للانقلاب، فحكم عليه بالسجن ثلاثة أشهر وبإيقاف الجريدة عن الصدور شهرًا بعد سقوط حكومة الانقلاب غير اسم الجريدة إلى (الرأي العام)، ولم يتح لها مواصلة الصدور.
ولأنه كان من المؤيدين المتحمسين لثورة 14 تموز 1958 وقيام الجمهورية العراقية لقب بـ”شاعر الجمهورية” وكان في السنتين الأوليين من عمر الجمهورية من المقربين لرئيس الوزراء عبد الكريم قاسم، ولكن انقلبت هذه العلاقة فيما بعد إلى تصادم وقطيعة، واجه الجواهري خلالها مضايقات مختلفة، فغادر العراق عام 1961 إلى لبنان، ومن هناك استقر في براغ.
وأقام في براغ بتشيكوسلوفاكيا سبع سنوات من عام 1961 الى أواخر العام 1968، ثم عاد إلى منفاه في أواخر السبعينيات واستقر في أوائل الثمانينيات في دمشق.
- شاعر العرب الأكبر:
خلع عليه النقاد والأدباء العديد من الألقاب منها: “ديوان العرب الكبير” و “متنبي القرن العشرين” و”شيخ المنفيين” و” شاعر الشعراء (وغيرها من النعوت والألقاب).
لقب “شاعر العرب الأكبر” استحقه بجدارة في وقت مبكر في حياته الشعرية، وارتضاه له العرب أينما كان وأينما كان شعره، رغم أن الساحة العربية كانت مليئة بالشعراء الكبار في عصره. فقد حصل على هذا اللقب عن جدارة تامة وإجماع مطلق ويؤكد السيد فالح الحجية الكيلاني الشاعر العراقي في كتابه الموجز في الشعر العربي – شعراء معاصرون «إن الجواهري لهو متنبي العصر الحديث لتشابه أسلوبه بأسلوبه وقو ة قصيده ومتانة شعره» وقيل «لم يأتِ بعد المتنبي شاعر كالجواهري» لهذا طبع شعر الجواهري في ذهن الناشئة من كل جيل مفاهيم وقيمًا شعرية إنسانية لا تزول. أما التجديد في شعره فجاء مكللاً بكل قيود الفن الرفيع من وزن وقافية ولغة وأسلوب وموسيقى وجمال وأداء.
وقد امتاز الجواهري بأنه كان من فرسان اللغة العربية لسانًا وفصاحةً، وفي مقدمة المناضلين في الأمة العربية، والمعبّرين عن آمالها وآلامها حيث عايش الغربة والمنفى إجبارًا واختياريًّا لا يكل ولا يلين في التحدي وممارسة عقائده الوطنية والقومية والإنسانية على مدار عمره المديد، فلم يتخلَّ عن عراقته الأصيلة ومحبته العميقة لوطنه العراق ولأمته العربية التي وصفه الكثيرون “بهرم” العروبة تيمُّنًا بأهرام مصر، فاستحق هذا التوصيف لما له من قامة شامخة راسخة في الشعر العربي وأدبياتهِ الرفيعة.
- شعره:
تأثر الجواهري في مطلع حياتهِ ومسيرته الطويلة بأحداثٍ ومواقف وطنية بارزة في بلدهِ وشعبهِ، فقد كان لمقتل أخيهِ جعفر في معركة الجسر برصاص الشرطة، تأثير كبير في نفسه وشعره ومقالاته، فكان في مقدمة صفوف الثائرين، ومن قصائده التي يخاطب فيها الاستعمار والُحّكام المستبدين ومشيدًا بالشهداء ما جاء في إحداها قائلًا:
يـــوم الـشـهــيد تـحـيـة وســــلامُ
بكَ والنضال تؤرّخ ُ الأعوام ُ
بكَ والضحايا الغرّ يزهو شامخًا
علم الحـسـاب وتـفـخُـر الأرقــام ُ
بكَ والذي ضمّ الثرى من طيبهم
تتـعــطّــرُ الأرضــون والأيــامُ
بكَ يبعث “الجيل” المحتّم بعثه
وبكَ الـقـيامـــة للطـغــاة ِ تُقامُ
ونلمح في قصائد الجواهري في أغلب الأحيان روائع وطنية وقومية واجتماعية وإنسانية حيث إنه يصعب التحدث عن الجواهري الشاعر بمعزل عن الجواهري السياسي والجواهري التراثي. فهو شاعر المعركة المزدوجة ضد الاستعمار وضد الاستبداد والاستغلال الطبقي والإقطاعي والرأسمالي وذلك بفعل تماهيه مع آلام شعبه وآمال الكادحين وطنيًّا وإنسانيًّا. فانطلاقًا من مواقفهِ ومبادئهِ هذه، فقد دعا الجواهري الأدباء والشعراء إلى ضرورة التزامهم ودفاعهم عن الحق والحقيقة والعدالة، وحتمية التلاحم الفكري بين المبدعين على اختلاف أطيافهم، فهم في نظرهِ كهنة الحقيقة والجمال في معبد الحياة، وهيكل الحرية. وفي هذه المعاني يقول:
يا زمرة الشعراء شف نفوسهم
فرطان: فرط جوى، وفرط عذاب
ذابوا ليسقوا الناس من مهجاتهم
خير الشراب، مشعشع الأكــواب
وتحـرَّقــت منهم لتعلي شــعـــــلة
لبلادهــــم، كتل من الأعــصــاب
ومن الجدير بالإشارة هنا إلى أنَّ الجواهري قد خصَّ دمشق بشعرهِ الراقي الجميل رفيع المستوى حيث بلغ ذروة تألقه في قصيدة “دمشق يا جبهة المجد” وفيها يقول:
شممت تربَكِ لا زُلفى ولا ملقا
وسرت قصدك لا حُبًّا ولا مذقا
ومن الجدير بالذكر أنَّ الجواهري قد غادر العراق في صيف عام 1961، بعد أن سُدّت أمامه السبل، وضيّقوا الخناق حوله، فانتهز دعوته لحضور حفلة تكريم الشاعر اللبناني الأخطل الصغير (بشارة الخوري) بإمارة الشعر، في بيروت، لمغادرة العراق. وها هنا نستمع إلى الجواهري وهو يشكو بشارة (الأخطل الصغير) ما لاقاه من الحكومة العراقية:
أبشارة وبايما شكوى أهزك ياحبيبي…
هل صك سمعك إنني، من رافديّ بلا نصيب ِ
في كربة وأن الفتى الممراح، فراج الكروب ِ
وزعت جسمي في الجسوم، ومهجتي بين القلوب
وفيما يتعلق بقصائد الجواهري ذات النوع الفريد الخاص المميّز، ما شملته هذه القصائد من مواضيع التحدّي والكبرياء والاعتداد بالنفس، ورفض الزيف والخداع. فمثلًا قصيدة “أزح عن صدرك الزبدا” التي ألقاها بعد حصولهِ على جائزة “اللوتس” تعكس هذه الأفكار، ويصفها الجواهري بأنها من أعزّ قصائده وأحبها إلى نفسهِ. وقد جاء في مطلع هذه القصيدة:
أزِح عن صدرك الزبدا
ودعـهُ يبث مــــا وجـــــدا
وخـل حـطـام مـوجـدة
تـنـاثـــر فــوقَـهُ قــصـدا
أزِح عن صدرك الزبدا
وقل تُعدِ العصور صــــدى
أأنتَ تخاف من أحـــدٍ
أأنتَ مـــصــانــعٌ أحـــدا
أتخشَ الناسَ أشجعهم
يخـافـكَ مغـضبًا حـــــرِدا
ولا يـعـلـوكَ خـيـرهُـــــم
ولـسـتَ بخـيرهـم أبــدا
تركــت وراءكَ الـــدنيا
وزخـرفـهـا ومــا وعــــدا
ومــا مـنَّــتـكَ مـثـقـلـــــةٌ
بما يرضـــيـكَ أن تـلــِدا
ورُحتَ وأنتَ ذو سـعة ٍ
تجـيـعُ الأهـــلَ والــولـدا
لقد كان الجواهري محافظًا على لغته وبناء قصيدته، ومع أنه أحد فحول الشعر العربي الكلاسيكي الموزون المقفّى، فقد كان دعاة “الحداثة” يقدّرون مكانته ويعترفون له بمواهبه الشعرية وفرادته الأدبية والفكرية.
ومع أن الجواهري كان عربيًّا صميميًّا أصيلًا، إلّا أنّه أحبَّ الأكراد الذين بادلوه هذا الحب وملأت دواوينه مكتبات الأكراد حيث كان شعره عنوان التواصل والأخوة العربية – الكردية، وفي الوقت نفسه كان الجواهري شاعر العرب الأكبر في عقله وهواه ومشاعره، تستقبله وتفاخر به بلاد العالم العربي وهو العراقي المتميز بشخصه وانتمائه العروبي الأصيل.
ويُبرّر محمد مهدي الجواهري كتابته قصيدة للرئيس العراقي (في حينه) أحمد حسن البكر وابنه محمد، وكذلك قصيدة لصدام حسين، بأنه قد كتب تلك القصائد بدافع “الوحدة الوطنية” والتئام الشمل، “بل إنَّ ظروف المرحلة والواقع السياسي، كان يفرض بعض التوجهات”، بالإضافة إلى تسويغه لهذا الأمر بأنَّ البكر وصدّام قد كرّماه في حينها، وعومل بشكل خاص.
وممّا يشار إليه أنّ عددًا كبيرًا من الشعراء والأدباء والمفكرين قد كتبوا وأشادوا بشخص الجواهري وشاعريته الفذّة، ومنهم الشاعر اللبناني الكبير سعيد عقل الذي قال عنه:
“إنّه العظيم الذي انزاح عن العصر”. كما قال فيه الشاعر محمود درويش بأنّ “الجواهري ابن القرن العشرين في إصغائه للزمن وحضوره الدائم في حركة الواقع.. فهو خليط من المتنبي والبحتري وكامل التراث العربي على شرط تاريخي واحد… فهو شاعر عابر للأزمنة والظروف…”. أما الشاعر بدر شاكر السيّاب فقد لخّص كل ما يمكن أن يوصف به الجواهري كشاعر عملاق، قائلًا عنه إنّه “لا متنبي بعد المتنبي إلّا الجواهري”.
فاز الجواهري بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية، في دورتها الثانية( 1990-1991).
- مؤلفاته:
من آثار الجواهري: (حلبة الأدب) و(بين العاطفة والشعور)، و(ديوان الجواهري)، و(ديوان الجواهري (مجلدان)، (بريد الغربة)، (الجواهري في العيون من أشعاره) و(بريد العودة)، و(أيها الأرق)، و(خلجات)، و(ذكرياتي) 3 أجزاء، و(الجمهرة) مختارات من الشعر العربي.
- وفاته:
توفي الجواهري في إحدى مشافي العاصمة السورية دمشق صبيحة يوم 27 تموز/يوليو سنة 1997 عن عمر يناهز الثامنة والتسعين، ونظم له تشييع رسمي وشعبي مهيب، ودفن في مقبرة الغرباء في السيدة زينب في ضواحي دمشق، تغطيه خارطة العراق المنحوتة على حجر الجرانيت، وكلمات: “يرقد هنا بعيدًا عن دجلة الخير”.