شعر

تجليات الطلل في الشعر الصوفي الأندلسي

Title in English The manifestations of the tales in the Andalusian

الملخص:

يسعى هذا البحث إلى الوقوف على  تجليات الطلل في المتن الشعري الصوفي بالأندلس ، باعتباره دالا بنائيا استطاع  المتصوفة أن  يعيدوا إنتاجه من خلال توظيفه في بلورة رؤية فنية مخصوصة ، خاصة ما تعلق بظاهرة الاغتراب والحنين التي  تتجلى بوضوح في جميع أشعار هؤلاء المتصوفة.

لقد اكتسب الطلل في القصيدة الصوفية أبعادا جديدة تعكس  قدرة الصوفيين على  تطويع  العناصر البنائية للقصيدة القديمة وإدماجها في نسق رمزي يصلهم بالعالم العلوي حيث تزول أسباب اغترابهم من خلال تحققهم بالقرب والاتصال بالذات الإلهية. كلمات مفتاحية: الطلل- الاغتراب- الصوفية- الاندلس- الحنين- الاتصال.


The Abstract :

    This research seeks to find out the manifestations of the aspiration in the Sufi poetic body of Andalusia, as it is a constructive sign that the Sufis were able to reproduce by employing it in crystallizing a specific artistic vision, especially with regard to the phenomenon of alienation and nostalgia that is clearly evident in all the poems of these Sufis.

The prominence of the Sufi poem has acquired new dimensions that reflect the ability of Sufis to adapt the constructive elements of the old poem and incorporate them into a symbolic system that connects them to the upper world, where the causes of their alienation disappear through their realization of proximity and contact with the divine subject

Keywords :

ruin – aliénation – soufisme – Andalousie – nostalgie – communication


  • مقدمة:

         يشكل الوقوف على الأطلال لازمة من لوازم التجربة الشعرية القديمة خاصة منها الإسلامية والعباسية، وقد شكل أحد المدامك الأساسية في تشكيل رؤية الشاعر العربي للزمن، رؤية عكست وعيه الفاجع إزاء الدهر الذي يتعتع الفرد والجماعة ويبقى دائما عصيا على الترويض والتدجين والمخاتلة، من هنا عبر الشعر عن هذا الشعور الباطن بالاغتراب، ومنه انبثق وصف الرحلة والقافلة والوقوف على الرسم، ولعل هذا ما حدا بالصوفي الأندلسي إلى اصطناع تقنية الوقوف على الطلل في أشعاره، بذلك فقط نفهم “إلحاحه الشديد على ذكر الأودية والمرابع والأماكن التي كان ورودها في الشعر القديم علامة على اغتراب مكاني أملته ظروف البيئة والمناخ، وليس هذا الاغتراب المكاني النابع من الحنين إلى موطن الأحبة سوى إسقاط لاغتراب آخر ذي طابع عاطفي وجداني “[1] .


  • أبعاد الطلل في القصيدة الصوفية

       ضمن هذا البحث سنعمل على مقاربة تجليات الطلل في بعض القصائد الصوفية لنقف على أبعاد توظيف هذا المكون البنائي وكيف استطاعت القصيدة الصوفية أن تستوعبه وتتمثله في بناءاتها الرمزية.

      يقول ابن الخطيب في إحدى قصائده:

            هاجتك إذ جئت اللوى فــزوردا        ذكراك أوطان بها وعهودا

            عاثت بهن يد الزمان فلم تجـــد        أعلامهن عن العفاء محيـدا

            إلا مواقد كالحمام جواثمــــــــا        وترى باظلاف الظباء كديدا

            دمن غديت بهن أخلاف الهوى       ولبست ريعان الشباب جديدا [2]

            الطلل وتحديداته المكانية في هذه الأبيات تتوزع بين أسماء الأماكن “اللوى”،”زوردا”، والتعين المطلق للمكان:”أوطانا”، “دمن” وبين المخلفات: “مواقد”، ” أظلاف الظباء “. وهذه التحديدات وهي معزولة تشير إلى المكان فقط، لكن رؤية الشاعر استطاعت وبمهارة عالية أن تنسج من حولها حركية أساسها الزمن المرتد من الحاضر إلى الماضي :

 

الحاضر هاجتك          ذكراك أوطانا وعهودا

  

الماضي عاثت يد الزمان بالأوطان والعهود

 

      هكذا تأتي الآلة الجهنمية للزمن على المكان والزمان على حد سواء (الأوطان/العهود) والنتيجة هي عفاء أعلام الأوطان والعهود، وهذا ما يجعلنا نثمن ما ذهب إليه الباحث حسن البنا عز الدين في قوله: “إن الطلل مكان وزمان: مكان يحتوي على الزمان مكثفا، وزمان متمثلا في تثبيتات مكانية. وأصل الطلل في اللغة المكان الذي يجتمع حوله الأهل للحديث والطعام والشراب، ولكن بمرور الزمن صار يعني المكان الذي يدل على انفراط عقد هذه الجماعة أو رحيلهم معا بعيدا عن الشاعر، فمرور الزمن يجعل الطلل مكانين نفسين أو زمانين متقابلين”[3]، يسلم الأول (الماضي) إلى الثاني (الحاضر). هكذا يرسم الشاعر عبر الذاكرة تفاصيل الرحلة من عهد الشباب والصبابة إلى عهد الشيب والحسرة، ولعل هذا الإحساس المرير بالزمن هو ما يضرم في دواخله أتون الحنين إلى الديار المقدسة والأماكن المشرقية:

            تذكرت عهدا بمنعرج اللوى *****   لا يستحيل وموثقـــا مشهودا

   الفرق بين العهد الأول والحالي هو أن الأول يصيبه العفاء والانمحاءات في حين أن الثاني يتعالى عليهما، نقول مع فاطمة طحطح “هكذا اتخذ الشاعر من الأطلال رمزا لحنينه إلى أطلال مطلقة وديار ثابتة، إن ذكرى الشباب ومواطن الصبا ذكرته بذكرى أخرى هي الأماكن النجدية وعهد منعرج اللوى، عهد لا يستحيل…زمان لا تلحقه يد البلى، إنه عهد النبوة، زمن الديمومة والمطلق مقابل زمن العفاء والفناء”[4]

            وفي قصيدة أخرى نجد نفس الملمح بأبعاده النفسية:

            أهاجتك ذكرى من خليط ومعهد  **** سمحت لها بالدمع في كل مشهد

            وعادك عيد من تذكر جيــــــرة ****  نأوا بالذي أسأرته من تجلـــــــد

            حنانيك من نفس شعاع ومهجة ****   إذا لم يحن من بعدهم فكأن قـــد

            فكم دونهم من مهمه ومفــــــازة ****  وأثباج بحر زاخر اللج مزبــــد

            كأن لم يكن من قبل يومك عاشق **** ولا واقف بالربع وقفة مكمــــد

                                     *************

            ولا تسأل الأطلال بعد قطينهــــا ****  فعفت جوابا بعد طول تـــــردد

            سوى عبرة تحدو ثقال سحابها ****  إذا ما ونت ريح الزفير المصفد [5] .

    نلاحظ أن محور الحس المأساوي في هذه المقدمة الطللية هو هذا النزال غير المتكافئ بين الإنسان والزمن،فريب هذا الأخير يؤدي إلى هدم كل لحظة جميلة: لحظة العشق،لحظة الوصال بالأحبة ليصبح الشاعر وجها لوجه أمام أطلال صماء هي نفس أطلال طرفة و أبي نواس  التي لا تحير جوابا[6]،هاهنا ثنائية الحاضر والماضي حاضرة بقوة أيضا،فالحنين الذي بجرف الشاعر إنما يرتد به إلى الماضي، يقول بروست:” إن الجنان الحقيقية هي الجنان التي فقدناها”[7].

والأطلال التي يقف عليها ابن الخطيب هي أطلال نفسه التي يبكي من خلالها زمانه الهارب ،ذلك البكاء الذي يجريه حنينا أوارا إلى الأماكن المقدسة،فلنستمع إليه مخاطبا الرسول(ص) أسمى رمز للقداسة والطهرانية:

           دعاك بأقصى المغربين غريب ****   وأنت على بعد المزار قريب [8].

   ها هنا تتبدى المفارقة جلية بين نمطين من الاغتراب: اغتراب مكاني يعضده اغتراب وجودي، ذلك أن الشاعر مكانيا مقيم بأقصى المغربين تفصله مسافات شاسعة عن قبر الرسول الموجود بالمشرق، مما ينتج عنه هذا الانفصال الوجودي المؤسس لاغتراب الشاعر وغربته، لكن سرعان ما يستحيل هذا الانفصال اتصالا ولو عبر سفر روحي/ رمزي تؤججه أشواق هذا المتيم التي تحرق المسافات محاذية ركب الحجيج ؛ مما يجعل ” روحه تنفصم عن جسمه تسافر مع القافلة وتصاحب الركب بينما الجسم يبقى مقيدا إلى المكان ،إلى الأرض لا يتحرك”[9].

      نترك ابن الخطيب لنقف مع شاعر متصوف آخر على أماكن/ مرابع كانت مبعث شوقه وحنينه إلى الأصول ومجلى اغترابه الذي يعكس انفصام ذاته:

            للعيس شوق قادها نحو السرى ****  لما دعا أجفانها داعـــي الكـــــــرى

            أرخ الأزمة واتبعها إنهــــــــا ****   تدري الحمى النجدي مــع من درى

            حث الركاب فقد بدت سلع لنــا **** وأنزل يمين الشعب من وادي القرى 

            واشتم ذاك الترب إذا ما جئتـــه **** تلفيه عند الشم مسكا أذفــــــــــــــرا

            فإذا وصلت إلى العقيق فقل لهم **** قلب المتيم في الخيـــام قــد انـبـــرى

         عانق مغانيهم إذا لم تلقهــــــــم **** واقنع فقد يجزى عن الماء الـــثـــرى

         يا أهل رامة كم أروم وصالكم ****  وأبيع فيه العمر لو مـــا يشـــتـــــرى

         وأشد عروة قربكم بيد الرضا ****  والدهر يفصـــم ما أشـــد من العـرى

         أهلا وسهلا كل ما ترضونـــه ****   فلقد رضيت  وما رأيتم لـــي أرى[10]

              الشاعر ينقط مقطوعته بشبكة من أفعال الأمر (أرخ الأزمة، اتبعها، حث الركاب، انزل، اشتم، قل لهم، عانق مغانيهم، اقنع) تترجم حنينه الآبد إلى الأماكن المقدسة بمكة أم القرى، وكأن العودة إلى هذه الأماكن هي عودة إلى الأصل ،بما أن أصل الإنسان هو التراب[11]: (واشتم ذاك الترب إذ ما جئته)، لكن ما يحول بين الشاعر وقرب أهل الأماكن المقدسة إنما هو الدهر(والدهر يفصم ما أشد من العرى). هو الزمان دائما وأبدا يفصل الصوفي عن مبتغاه ويضاعف من إحساسه بالاغتراب  واستحالة الاتصال والعودة[12].

            إذا كانت العرب قد وقفت على الأديرة ووصفتها في أشعارها، فها هو الششتري يصطنع هذا التقليد في قصائده ليرمز إلى معان صوفية وراء رسوم الدير المادية ورهبانه، يقول:                

        أيا سعد قل للقس من داخل الديــر *** أذلك نبراس أم الكأس بالخمــــــــــر

        سرينا لـه خلناه نــارا توقـــــدت ***  على علم حتى بدت غـــــرة الفجـــر

        (…)

       إلى أن أتيت الدير ألفيت فوقــــه *** زجاجا ولا أدري الـذي فيــه لا أدري

       بحق المسيح اصدق لنا ما الذي حوت ** فقال لنا خمر الهوى فاكتموا سري  

       (…)

       مطيتنا للمنزل الرحــــب صبرنا *** على الضر إن النفــع في ذلك الضــــر

       ومن يقتبس نار الكليم فشرطه ***  ولا بد ترك الأهل بالطوع والجبـــــــــر

       وفي الخلع للنعلين ما قد سمعته *** مقام ولكن نيــط بالخـــــلق والأمــــر[13]

               يتضح من خلال التضمينات الواردة في هذه القصيدة أن هناك ذاكرة اتخذت من الموروث التراثي خاصة القرآن الكريم، ينبوعا ثرا تمتح منه وأرضية تبني عليها متنها الشعري عموما، ففي البيت الخامس والسادس إشارة إلى قصة موسى عليه السلام، خاصة مسألة خلع النعلين التي فسرها الصوفية على أنها “ترك الجسم والنفس أو ترك الدنيا والآخرة والاتجاه إلى الحق اتجاها ينتهي إلى الفناء ثم البقاء فيه[14]، وعليه فان سيرورة هذا الاتجاه تنقل الصوفي من العالم السفلي إلى العالم العلوي عبر تجربة عشق إلهي:

وقطع ذوي الألباب عشق مراتب **** من العالم الأدنى ويسلبن كالسحــر

وفي العالم العلوي ـ لذتنا التــــي- *** ندور عليها الآن والعيش في الدور[15]

     خمرة الدير التي شبهها الشاعر في مستهل القصيدة بالنبراس والنار هي “خمرة الهوى” وخمرة الخلاص، إذ من مزايا النور” أنه يرمز دوما إلى الحياة والخلاص والسعادة”.[16] هكذا يتقدم النور في الثقافات التي نهل منها الششتري صورة من صور الله، بل هو الله في المسيحية [17]، كما في الإسلام (الله نور السموات والأرض)[18] ، وإضافة إلى هذه التواردات  فالخمرة ترمز كذلك للمعرفة والوجد والسكر الإلهي.

الحاصل إذن أن ما يؤسس اغتراب الشاعر إنما هو الرغبة في فهم معميات التجريد العلوية، تلك التي تؤجج دهشة الحبر العالم وتذكي حيرته:

            وأن يد التجريد ترتفع ستـــــرهـا   *** وتبدو ذوات الحسن من داخل الستر

            وتبدو لك الأسرار والملك والغنى *** ويارب حبر خاض في ذلك البحـــر

            وكم داهش قد حار في عظم موجه ** ولم يدر ما معناه في المد والجــزر[19]


  • رمزية الطلل عند ابن عربي

    استكمالا لتحليلنا للبنية الرمزية للطلل وإسهامها في تجلية الاغتراب المكاني الروحي لدى المتصوف الاندلسي، نصل إلى الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي الذي أفرد ديوانا كاملا هو “ترجمان الأشواق” للغزل المقرون بذكر الطلل، لكن قبل أن نمضي في تحليل بعض هذه المقاطع الطللية لابد من أن نستحضر بعض الفقرات التي نعتبرها موجها من موجهات القراءة، يقول ابن عربي ، بعد أن يسرد دوافع نظمه لهذا الديوان التي لخصها في نزوله بمكة عند شيخ عالم إمام، وكانت لهذا الشيخ بنت على درجة عالية من العلم والجمال الخلقي والخلقي [20] ،وهي المقصودة بنظم الديوان:

“فقلدناها من نظمنا في هذا الكتاب أحسن القلائد بلسان النسيب الرائق وعبارات الغزل اللائق، ولم أبلغ في ذلك بعض ما تجده النفس، ويثيره الأنس من كريم ودها وقديم عهدها، و لطافة معناها، وطهارة مغناها، إذ هي السؤال المأمول والعذراء البتول، ولكن نظمنا فيها بعض خاطر الاشتياق من تلك الذخائر والأعلاق فأعربت عن نفس تواقة، ونبهت على ما عندنا من العلاقة، اهتماما بالأمر القديم وإيثارا لمجلسها الكريم،

فكل اسم أذكره في هذا الجزء فعنها أكني وكل دار أندبها فدارها أعني ولم أزل فيما نظمته في هذا الجزء على الإيماء إلى الواردات الإلهية والتنازلات الروحانية والمناسبات العلوية، جريا على طريقتنا المثلى، فإن الآخرة خير لنا من الأولى، ولعلمها رضي الله عنها بما إليه أشير، ولا ينبئك مثل خبير، والله يعلم قاري الديوان من سبق خاطره إلى ما يليق بالنفوس الأبية والهمم العلية المتعلقة بالأمور السماوية، آمين بعزة من لا رب غيره والله يقول الحق وهو يهدي السبيل”[21]              

       أما أسباب شرح الديوان فيلخصها ابن عربي في ما يلي:

“وكان سبب شرحي لهذه الأبيات أن الولد بدرا الحبشي والولد إسماعيل بن سودكين  سألاني في ذلك وهو أنهما سمعا بعض الفقهاء بمدينة حلب ينكران هذا من الأسرار الإلهية وأن الشيخ يتستر لكونه منسوبا إلى الصلاح والدين، فشرعت في شرح ذلك وقرأ علي بعضه القاضي ابن العديم بحضرة جماعة من الفقهاء، فلما سمعه ذلك المنكر الذي أنكره تاب إلى الله سبحانه وتعالى ورجع عن الإنكار على الفقراء وما يأتون به في أقاويلهم من الغزل والتشبيب ويقصدون في ذلك الأسرار الإلهية”[22]    

            يمكن أن نلخص هذا الاستشهاد في النقط التالية:

1ـ يتأطر ديوان ابن عربي ضمن الغزل.

2ـ الشاعر يصرح بأنه اصطنع الكتابة والإيماء لذلك فالمعاني التي يوردها هي على سبيل الرمز.

3ـ مقصدية الشاعر تتمثل في الإيماء إلى الوردات الإلهية والتنزلات الروحانية والمناسبات العلوية جريا على طريقة المتصوفة المثلى.

4ـ الملتقية الأولى(بنت العالم)على علم وخبرة ودراية بما يشير إليه الشاعر. 

5ـ دعوة ابن عربي إلى استبعاد الحكم الأخلاقي في تأويل شعره.

6ـ الشاعر يثبت شرحا لديوانه دفعا لتعريض الفقهاء به.

نستضيء بملاحظة هامة لهنري كوربان في مستهل تحليله لهذا الديوان، يقول:

        “لكي نفهمه دون أن نشكك في حسن نيته من خلال نقد لاذع، ينبغي أن نمتلك هنا ما يمكن أن نسميه طريقة إدراك روحاني مختص أكثر بوعي الشعر الغزلي. وبدون هذا المفتاح سيكون من غير المجدي محاولة استغوار سر الرؤيا التي ينطوي عليها هذا الشعر. لا يمكننا سوى أن نتيه إذا ما نحن بحثنا عنها كما فعلنا بخصوص وجه بياتريس لدى دانتي: هل هو محسوس، واقعي أو مجازي؟ لأن اسما إلهيا لا يمكن أن تكون موضوع تأمل إلا عبر صورة ملموسةـ محسوسة أو متخيلةـ تجعلها مرئية ظاهريا أو عقليا.”[23]

يقول ابن عربي:

            درست ربوعهم وإن هواهـــم **** أبدا جديد بالحشا ما يدرس

            هذه طلولهم وهذي الأدمـــــع ****   ولذكرهم أبدا تذوب الأنفــــس

            ناديت خلف ركابهم من حبهـم **** يا من فناه الحسن !ها أنا مفلس

            مرغت خدي رقة وصبابـــــة ****   فبحق حق هواكم لاتؤيســــوا

            من ظل في عبراته غرقا وفي **** نار الأسى حرقا ولا يتنفـــــس

            يا موقد النار الرويدا هـــــــذه ****   نار الصبابة شأنكم فلتقبــسوا [24]

            ها هنا تحكي الربوع عن ماض بعيد اغتاله الزمان، إنه الشباب عصر البداية الذي مضى من غير رجعة، وبمضيه فقد الشاعر كثيرا من قوته التي كانت المعين له في الرياضات والمجاهدات، ومن ثم فالأطلال[25] ،إنما هي الأعمال، وعليه نكون أمام الصورة التالية:

            شباب + قوة = مجاهدة وعمل                        أطلال دراسة

            شيخوخة + ضعف = هوى مقيم في الحشا                      هوى جديد متجدد

            إذن فإحساس الشاعر بالبعد الأنطولوجي والزمني الذي يفصله عن مواطن البداية وعصر القوة وهو ما يؤسس اغترابه الذي يعكسه هذا الحنين الجارف، ناهيك عن الدمع والأسى والذل ونار الشوق …..

            لاشك إذن أن حنين الحاتمي إلى الأطلال والديار تلفه دائما وأبدا هذه الغلالة من التكثيف الرمزي التي تمليها بحسبه طريقة المتصوفة في التعبير كما تمليها أيضا طبيعة تجربتهم الروحية التي ترمي إلى نشدان الخلاص والتحلل من إسار العالم الدنيوي/ الأدنى وإكراهاته، بذا يصبح الشعر عنده “لغة تعكس بحث الذات عن الحقيقة المطلقة، يتضايف فيها الروحي مع المادي والقدسي مع الفاني (…) عتبة عبور نحو استشراف العالم الآخر المجهول”[26] يقول ابن عربي في أحدى طللياته:

            أنجد الشوق واتهم العزاء **** فأنا ما بين نجـــــــد وتهــــــــام

            وهما ضدان لن يجتمعـــا ****  فشتاتي ماله الدهر نظـــــــــام

            ما صنيعي ما احتيالي دلني**** يا عذولي لا ترعـني بالمـــلام

            حنت العيس إلى أوطانها ****  من وجى السير حنين المستهام

            ما حياتي بعدهم إلا الفنا ****  فعليها وعلى الصبر الســـــــلام  [27]

   من الشوق تبتدئ رحلة الصوفي وإلى الفناء تنتهي، وما بين الفناء والشوق ثمة الضياع والاغتراب فالشاعر تنازعه الشوق والعزاء، نجد وتهامة، العالم العلوي والعالم الدنيوي، تلك هي مأساة الصوفي فهو أبدا مشدود إلى الحياة الدنيا “لإعانة الموطن لها ” [28]، لكن الشوق للمحبة الإلهية وللوطن الأصلي يجذبه إلى أعلى ليفارق الصبر وعالم الحس .

            ويمضي ابن عربي في إظهار مأساوية الوجود الإنساني إزاء الزمان قائلا:

            يا طلالا عند الأثيل دارســــا **** لاعبت فيه خــــردا أوانســـــــا

            بالأمس كان مؤنسا وضاحكا ****   واليوم أضحى موحشا وعابسا [29]     

 الطلل هنا بحسب منطق القصيدة أثر طبيعي متبق من الطبيعة/الأصل إعتورته ظروف الزمن  فأضحى قطبا يستنفر عناصر الإشكالية الوجودية التي يروم الشاعر طرحها من خلال قصيدة: إشكالية طرفها الأول ماضي “مستمر”والطرف الثاني حاضر”مستمر” :

    ماضي”مستمر”                           الطلل                       حاضر”مستمر”          

تسفر المقابلة هنا بين حالتي تضاد تعكسان لحظتين وجودتين:

    الماضي =الأنس والضحك    #  الحاضر= الوحشة والعبوس.

   اللحظة الأولى هي لحظة الأنس التي حظي فيها الشاعر بملاعبة الخرد الأوانس والتي يكني بها عن “الحكم الإلهية التي يأنس بأنس الإطلاع عليها قلب العارف”[30] لينعم بتلك الفسح العلوية والفرج العلوية، أما اللحظة الثانية فهي لحظة الاكتئاب والهم المقيم الناتج عن مفارقة النفحات العلوية والأسرار الربانية.

    نلخص مع عاطف جودة النصر إلى أن “الرمز الشعري عود إلى الينبوع الأول للغة في شكلها الأسطوري المفعم بالمجاز وتسمية للأشياء في كينونتها وعلى ما هي عليه، إنه اتصال دائب بالعلو في طابعه الإلهي وطابعه الإنساني في مفارقته ومحايثته على نحو ما أبدع الصوفية في أدبهم من رموز”.[31]


  • خاتمة:

    في المحصلة يمكن القول ان مقاربة تجليات الطلل وأبعاده البنائية والرمزية في الشعر الصوفي الاندلسي أسعفتنا في الوقوف على إشكالية الزمن الوجودي عند الصوفي من جهة ، كما كشفت لنا عن ابعاد الاغتراب المكاني والوجودي الذي وسم تجربته ، وهو الاغتراب الذي وسم تجربته في الحياة والوجود فكان ابداعه الفني فرصة اهتبلها للتحلل من سطوة هذا الاغتراب في ظل مسعاه للتوحد بالذات الالهية والتنعم بلذة القرب.

    لقد نجح الصوفي في توظيف الطلل في بناء قصيدته  فخلع عليه معاني ثرة تتساوق مع نسغ تجربته ، فلم يعد الطلل – كما في القصيدة القديمة- تقليدا فنيا جامدا، بل أضحى بؤرة دلالية تمنح القصيدة جمالية آسرة فيما هي ترفد رؤية الصوفي للذات وللعالم بطاقة فنية استثنائية.


  • الهوامش:

1– د.عاطف جودة نصر، الرمز الشعري عند الصوفية، دار الأندلس –دار الكندي، بيروت- ط1 /1978 ص 178-179

2 – ديوان ابن الخطيب، تحقيق محمد مفتاح، ط1، دار الثقافة، الدار البيضاء 1989 ص239

 3- د.حسن ألبنا عز الدين، الكلمات والأشياء التحليل البنيوي للقصيدة الأطلال في الشعر الجاهلي، دراسة نقدية، دار المناهل لبنان، ط1 1989  ص105.

4- فاطمة طحطح، الغربة والحنين في الشعر الأندلسي، مطبعة دار النجاح، ط1- البيضاء.ص323

5 – ديوان ابن الخطيب، تحقيق محمد مفتاح، ط1، دار الثقافة، الدار البيضاء 1989 م.س.ص 174

6-نلاحظ أن المتصوفة أعادوا إنتاج المقدمة الطللية كما تبلورت لدى الشعراء القدماء لكن ضمن رؤية وسياق خاصين

 – Georges Bonville , les fleurs du mal, analyse critique, Hatier – paris 1987 p :23. 7

8 ديوان ابن الخطيب ، مرجع سابق ص:27 .

 9- فاطمة طحطح، الغربة والحنبن ،مرجع سابق،ص325 للتوسع أكثر انظر ص:317-342 من نفس المرجع.

10 – ديوان أبي الحسن الششتري: شاعر الصوفية الكبير في الأندلس  والمغرب،حققه وعلق عليه د.علي سامي النشار،ط:1 السنة 1960 ـ مطبعة دار النشر الثقافةـ مصر ص49ـ50

11- كثيرة هي الآيات القرآنية التي نصت على أصل المادة التي خلق منها الإنسان: (الطارق:5ـ6) (العلق:2) (الإنسان:2)      (السجدة:7)،(الحجر:26)

12- منصف عبد الحق، الكتابة والتجربة الصوفية: ابن عربي نموذجا، ط1 منشورات عكاظ الرباط 1988م.، ص:361

13-  ديوان الششتري،مرجع سابق،ص:42-43

14- ديوان الششتري،م.س.ص42ـ44

15- المرجع نفسه .نفس الصفحة.

16- نفسه ، نفس الصفحة.

17 –Jean Chevalier et Alain Gheerbrant :  Dictionnaire des symboles, Ed, Robert Laffont./Jupiter-  

       Paris1982 .matière :lumière  17

                                                            

18- سورة النور آية 35

19- ديوان الششتري، م.س.نفس الصفحات.

20-  يمكن العودة إلى مقدمة “ترجمان الأشواق” للوقوف بتفصيل على الأوصاف التي يخلعها ابن العربي على الإمام العالم وابنته النظّام.

21 – ابن عربي، ترجمان الأشواق، ترجمان الأشواق الطبعة الثانية ، دار صادر بيروت2003م.ص9.

22- المرجع السابق.ص 9 و10.

23-Henri Corbin, L’imagination créatrice dans le soufisme d’ibn Arabi , op.cit.p :

24- ابن عربي ترجمان الأشواق، مرجع سابق ص 35-36

25- لا نتفق مع منصف عبد الحق في اعتبار الأطلال والربوع مشاهد طبيعية بصورة تعميمية، لأنها في الغالب ليست كذلك، وإنما هي مسائل رمزية، ولعل ذلك ما يفصح عنه ابن عربي حين يقول . فاصرف الخاطر عن ظاهرها واطلب الباطن حتى تعلما (الديوان ص11)

26 – د عبد الرحمان بناني، تلقي الشعر:قراءة في محطات التراث النقدي والبلاغي العربي، منشورات جامعة سيدي محمد بن عبد الله،  مطبعة الأفق – 2006،  فاس ص 22.

27 – ابن عربي، الديوان، شرح أحمد حسن بسج، الطبعة الثانية دار العلمية، بيروت 2002م، ص 28-29

28 – هامش 1 من الصفحة 28 من الديوان . مرجع سابق

29- ابن عربي الديوان مرجع سابق ص 75.

30ـابن عربي، الديوان، مرجع سابق،ص75.

31 ـ عاطف جودة نصر، الرمز الشعري عند الصوفية،م.س ص120.

علي كرزازي

علي كرزازي: حاصل على دكتواه في الآداب سنة 2010 في موضوع:" شعرية الاغتراب الصوفي بالأندلس: ابن عربي نموذجا". وعلى دبلوم الدراسات العليا في اللغة العربية وآدابها سنة 1998 في موضوع:" الشعرية العربي بين المركز والهامش: أبو نواس نموذجا". له عدة مقالات نقدية وقصائد شعرية منشورة، مُعد لبرامج إذاعية ثقافية، عضو اللجنة الموسعة لأكاديمية المملكة المغربية المشرفة على جمع دواوين موسوعة الملحون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى