شعر

أمل دنقل .. شاعر الرفض الأول

عام 1940 ولد أمل دُنقل، وفي 21 مايو من عام 1983 رحل عن هذا العالم بعد أن حاصره المرض والتهم جسده؛ لكن، ورغم مرضه، استطاع أمل أن يكتب أهم قصائده أو بعض أهم قصائده الكبيرة: الجنوبي، ضد مَنْ، زهور، السرير، ديسمبر، والطيور، وسواها.

سبعة وثلاثون عامًا مرّت على رحيله، لكنه، ظل طوال هذه الأعوام حاضرًا بقوة تفوق، كثيرًا، قوة بعض الحاضرين. بل يبدو أحيانًا وكأنه يزداد رسوخًا في الروح الإنسانية الوطنية، وكأن علينا أن نستعيره من أزمنة مضت لنسند به قلوبنا في أزمنة لا تكف عن الانهيار.

لم يكن الشاعر المصري الراحل أمل دنقل (1940-1983) صاحب الوجه الأسمر والملامح الهادئة والعينين الوديعتين اللتين يملؤهما الدمع دون ضعف، يتعامل مع الكلمات بشاعرية منبعثة من مَلكة الألم التي يعيشها، إذ خاض صاحب “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” تجارب كثيرة، واحتك بفئات مختلفة من غير المثقفين.

ويعد واحدًا من أهم شعراء الستينيات في مصر، فالمكانة التي يحتلها في تاريخ الشعر العربي المعاصر، والتي ترتبط بالإنجاز الذي حققه على المستوى الإبداعي، تجعل منه واحدًا من أبرز الشعراء العرب المعاصرين. ولا تحتسب المكانة، في هذا السياق، بالكم الشعري الذي كتبه الشاعر، أو الدواوين التي أصدرها.

حمل دنقل مع الجماهير التي كتب لها شعره، آلام الأمة العربية وضياع نصرها عبر معاهدات السلام المجحفة، متجرعًا مرارة طعم النكسة عام 1967، لينعكس كل ألم عاشته البلاد والأمة في شعره، بل في حياته وجسده ونفسيته المرهفة، حيث عومل من قبل السلطات المصرية معاملة لا تليق بشاعر عربي كبير، في حين أغدقت بسخاء على آخرين.

لم ينجر دنقل إلى الأحلام الطوباوية والميتافيزيقا والفنتازيا، ليسقطها على الواقع كما فعل العديد من أبناء جيله، الذين اعتمدوا على الإلياذة وعلى كم هائل من أدبيات فلسفة وميثولوجيا الإغريق والرومان، إنما تجاهل كل ذلك، وفضل أن ينهل من تراث أمته. لقد ترك الآخرين يتعقبون الأسطورة لدى الإغريق والرومان، وعاد حثيثًا إلى التاريخ العربي باحثًا في أساطيره ووقائعه، ليقدم لنا قصائد من صلب الحياة لا تشعر سامعها أو قارئها أنه غريب عنها، بل يحس أنها معبرة عن آلامه وتطلعاته.

عمل أمل دنقل موظفاً بمحكمة قنا وجمارك السويس والإسكندرية ثم بعد ذلك موظفًا في منظمة التضامن الأفروآسيوي، ولكنه كان دائمًا ما يترك العمل وينصرف إلى كتابة الشعر. كمعظم أهل الصعيد، شعر أمل دنقل بالصدمة عند نزوله إلى القاهرة أول مرة، وأثر هذا عليه كثيرًا في شعره ويظهر هذا واضحًا في قصائده الأولى.


  • لا تصالح

يبقى دنقل عازف الكمان في جوقة الشعراء الكبار، وصاحب البيان الشعري الشهير “لا تصالح”، تلك القصيدة التي ارتقت بكلمة “لا” إلى خانة الشعرية العالية، ليتغنى بها أبناء الوطن العربي حالما تفجرت ثورات، وليطوف الثوار حول “الكعكة الحجرية”، قلب ميدان التحرير بالقاهرة مترنمين بقصيدته “سفر الخروج”، التي تترجم تلك الكلمة السحرية بفاعلية، متحدية آلة الدمار، من نار وحديد وبارود وكلاب بوليسية ومدرعات تدهس من يقولها:

لا تصالحْ!

ولو منحوك الذهبْ

أترى حين أفقأ عينيكَ

ثم أثبت جوهرتين مكانهما..

هل ترى..؟

هي أشياء لا تشترى..

ويواصل أمل زرع مبرراته كي يكون الإنسان شجاعًا ولا يهاب شيئًا من أجل الحرية:

لا تصالح.. ولو توّجوك بتاج الإمارة

كيف تخطو على جثة ابن أبيك

وكيف تصير المليك.. على أوجه البهجة المستعارة

كيف تنظر في يدي من صافحوك، فلا تبصر الدم في كل كف..

لا تصالح.. فليس سوى أن تريد

أنت فارس هذا الزمان الوحيد

وسواك المسوخ!

لا تصالح…

في كتابها «الجنوبي – أمل دنقل»، رسمتْ عبلة الرّويني صورة بالغة الدلالة، صورة عميقة لأمل دنقل، هي التي عايشته زوجة وصديقة، حتى يومه الأخير، ولم يتغير أمل منذ اللقاء الأول الذي جمعهما، حتى آخر قصيدة كتبها. كان يقول: «أنا أعتبر أن الشعر يجب أن يكون في موقف المعارضة، حتى لو تحققتْ القيم التي يحلم بها الشاعر، لأن الشعر هو حلم بمستقبل أجمل، والواقع لا يكون جميلاً إلا في عيون السذج».


  • شعره

كانت أول قصائد نشرت لدنقل في حياته، هي الأبيات التي قام بكتابتها عندما كان طالبا بالمرحلة الثانوية، ونشرت في مجلة مدرسة قنا الثانوية عام 1956م، بينما صدر ديوانه الأول عام 1969 بعنوان “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” وهو الديوان الذي اشتهر به دنقل من المحيط إلى الخليج بعد أن نقل أوجاع المواطن العربي على احتلال سيناء والجولان عام 1967م، وشحذت كلمات دنقل النفسية العربية للمقاومة حتى الوصول إلى نصر أكتوبر 1973م

التقى أمل دنقل بالكاتبة الصحفية الكبيرة “عبلة الرويني” عام 1976م، وتزوجا عام 1978م.


  • أعماله

أعمال أمل دنقل قليلة مثل عمره القصير، ولكنها أعمال متميزة بما تنطوي عليه من إنجاز ودلالة، ابتداء من ديوان “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” بيروت 1969م الذي لفت إليه أنظار الأمة العربية عام 1969، وكان بمثابة احتجاج وإدانة للعالم الذي أدى إلى هزيمة يونيو 1967، ومرورًا بديوان “تعليق على ما حدث” عام 1971 الذي كان استمرارًا لاتجاه الديوان الأول، “مقتل القمر” بيروت 1974، وكذلك ديوان “العهد الآتي” الذي صدر عام 1975 والذي وصلت فيه تقنية الشاعر إلى ذروة اكتمالها، وأخيرًا ديوان “أوراق الغرفة (8)” عام 1983، وقد أصدره أصدقاء الشاعر بعد وفاته بشهور، شأنه في ذلك شأن “أقوال جديدة عن حرب البسوس” الذي صدر عن دار المستقبل العربي في القاهرة عام 1984، قبيل نشر الأعمال الكاملة.


خاص لمجلة فكر الثقافية 

بالعربيّة

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى