شعر

شِعْرِيّة المتَنبِّي بيْنَ السُّؤَال الجمَالي والهَمّ الوُجُوديّ

د. الحسين اخْليفة/ د.خديجة منير

  • توطئة 

تتأسس شعرية أبي الطيب المتنبي (354هـ) في جانب منها، على رؤيته الفكرية وقلقه الوجودي الذي يطفح بين ثنايا ألفاظه وأساليبه وعباراته الشعرية. ولعل ذلك ما يسوغ تكثيفه من الأسلوب الاستفهامي بأدوات مختلفة. غير خاف أن لفظ الاستفهام تتنازعه علوم مختلفة، فيتنوع محتواه المفهومي تبعًا لذلك من علم إلى آخر.

فقد تناوله الفلاسفة والمناطقة وعلماء الكلام، كما تناوله النحاة واللسانيون والبلاغيون وعلماء أصول الفقه. هكذا تعددت مستويات دراسته، وتنوعت قضاياه وظواهره وأدواته.


ويتنوع الاستفهام من ناحية علاقته بالإجابة وفق منظور البلاغة القديمة، إلى استفهام “تصوري” و”تصديقي”، وبذلك نفترض أن يهيمن في شعر أبي الطيب الاستفهام التصوري الذي يستقصي حقائق الأشياء، ويكتنه أعماقها الوجودية وأبعادها الزمنية؛ مما يدعو إلى النبش في الخلفيات الفكرية والمرجعية والامتدادات الفلسفية التي توجِّه معانيه وصوره وأخيلته واستيهاماته.


ومن هذا المنظور تتبدى ملامح الجدل بين الهمّ الوجودي والملمح الفكري المؤطِّر للذات الشاعرة، وبين السؤال اللغوي الجمالي والمنزع البديع في تشكيل شعريته، وجعلها مشرعَة على عوالم متخيلة رحيبة وآفاق تأويلية خصيبة، مثلما تروم هذه الدراسة مقاربته مقاربة أسلوبية.


  • 1 – في الأسلوب والأسلوبية  

يفيد الأسلوب معنى «الطريق، والوجه، والمذهب، ويُجمع أساليب. والأسلوب كذلك الفن، أخذ فلان في أساليب من القول، أي أفانين منه. ويقال للسطر من النخيل: أسلوب، وكل طريق ممتد فهو أسلوب»(1).

واضح من هذه الإشارة النصيَّة الغنى الدلالي للفظ الأسلوب عند القدامى، قبل أن يزداد سعة وثراء في عصرنا الراهن؛ حيث «يتحدث عن الأسلوب في الموضة، والفن، والموسيقى، وتدبير الحياة، وفي المائدة، والسياسة…إلخ»(2).

وموازاة مع هذا المعنى العام للأسلوب، فإن له معنى خاصًا ينحصر في طريقة الكاتب في الكتابة، والتعبير عن أفكاره وإيصالها. وهذا ما يستشف من إشارة محمد التونجي إلى أنه «طريقة يستخدمها الكاتب ليبين رأيه أو يعبر عن موقفه، بألفاظ مؤلفة على صورة تكون أقرب لنيل الغرض المقصود من الكلام، وأفعل في نفس قارئه أو سامعه.

فتعرف شخصية صاحب هذا الأسلوب، وتتميز باختيار المفردات، وانتقاء التراكيب لأداء أفكاره حق أدائها»(3)  ويقربنا عبدالقاهر الجرجاني (ت 471هـ) من الأسلوب في بعده الإبداعي الأدبي بقوله: «الأسلوب هو الضرب من النظم والطريقة فيه»(4).

الأسلوب إذًا، نظام محكم ومنهج متقن، يعتمده الأديب أو الكاتب عامة في فن القول والتعبير. وتبعا لذلك، فإن إدراك مقصدية المبدع ودلالة نظامه اللغوي، يقتضي من المحلل التسلح بعقل نيِّر، وحدس متيقظ، حتى يتسنى له النفاذ إلى ما وراء الألفاظ والعبارات من دلالات.


ولقد انعقدت ندوة عالمية في سنة ستين وتسعمائة وألف بجامعة آنديانا بالولايات المتحدة، وكان محورها (الأسلوب)، وحضرها نقاد الأدب وعلماء الاجتماع والنفس واللسانيون. ومنهم رومان ياكوبصون 1896-1982 Roman Jakobson الذي ألقى محاضرة حول (اللسانيات والإنشائية)، فدعا إلى مد الجسر وتمتينه بين اللسانيات والأدب.

ثم تبلور في العقود الأخيرة علم، يأخذ على عاتقه دراسة الأسلوب دراسة علمية، ويتعلق بـ«الأسلوبية La stylistique»، التي تعرف عادة بأنها الدراسة العلمية للأسلوب؛ أي أسلوب كان، لا الأسلوب الأدبي وحده.

ويعرفها شارل بالي Charles bally 1865 – 1947 في كتابه المنشور 1902 تحت عنوان (بحث في علم الأسلوب الفرنسي) – بكونها «العلم الذي يدرس وقائع التعبير اللغوي من زاوية محتواها الشعوري؛ أي التعبير عن واقع الحساسية الشعورية من خلال اللغة، وواقع اللغة عبر هذه الحساسية»(5).

ذلك أنها تقوم على جرد الإمكانات والطاقات التعبيرية للغة جردًا موضوعيًا، يروم «الوصول إلى وصف وتقييم علمي محدد لجماليات التعبير، في مجال الدراسات الأدبية واللغوية على نحو خاص، ولا تكاد تتعداها إلى غيرها من المجالات»(6).


ارتبطت الأسلوبية ارتباطًا وثيقًا باللسانيات التي وضع أسسها فرديناند دي سوسير، Ferdinand de Saussure 1857 – 1913، لما أقام تمييزًا بين اللغة والكلام. ذلك أن «اللغة ليست وظيفة الفرد، بل هي نتاج يهضمه الفرد بصورة سلبية (…).

أما الكلام، فعلى العكس من ذلك فعل فردي، وهو عقلي مقصود»(7). وكانت الأسلوبية تركز على طريقة استخدام المتكلم للغة في تأديتها للمعنى، استخدامًا قائمًا على الانتقاء والانزياح والغرابة. ومن هنا مكمن الاختلاف بين علم اللغة وعلم الأسلوب أو الأسلوبية، فضلاً عن اهتمام علم اللغة أو اللسانيات بالجملة، واهتمام الأسلوبية بالإنتاج الكلي للكلام؛ سواء كان أدبيًا أو عاديًا.

وتلزم الإشارة في هذا الصدد إلى أن شارل بالي -مؤسس الأسلوبية التعبيرية بفرنسا- ينحدر من معطف سوسير نفسه، بوصفه خليفةً له في كرسي علم اللغة العام بجامعة جنيف. 


ويقوم التحليل اللغوي والأسلوبي على سبر أغوار النص، والوقوف على نسيجه اللغوي المحكم، وملامسة وجوه حبكته، ومقتضيات الصنعة فيه. وهذا النوع من التحليل يعد -فيما نحسب- الأنسب لدراسة الأدب العربي القديم عامة، والشعر منه خاصة؛ حيث برهن على نجاعته وفعاليته، وقدرته على بلوغ الآفاق الجمالية والوجدانية في النصوص المدروسة. وفي ضوء هذا الفهم، حاولنا تشغيل بعض إمكاناته الإجرائية ومفاهيمه العلمية لمقاربة الموضوع.


  • 2 – حرقة السؤال ووجع الواقع

من يمعن النظر في البنيات الشعرية القائمة على الأسلوب الاستفهامي في المنجز الشعري عند المتنبي، سيفطن إلى أنه كان قناة تواصلية أسعفته إلى حد بعيد، على نفث زفرات قلبه، وكشف لواعج صدره وفكره، ونقل أحلامه وتطلعاته، وتصوير احتجاجه ضد جميع مظاهر القبح والسقوط والهزيمة والنكوص والخمول الرائجة في زمنه.

وهكذا، فإن من الوظائف الدلالية والأدوار الفكرية التي يؤديها السؤال بالهمزة، هي التعبير عن الرفض، واستنكار مواقف وحالات ووقائع لا يرضى عنها. فقد تعجب متسائلاً مستنكرًا: كيف يتطاول عليه بعد الشعراء الذين دونه مكانة، فيسعون إلى منافسته في شاعريته؟ معتمدًا في ذلك الاستفهام بالهمزة، وقاعدة التصغير في قوله:

أَفِي كُلِّ يوْمٍ تحْتَ ضِبْني شُوَيْعِرٌ

                        ضَعيفٌ يقَاوِيني قَصيرٌ يُطاولُ(8)

يفيد السؤال في البيت معنى التعجب والإنكار؛ بمعنى «أفي كل يوم يتمرس بي شُوَيْعر ضعيف في صناعته قصير في معرفته، فأراه يباريني في القوة، وهو لا قوة له، ويطاولني وهو قصير أحمله»(9). وفي ذلك ما فيه من دلالة عميقة على «حقارة ذلك الشاعر، حتى لو أراد أن يحمله تحت ضبنه لقدر على ذلك»(10).

واستخدم لفظ «الشُّوَيْعر» مصغَّرًا للإيغال في تحقيره، والتنقيص منه، وتشويه صورته؛ مما من شأنه أن يجسد المفارقة الصارخة بينه وبين من يسعى إلى منافسته ومضاهاته. وكلما قام بإشهار مناقبه، وتعظيم شأنه، ورفع مكانته، نقص من قيمة أنداده وخصومه ومنافسيه، متخذًا من الظواهر الأسلوبية المختلفة التي تمنحها له اللغة؛ كظاهرة التصغير، والتقديم والتأخير، والاستفهام، وسيلته المفضلة.


ويرمي هذا اللون الاستفهامي كذلك، إلى التعبير عن استغرابه من بعض الحقائق التي تحيط به. ويمكن أن نمثل لذلك بقوله:

أمِنْ كلِّ شَيْءٍ بلَغْتَ المـرَادَا  

                          وفي كُلِّ شأْوٍ شأَوْتَ الْعبَادَا(11)

فهو يتعجب مما بلغه مخاطبه من مراقي الرفعة وعلو المنزلة، فيقول: «قد بلغت المراد من كل شيء، وبلغت الغاية حتى سبقت بني آدم في كل غاية»(12). وتكمن مناسبة البيت السابق في إطلاق أبي محمد الباشق سهمه «على سُمَاناة(13) فأخذها»، وعضد المتنبي هذا المعنى بالاستفهام مرة ثانية مكررا، مع التنويع في الأداة:

فمَا ذَا ترَكْتَ لمنْ لـمْ يسُـدْ        

                            وما ذَا ترَكْتَ لمنْ كانَ سَادَا؟

ويشعّ صدى هذا المعنى في جل قصائده، مثلما نقرأ في بائيته التي مدح بها أبا القاسم طاهر بن الحسين بن طاهر العلوي:

إليَّ لعَمْرِي قصدُ كُلِّ عَـجِـيبةٍ   

                       كأنِّي عَجيبٌ في عُيُونِ الْعَجَائبِ

  بأيّ بلادٍ لــم أجُـــرَّ ذُؤَائبتِــي  

                          وأيُّ مكـــانٍ لم تطأْه ركَـائِبِـي(14)

يكشف البيتان عن شدة اندهاشه من كثرة تجواله وتطوافه، حتى إنه لم يترك أرضًا إلا وطأتها قدمه، ولم يترك بلدًا إلا شد الرحال إليه، مبالغة منه في التغزل بالنساء، والمشاركة في الحروب.


وتنساب هذه الطاقة الشعورية المحرقة من بين ثنايا أبيات أخرى، جاءت في داليته التي قالها قبل مغادرته مصر بيوم واحد سنة خمسين وثلاثمائة للهجرة، هاجيا كافور الإخشيدي:

-عِيــدٌ بأيَّةِ حَــالٍ عُدْتَ يا عِيــــدُ

                     بمَا مَضَى أمْ لأمْرٍ فيكَ تجْـــديدُ..؟

-ياسَــــاقييَ أخمرٌ في كؤُوسـكُمــَا

                      أم في كؤُوسِــــكـمَا هَمٌّ وتَسْهيــدُ؟

-أصَخْــرةٌ أنَا، مَا لي لا تُحَـرِّكُـني

                       هذِي المدامُ ولا هَــذِي الأَغَـارِيدُ؟

 -منْ عَلَّمَ الأسْودَ الْمخصيَّ مكرمةً

                     أقوْمُهُ البيضُ أمْ آباؤُه الصِّيـــدُ؟(15)

فلقد استثمر السؤال بوساطة الهمزة استثمارًا مكثفًا في هذه الأبيات (بمَا مَضَى أمْ لأمْرٍ..؟/ أخمرٌ في كؤُوسكُمَا أم في كؤُوسِكمَا..؟/ أصَخْرةٌ أنَا..؟/ .. أقوْمُهُ البيضُ أمْ آباؤُه الصِّيدُ أم..؟). ووردت الهمزة الاستفهامية في الشاهد الأول محذوفة؛ إذ الأصل هو (أبما مضى…؟). وغير خاف أن الهمزة «يجوز حذفها إذا دلت عليها قرينة، كورود (أم) المعادلة»(16).

واللافت للنظر أن أسلوبية الاستفهام عند المتنبي تكون معضودة بأسلوبيات أخرى متنوعة، يجيد تنسيقها وتناسقها. من ذلك أنه عضد هذه الأسلوبية بأسلوبية التقديم والتأخير، لما قدم صورة العيد على عودته ورجوعه؛ لأن ما يهم هو ما يمكن أن يحمله من هم وفرح جديد، بناء على أن «العيد ما يعتاد من نوب وشوق وهم ونحوه»(17).

يقول أبو البقاء العكبري: «يريد أن العيد لم يسر بقدومه، لأنه يتأسف على بعد أحبته. يقول أما أحبتي فعلى البعد مني، فليتك يا عيد كنت بعيدًا، وكان بيني وبينك من البعد ضعف ما بيني وبين الأحبة»(18).


يراود الحنين الشاعر إلى يوم عيد يحمل البسمة والفرحة إلى نفسه؛ محققا بذلك ما يطمح إليه من تغيير وتجديد وغد أفضل، خاصة بعدما أصيب بخيبة أمل وسوء حظ وإخفاق في الحصول على منصب سياسي، يليق بمكانته الأدبية والثقافية.

ومن هذا المنطلق نتساءل كذلك: ألا يحمل البيت في طياته إخفاقًا عربيًا، وتدهورا للدولة العربية والجنس العربي؟ ثم أوَلا يحق لنا القول إن المشروع الشعري للمتنبي، ما هو إلا محاولة في نهاية المطاف لتحريك الهمم وإيقاظ العزائم، وتذكيرها بعزها وأمجادها، وإصلاح ما يمكن إصلاحه؟

نظن أن في الشاهد الشعري الآتي -كما جاء في جيميته التي مدح بها مدح سيف الدولة، وقد اصطفّ الجيش حوله- شيء من الإجابة عن هذا التساؤل:

أبِالْغَمَراتِ تُوعِدُنا النَّصَارى  

                         ونحْنُ نُجومُها وهيَ البرُوجُ؟(19)

اجتمعت في البيت أسلوبيات متباينة تنزع مجتمعة منزعًا دلاليًا واحدًا، يترجم قلق الشاعر وهمه الوجودي. إذ نجد أسلوبية التقديم والتأخير في البيت بتقديمه (بالغمرات) على (توعدنا). وتعني الغمرات الشدائد والصعاب والخطوب المتصلة بالحرب، موظفًا صيغة الجمع لبيان كثرتها وعظمها.

ولما كانت الحرب في نظره خاصية ملازمة لقومه، فإن التهديد والإيعاد بالحرب من لدن النصارى أمر لا معنى له، وهو ما تجسده أسلوبية الاستفهام. ولتجسيد هذا المعنى وتصويره، وظف أسلوبية أخرى هي أسلوبية التشبيه عند قوله: (ونحن نجومها، وهي البروج). وهو تشبيه صور من خلاله اعتياد قومه للحروب، وتعودهم على مقارعة الأعداء وتحقيق نشوة النصر كل مرة؛ وكأنهم النجوم الملازمة لبروجها، لا تفارقها، وتبقى علاوة على ذلك ساطعة لامعة.

ثم سند الهمزة بأدوات استفهامية أخرى مثل «مَن» في قوله في البيت الرابع (منْ عَلَّمَ الأسْودَ الْمخصيَّ مكرمةً؟)، و«ما» في قوله:

ماذَا لقيتُ من الدنيا وأعجبُـه  

                        أني بما أنَـا شَاك منهُ محسُـودُ؟

و«كيف» في قوله:

وذاك أن الفُحـولَ عاجِـزةٌ 

                عن الجَميل، فكيْف الخِصْيةُ السُّودُ؟

ويقول أبو الطيب في مطلع داليته التي مدح بها بدر بن عمار الأسدي الطبرستاني، لما ولاه أبو بكر محمد بن رائق سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة حرب طبرية:

أحُلْماً نَـرَى أمْ زَماناً جَديدَا   

                    أمِ الخَلْقُ في شَخصِ حيٍّ أُعيدَا(20)

ولعل السر الجمالي في هذه الصيغة الأسلوبية التي يعود الفضل للاستفهام في تشكيلها، حاصل في دوران الإجابة على التساؤل عن كل من الحلم والزمن الجديد؛ وهو ما يكون أدعى لاستفزاز المتلقي، وجعله يشحذ فكره لذلك.

إذ إن (أم المتصلة) حوَّلته من مدار معرفي إلى آخر، فجاءت (أم المنقطعة) لتصرف المتلقي عن المدارين معًا، وتفتح في وجهه أفقًا جديدًا ومغايرًا غريبًا، ينأى به عما كان مألوفًا مأنوسًا مما يدور في قرارة نفسه. ولعله أفق مسترسل مفتوح يزجّ بالقارئ في متاهاته، فيتأمل تفاصيله ودقائقه.

إن للسؤال بالهمزة إذاً وظيفة تعبيرية انفعالية، تعكس ما يمور في دواخل الشاعر من حرقة الشك والحيرة والاحتمال والاضطراب، وما يجول في خاطره من مشاعر الطموح إلى العلا والمجد، مما يفصح عن مقومات شخصيته ونزعته الوجودية. نقرأ في داليته التي مدح بها عليا بن إبراهيم التنوخي قائلاً:

أُحادٌ أَم سُـداسٌ في أُحـادِ   

                               لُيَيلَتُنـا المنوطَةُ بِالتَّنـادِ(21)

الأصل في قوله (أحاد أم سداس) هو (أَأُحَاد أم سداس)، «فحذف همزة الاستفهام للضرورة، وإن لم يكن بالفصيح»(22)، مثلما يستشف من لفظة (أم). ومدار التساؤل ليلته التي ستسفر عن يوم حرب، فصغَّرها تعظيما لشأنها وتشوقا إلى الحرب، كما استطَالها حتى إنها تعدل ليالي الدهر كله.

ومن هذا المنظور، جاز اعتبار الظواهر الأسلوبية والبلاغية عامة -بما في ذلك الاستفهام- قنوات ومداخل لدراسة شخصية المتنبي، في مناحيها وأبعادها النفسية والاجتماعية والوجودية. فهي تمثل في تقدير شكري عياد «المفاتيح التي تمكننا من الولوج إلى العالم الشعوري الكامن وراء القطعة الأدبية»(23).


  • 3 – معدِن الشعر الفلسفة

يصدق على حديثنا عن ارتواء الشعر من معين الفلسفة، واستلهامه منها عصارته الفكرية وحمولته الدلالية، قول أبي الطيب مزهوا بذاته نافيًا أن يكون من أهل زمانه، بالرغم من إقامته بين ظهرانيهم: 

ومَا أنَا منْهُم بالْعَيْشِ فيهِم  

                             ولَكِن معْدِن الذَّهَب الرّغَامُ

من البين أن الشعر يختلف عن الفلسفة في كون الشاعر يغترف مادته من عواطفه ويخصبها بخياله، في حين أن الفيلسوف يستلّها من عقله ويجنح بها مجنح الفكر، «والحقيقة أن الفكر والخيال والعاطفة ضرورية كلها للفلسفة والشعر، مع اختلاف في النسب وتغاير في المقادير»(24).

ولعل المتنبي أوفر حظًا في هذا المستوى من غيره من الشعراء، إن استثنينا أبا العلاء المعري (ت 449هـ). والحق أن أبياته التي تتأسس على أسلوبية الاستفهام بالهمزة، لا تخلو من ومضات وإشارات وجودية تتفاوت قوة وضعفًا وتوهجًا وخفوتًا، يصدر فيها عن إلمامه الواسع ومعرفته العميقة بالمذاهب والآراء الفلسفية والأديان، كما تنبثق بين ثنايا معانيه وعباراته.

ونحن لا ننكر أن تكون “فلسفته” سطحية بسيطة، لا تعقيد فيها ولا غلو. لكنها منبثقة من تجربته في الحياة، ناظمة لعصارة حكمه التي اكتسبها بالدربة والمران والاحتكاك العميق بالواقع، واختبار الأحياء في مواقفهم وعلاقاتهم، وصور تفكيرهم وأنماط سلوكهم. ومن ثمّ جاءت عملية خلقية، مؤسسة على نسق ثريّ من القيم والمثل والمبادئ والقوانين التي يبثها بواسطة أساليب إنشائية؛ مثل الاستفهام، والشرط، والتمني، والنداء، والأمر، والنهي.

ولا يمكن بحال من الأحوال للظاهرة الأسلوبية التي يؤسسها الاستفهام عامة والاستفهام بالهمزة هنا، أن تنسلخ عن السياق الثقافي والوجودي الذي يؤطرها. اتسم عصر الشاعر (القرن الهجري الرابع) بنضجه العقلي، وغليانه المعرفي، وانفتاحه على الثقافات والمعارف المختلفة.

ويكفي دليلاً على ذلك، استحضار ثلة من الأعلام الذين أثروا هذه الفترة التاريخية؛ من قبيل ابن جرير الطبري (ت 310هـ)، وأبي بكر الرازي (ت 311هـ)، وابن دريد (ت 321هـ)، والفارابي (ت 339هـ)، والمسعودي (ت 345هـ)، وأبي بكر الصولي (ت 355هـ)، وأبي علي القالي (ت 356هـ)، وأبي علي الفارسي (ت 377هـ)، والخوارزمي (ت 383هـ)، والصاحب بن عباد (385هـ)، وابن جني (ت 392هـ)، وأبي حيان التوحيدي (ت 414هـ)، وابن سينا (ت 428هـ)، واللائحة طويلة.

هكذا ارتوى المتنبي من تلك المشارب الفكرية كلها، ونهل منها ما يثري شخصيته الأدبية، ويوسع أفقه الإدراكي. فقد «نظر في كتب الفلاسفة، واستعرض بعض آرائهم وشكوكهم، كما يفهم من كثرة ما اقتبس من معاني أرسطو، ومن تردد عبارات الفلاسفة وأساليب المناطقة في شعره.

وكفى دليلاً على شيوع الاطلاع على الفلسفة اليونانية في عصره، أنه عصر الفارابي الذي لقب بالمعلم الثاني، لكثرة ما لخص وشرح من كتب أرسطو وأفلاطون وغيرهما»(25).


والمتأمل في شعره، يجده مؤثثًا بمنظومة من القيم والخلاصات والحكم والتجارب والعبر، التي تضرب بجذورها في عمق التاريخ العربي والإنساني، وتترجم رؤياه الوجودية. ويمكن استحضار ما قاله عنه ضياء الدين بن الأثير (ت 637هـ): «حظي في شعره بالحكم والأمثال»(26).

وقد اعتبره -بمعية أبي تمام (ت 231هـ) وأبي عبادة البحتري (ت 284هـ)- «لاتَ الشعر وعُزَّاه ومناته الذين ظهرت على أيديهم حسناته ومستحسناته، وقد حوت أشعارهم غرابة المحدثين»(27). ومن هذا المنطلق، كان جوابه لما سئل عن موقفه من شعره وشعر قرنيْه: «أنا وأبو تمام حكيمان، والشاعر البحتري»(28).

شغلت هذه الرؤيا الوجودية النقاد القدامى، فراحوا يقلبون فيها النظر من زواياها المختلفة. من ذلك ما قام به أبو علي محمد بن الحسن الحاتمي (ت 388هـ)، لما استقصى الأبيات الشعرية التي وافقت معانيها بعض معاني الفيلسوف أرسطو، فأورد المعنى كما هو وراد عند أرسطو مقرونًا بالبيت الشعري الذي يوافقه فيه.

وحصيلة مجهود الحاتمي أنه ميز في التقارب الحاصل بين أرسطو والمتنبي بين صورتين: الصورة الأولى أن يكون ذلك من باب توارد الخواطر ووقوع الحافر على الحافر، وفي هذه الحالة يحصل لأبي الطيب فضل الإيجاز والقدرة على نقل تلك المعاني من سياقها الفلسفي المجرد، إلى سياقها الإبداعي الفني المتخيل.


والصورة الثانية أن يكون الشاعر قد تعمد شحن نصه بمثل هذه المعاني، فيثبت له فضل التعمق في العلوم. يقول في ذلك: «وجدنا أبا الطيب أحمد بن الحسين المتنبي قد أتى في شعره بأغراض فلسفية ومعاني منطقية، فإن كان ذلك منه عن فحص ونظر وبحث، فقد أغرق في درس العلوم. وإن يك ذلك منه على سبيل الاتفاق، فقد زاد على الفلاسفة بالإيجاز والبلاغة والألفاظ الغريبة. وهو في الحالتين على غاية من الفضل، وسبيل نهاية من النبل»(29).

كشف الحاتمي في هذا الشاهد النصي عن وجه آخر من وجوه البراعة اللغوية والبلاغية عند المتنبي -فضلاً عن مقدرته وعبقريته الفكرية- يتمثل في قدرته العجيبة على إخضاع ألفاظه ومعانيه ذات الطابع الفلسفي والمنطقي والوجودي لمقتضيات الخطاب الشعري، ومقاييسه الفنية وضوابطه التعبيرية.

ومن هذا المنطلق، اعتبره عباس محمود العقاد (ت 1384هـ) «الرجل الفرد الذي نظم في ديوان واحد ما نثرته الحياة في سائر دواوين التجارب والعظات». وخلص إلى اعتباره أحد الشعراء العظام، وتعود عظمته في تقديره إلى أمرين؛ أولهما «تتجلى في شعره صورة كاملة للطبيعة، بجمالها وجلالها وعلانيتها وأسرارها»، وثانيهما مستخلص من مجموع كلامه، الذي هو بمثابة «فلسفة للحياة، ومذهب في حقائقها وفروضها أيا كان هذا المذهب، وأيا كانت الغاية الملحوظة فيه»(30).


وإذا كان الحاتمي والعقاد نظرًا إلى هذا الملمح الوجودي الفلسفي في شعر المتنبي من زاويتين مدحيتين: غناه المعرفي ونبوغه الفني، فإن من النقاد من أثاره في معرض ما يعاب على المتنبي، فنظر إليه بذلك نظرة قدحية. معايب شعر المتنبي ونقائصه في تقدير النقاد والدارسين عديدة، منها الخروج عن طريق الشعر إلى طريق الفلسفة. يقول القاضي الجرجاني مشيرًا إلى هذا المعنى: «وإنما تجد له المعنى الذي لم يسبقه الشعراء إليه، إذا دقق فخرج عن رسم الشعر إلى طريق الفلسفة»(31). 

و«منها امتثال ألفاظ المتصوفة، واستعمال كلماتهم المعقدة ومعانيهم المغلقة»(32). وما قيل عن استثماره للمعاني الفلسفية والصوفية، يسري كذلك على التكثيف من الأمثال والعظات والشكوى من الزمان وأهله. ويتم ذلك في تقدير البديعي بـ«إرسال المثل، والاستملاء على لسان التجربة في البيت والبيتين فصاعدًا، وحسن التصرف في الحكمة والموعظة، وشكوى الدهر والدنيا والناس، وما يجري مجراها»(33).

ومن الشواهد الشعرية التي مثل بها لذلك، قول المتنبي في لاميته التي يرثي بها أخت سيف الدولة، ويسليه بأخته الكبرى الباقية على قيد الحياة، كما يستشف من مطلعها:


إنْ يكُنْ صبْرُ ذِي الرَّزِيئةِ فضْلاً   

                                تكُنِ الأفْضلَ الأعَزَّ الأَجَلا

وما يعنينا من القصيدة البيت الآتي، الذي أسهمت الهمزة في تشكيل معماره الأسلوبي والدلالي:

شيَمُ الغَانياتِ فيهَا فَما أدْ  

                      رِي لذا أنَّثَ اسمَها النَّاسُ أمْ لا(34)

فقد عقد فيه علاقة مشابهة بين حال الدنيا وحال النساء في الممانعة والرفض، ونقض العهود والمواثيق، ففتح بذلك أفقا أرحب للمقارنة بين الطرفين، وتمثل صور التداخل بينهما. والغريب في البيت هو تساؤله تساؤلاً إنكاريًا عن السر الثاوي وراء تأنيث الدنيا، مستخدما الهمزة (أأنَّث).

نقرأ في شرح عبدالرحمن البرقوقي للبيت: «يقول شيمة الدنيا كشيمة النساء، فالنساء لا يدمنّ على الوصل ولا يحفظن العهد؛ وكذلك الدنيا. ثم قال: ولست أدري ألهذه المشابهة جعل الناس اسمها مؤنثًا»(35).


  • خاتمة

وبالجملة، فإن أبا الطيب المتنبي يتصف بشخصيته المحيرة المثيرة للجدل والدهَش، التوَّاقة إلى العظمة والعلا والكبرياء والأنفة والطموح والمجد، الأمر الذي يستوجب القلق الوجودي المتجدد، والسعي المستمر لزعزعة الكائن واستشراف الممكن. ولعلها سمات كشفت عنها أسلوبيته الاستفهامية القائمة على جمالية السؤال، كما تمثل قوام شعريّته وعماد تميزها وتفردها في تقديرنا.

إن رؤية المتنبي للواقع العربي المتأزم جراء تدهور الإمبراطورية العباسية، ونتيجة ما أصابها من تشتت وتمزق وتهافت على السلطة والحكم، عميقة وشاملة. فلما تقاسم البويهيون في العراق وفارس، والإخشيديون في مصر، والحمدانيون في الشام تركة «الرجل المريض»، وغدا القوم يفكرون في النزعات والنزوات الشخصية والأهواء السياسية والمصالح «الطائفية» الضيقة، ظهر أبو الطيب حاملاً لواء تحصين الذات، وصون دعائم العروبة، وترسيخ أسس الهوية، وتثبيت مقومات الشخصية العربية.

وفي ذلك الحين، صارت الحاجة ماسة إلى التسلح بالسؤال، والتأمل في الوجود، والاستقواء باللغة التي تعد البيت الأول للشاعر. ولا غرابة وحالته تلك، أن يملأ الدنيا ويشغل الناس.


  • الهوامش والإحالات:

1 – لسان العرب، ابن منظور، دار إحياء التراث العربي، مؤسسة التاريخ العربي بيروت، ط3، 1999م/ سلب.

2 – البلاغة والأسلوبية: نحو نموذج سيميائي لتحليل النص، هنريش بليت، ترجمة محمد العمري، أفريقيا الشرق، بيروت- البيضاء، 1999م، ص51.

3 – المعجم المفصل في الأدب، دار الكتب العلمية بيروت، ط2، 1999، 1/93.

4 – دلائل الإعجاز، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي بالقاهرة، د.ط، د.ت، ص 268.

5 – نقلاً عن (علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته)، لصلاح فضل، دار الشروق القاهرة، ط1، 1998م، ص18.

6 – دراسة الأسلوب بين المعاصرة والتراث، أحمد درويش، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، د.ط، د.ت، ص20.

7 – علم اللغة العام، ترجمة يوئيل يوسف عزيز، دار آفاق عربية بغداد، ط1، 1985، ص33.

8 – ديوانه، ص 377.

9 – شرح ديوان المتنبي، عبدالرحمن البرقوقي، 3/237.

10 – ديوان أبي الطيب المتنبي بشرح العكبري، 3/117.

11 – ديوانه، ص 221.

12 – ديوان أبي الطيب المتنبي بشرح العكبري، 2/12. 

13 – السماناة: من السُّمانى، وهو جنس من الطير أكبر من العصفور. (لسان العرب، ابن منظور/ سمن). 

14 – ديوانه، ص 226.

15 – نفسه، ص 506-508.

16 – أسلوب الاستفهام في القرآن الكريم: غرضه إعرابه، عبد الكريم محمود يوسف، مطبعة الشام دمشق، ط1، 2000، ص9.

17 – لسان العرب، ابن منظور/ عود.

18 – ينظر شرحه لديوان المتنبي، المسمى بـ(التبيان في شرح الديوان)، ضبطه وصححه ووضع فهارسه مصطفى السقا، وإبراهيم الأبياري، وعبد الحفيظ شلبي، دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت، د.ط، د.ت، 2/39.

19 – ديوانه، ص 309.

20 – ديوانه، ص 133.

21 – نفسه، ص 85.

22 – شرح ديوان المتنبي، البرقوقي، 2/74.

23 – مدخل إلى علم الأسلوب، شكري محمد عياد، مكتبة مبارك العامة الجيزة، ط1، 1413هـ -1992م، ص 46.

24 – مطالعات في الكتب والحياة، عباس محمود العقاد، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، ط1، 2013، ص 132.

25 – مطالعات في الكتب والحياة، العقاد، ص 128.

26 – المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، ابن الأثير، تحقيق: أحمد الحوفي وبدوي طبانة، دار نهضة مصر للطبع والنشر الفجالة القاهرة، ط2، د.ت، 3/227-228.

27 – نفسه، 3/226.

28 – نفسه، 3/227.

29 – الرسالة الحاتمية (فيما وافق المتنبي في شعره كلام أرسطو في الحكمة)، تحقيق فؤاد أفرم البستاني، مجلة المشرق، المطبعة الكاثوليكية بيروت، العدد 2، السنة 29، 1931م، ص275.

30 – مطالعات في الكتب والحياة، ص 128.

31 – الوساطة بين المتنبي وخصومه، ص182.

32 – الصبح المنبي عن حيثية المتنبي، الشيخ يوسف البديعي، تحقيق مصطفى الشقا ومحمد شتا، دار المعارف القاهرة، ط3، د.ت، ص384، وانظر كذلك (يتيمة الدهر) للثعالبي، ص213.

33 – نفسه، ص450.

34 – ديوانه، ص407.

35 – شرح ديوان المتنبي، 3/251.


مجلة فكر الثقافية

د.الحسين اخْليفة

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى