حصاد الشِعر عربيًا عام 2021.. ردّ مُضاعف على الموت
في رسالته إلى الشاعر الشاب كابوس يكتب شاعر العزلة ريلكه: “عزيزي كابوس، أحِبًّ عزلتك، وتحمّل الألم الذي تسبّبه لك. فما ثمن هذا الألم الذي ندفعه في تحمّل تلك العزلة؟ لأن الناس القريبون منك بعيدون عنك، كما تقول لي، هذا يدل على أنك تخلق فضاء واسعًا حولك. كل خطواتي أشعر وكأنني أسير في الرمال المتحركة..
أنا وحيد جدًا لدرجة أن الموت قد يغلبني فجأة .. ما نحتاجه، بعد كل شيء، هو فقط: العزلة، العزلة الداخلية الواسعة، العزلة هي المكان الأصعب الذي يجب أن يتعلّمه الشاعر كي يكون ذاته”. لم تكن العزلة التي حثّ ريلكه كابوس عليها، حالة عرضية في حياة ريلكه، بل هي وحدة نمت معه وكبرت مع مرور السنين وكانت من بين الشروط المسبقة للكتابة بالنسبة إليه.
وإن سألْنا أي شاعر عربي ما الذي حرّك فيك هذه الغزارة بالكتابة في السنتين الأخيرتين، سيجيب قطعًا “العزلة التي فرضتها جائحة كورونا وأشياء أخرى”. هذه العزلة التي حفّزت الكثير من الكتّاب لتحويلها إلى لغة شعرية يمكن من خلالها أن يتعرّف القارئ كيف تبدّى بوضوح قلق الشاعر ووحدته الوجودية في مقابل بشاعة العالم وعبثيته. وكأن هذه اللغة الشعرية هي ردّ إضافي ومضاعف على الموت الذي تكاثر مع تصاعد الوباء.
وقدّم لنا عام 2021 كتبًا شعرية عديدة لشعراء منهم من كانوا قد توقفوا عن كتابة الشعر لسنوات، وكانت كتاباتهم بمثابة التقاط الحياة من براثن الموت المختبئ بين جدرانها. نعرض هنا لعدد من هذه الكتب التي صدرت خلال العام الذي يوشك أن ينقضي.
- العزلة للبقاء على قيد الحياة
بعد غياب لأكثر من خمسة عشر عامًا عن كتابة الشعر، إذ بأحد رواد الحداثة الشعرية الأولى في بيروت يفاجئنا بكتاب شعري بعنوان “عندنا الآهة والأغنية وجارنا المطرب الصدى” (دار نلسن، بيروت)، لم يبتعد شوقي أبي شقرا (لبنان، 86 عامًا) فيه عن البُعد البريتوني الذي دمغ كتاباته منذ البداية متأثرًا بأندريه بريتون وفيليب سوبو وبول إيلوار، وعلى ذات النَفَس الريفي والطفولي الذي يشبه روح هذا الشاعر سيكمل صاحب “ماء إلى حصان العائلة” كتابة تأملاته في هذا العالم: “ثوبنا السموكينغ والمأتم يصب علينا/ ينبوع البندق وخواطر الأحزان/ ودلعونة السر زوجة الغائب/ وقفازنا عزاء السير في البراري ولا راحة/ ولا دمعة ولا فذلكة ولا أي ملح من المآقي/ لئلا سوف يغلبنا الماردلك الأزرق”.
وسيرسل سيف الرحبي (عمان) أوراقه لنا في كتاب “في النور المنبعث من نبوءة الغراب” (منشورات الجمل، بيروت) على طريقة المونولوغ يحكي فيها يومياته شعرًا ونثرًا من داخل عزلته الكورونية التي تجمّع فيها الزمن كله، بمفردات من القلق النفسي والبحث عن معنى للوجود، ومن خلال نصوصه هذه يطرح أكثر القضايا الإنسانية ألمًا التي اقترحها هذا العالم المظلم علينا. يقول الرحبي في كتابه: “من أخطأه سهم الموت/ أصابه سهم الحياة المسموم/ إلى أين تهرب من هذا الحصار”، ويقول أيضًا: “الطفل الذي شهد ميلاد العالم والأبدية سيشهد يوم النشور والقيامة/ بعينيّ نسر يحلق فوق الحشود الذاهبة إلى آخرتها/ إلى أحلام النعمة وهذيانات الجحيم”.
أما عباس بيضون (لبنان)، أحد رواد الحداثة الشعرية الثانية في بيروت والذي أنقذته الكتابة من العزلة، فقد أصدر كتابه الشعري “الحياة تحت الصفر” (دار نوفل- هاشيت أنطوان، بيروت)، كَتَبه دفعة واحدة وبغزارة مرتدًا على وباء حوّل حياتنا إلى تكرارات نسحبها من يوم إلى يوم، وصارت فيه العزلة شرطًا أساسيًا ليس للكتابة فقط بل للبقاء على قيد الحياة، يكتب بيضون: “منفيّ إلى غرفتي أجرّ أنا كسيحة/ من أمام التلفزيون أسجيها إلى السرير حيث يبدأ عذابها مع الوقت”، ثم يقول “نحن فقط ما يمكن جمعه من أمسيات العزلة/ ما يمكن أن يكون بقي على المائدة/ ما أهملته الذاكرة وما قد يكون عرّاه النسيان”.
كتب عباس بيضون الرواية أيضًا هذا العام فأصدر “علب الرغبة” (دار العين للنشر، القاهرة) التي تحكي عن فتاة أُرغمت على الزواج من رجل لا تحبه وكانت لها علاقة مع أحد جيرانها، إلا أن بيضون سيكتب هذه الحادثة من ضمن كتابته عن بيروت بأجوائها السياسية المشحونة التي لا تنتهي مستعيدًا تناقضات الحرب اللبنانية والبحث عن الأمان وسط الصراعات المتعددة.
أيضًا سيكتب سليم بركات (سورية) في العام 2021 الشعر “الشظايا الخمسمائة- أين يمضي الذي لا تلمَسُهُ يداي؟” (دار المدى، بغداد) وكذلك الرواية “الثلوج أكثر خداعًا في غابات التنوب” (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمّان).
وجاء كتابه الشعري مغايرًا لمطولاته الشعرية على شكل ومضات من عدد من الأسطر أو سطر واحد أو جملة واحدة طويلة، مكثّفًا برؤياه وتأملاته للوجود البشري: “حياةٌ مرآبُ مركبات تُستأجر/ ومقامٌ للأمم العناكب/ إنها الحياةُ أساءتْ فهمي/ فأسأتُ فهمَها عن قصدٍ يُرْضي”. ويقول: “مرحى للجريمةِ قبل حدوثها/ مرحى لها بعد حدوثها/ الجرائمُ متكاملةٌ عناقيدَ تتدلى من دوالي السفوح../ مرحى للوجود لن يختبئ من تَرَفهِ وجودًا/ مرحى للعدم لن يختبئَ من تَرَفه عدمًا/ مرحى لي: سأختبئ أنَّى وجدتُ مكانًا لا موضع لتَرف الموت فيه”.
أما روايته فتحكي عن شاب يواجه محنة فيهرب من مواجهة نفسه إلى عزلة في الغابة لأسبوع في وقت شتوي مثلج ليس للنزهات. وحين ينتهي أسبوع عزلته في ملجأ صغير بدائي الصنع، ويستنفد ما معه من طعام يحاول العودة إلى بلدته، لكنه لا يهتدي إلى طريق الخروج من الغابة. هنا تبدأ رحلة الجوع والبرد والضياع لأيام مليئة بالهواجس والتهيؤات والوحشة وكأنها رحلة في الجحيم واللاعودة.
وأصدر زاهر الغافري (عمان) هذا العام كتابه الشعري “هذيان نابليون.. ولعلنا سنزداد جمالًا بعد الموت” (دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع، الأردن) وقدّم له أدونيس قائلًا عنه: “يدخل الغافري إلى هذا العالم طارحًا تساؤلات لا يعرف أحد أن يجيب عليها، ذلك أنه يدخل شاعرًا، لا أيديولوجيًا، ولا دينيًا، ولا سياسيًا ومثل هذه التساؤلات أساس أولُّ لكل شعرية خلّاقة.
يدخل الغافري مُختَرِقًا تلك الثّقافة العربيّة السّائدة، والتي لا تفتح إلاّ الطّرقَ التي تخدع الضّوء. يدخل كمثل ما فعلَ فنّانو الحداثة في الأشياء والأفكارـ تكعيبًا وتجريدًا، ودادائيّةً، وكمثل ما فعل الأسلاف العرب الخلاّقون، تَصَوُّفًا، وتَفَلْسُفًا، شعرًا وعِلْمًا.. مُعيدًا بهذا كلِّه، تكوين الواقع وأشيائه، تأسيسًا لفَهمٍ جديدٍ للعالم ولقراءةٍ جديدة، وتَذَوُّقٍ جماليٍّ جديد للشعر وللعالم”.
ويكتب الغافري في كتابه: “في المشفى الذي أدخلَني الحوذيون فيه فقدتُ كلماتي.. وكنتُ كلما أحاول أن أصرخَ يخرجُ من لساني صوتُ.. آكل النمل كان المكان سجنًا صغيرًا لكن بممرات هائلة.. هذه هي المتاهة بين الأرض والسماء عندها أبدأ التفكير.. بالخروج من النافذة كأن حياتي كلها بدأت في مقبرة ليس.. عودة واستسلامًا لكي أضمن السلام العقلُ مشدودٌ إلى لا.. أحد لكن لماذا أرى في هذا الليل التلالَ البعيدة تحت نجومٍ.. بالكاد تُشعلُ قنديلًا واحدًا لماذا لا أسمع سوى صوتِ الصمت.. يرشحُ من أنفاسي الثقيلة هل أنا نائمٌ في بئرٍ تُغطيني الطحالبُ..
هل أمشي في الممراتِ مأخوذًا بأرضٍ لم تكن أرضي..غريبٌ في أروقة الزمان لستُ قلقًا على حياتي أقلقُ.. عندما لا أجد الطريق المسعى الذي يدبّر لي إطلالةً.. على هتافات الأبطال اليونانيين.. كنتُ أقول أنا نابليون”.
- بيروت وفلسطين
وفي الذكرى السنوية الأولى لانفجار مرفأ بيروت سيكتب عقل العويط (لبنان) في عام 2021 “آب أقسى الشهور يشعل الليلك في الأرض الخراب” (دار نلسن، بيروت) يبدأها بمطولة شعرية معنونة “الأرض الخراب” في ردّ على قصيدة ت. س. إليوت التي جاءت ردًا على خيبة جيل الحرب العالمية الأولى قبل مئة عام، ويحدّثه فيها عن خراب بيروت ويحاججه عن الأرض اليباب، ومؤرخًا لأوجاع هذه المدينة وموتها الذي يجيء على دفعات: “افهمني جيدًا يا ت. س. إليوت.. لم نحظَ من الشهور إلا بالحرائق، ولا من الحكام إلا بالحثالة، ولا من الأنهر إلا بالدفق من المراحيض، ولا من البحار إلا بالجيف مناظر حتى الطوفان.
أرضك ملوك وملكات، أرضنا عنابر نيترات وضرائح بيوت.. أنا لا أبكي، أدفن موتاي بدون طقوس.. ما رأيت مدينة ثكلى مثلها.. ألم أقل لك إن نيسان ليس أقسى الشهور، بل آب، الموتى يملأون البر والبحر ومن نجا من الموت لبث يبحث عن مجاذيف أو ظلال تنقله إلى ضرائح آمنة. لكن المجاذيف والظلال كلها مهشمة ومرتعبة أيها الشاعر”.
وفي الذكرى الأولى لانفجار مرفأ بيروت أيضًا قدّم عبده وازن (لبنان) كتابه الشعري “بيروت 4 آب/ أغسطس الساعة السادسة مساءً” (منشورات لانسكين، فرنسا) بثلاث لغات: العربية، الفرنسيّة بترجمة أنطوان جوكي، والإنكليزيّة بترجمة بول ستاركي، ويتضمن الكتاب قصيدة واحدة “بيروتشيما” يكتبها وازن مع قدرة مذهلة على أرشفة الألم وتسلسل الموت بلغة بصرية موجِعة وعميقة تلتقط حطام المكان وقتلاه واحدًا واحدًا، ومن القصيدة: “هيروشيما بيروتشيما/ المستشفيات تلفظ أحشاءها/ مستشفيات الساحل والضواحي/ تقذف أشباه بشر/ لم تبق أسرة فيها/ لم يبق شاش ومصل ومطهرات/ الأروقة تلطخت بالدم/ حافات الأدراج تعلوها آثار أيد/ جرحى يموتون في الهواء الطلق/ جرحى ينوحون في الهواء الطلق/ يحملون جروحهم بحثًا عن فراش/ عن ممرضة أو طبيب/ جرحى آخرون ما زالوا على أرض المرفأ/ في المنازل والغرف/ في السيارات/ جرحى ماتوا للحين/ انفقأت عيونهم/ انفلجت رؤوسهم/ صدورهم انفتحت كعلب كرتون/ جرحى تدلّوا من النوافذ/ رافعين أيديَ مدماة/ يستغيثون بأصوات خفيضة/ الفتاة ألكسندرا ماتت تحت لوح الزجاج/ الفتاة بيسان سقطت تحت سقف التنك في الكرنتينا/ أطفال ولدوا للتوّ غطّى الدم والغبار وجوههم/ في المرفأ عمال قضوا تحت جدران الأهراءات..”.
وأصدر نجوان درويش (فلسطين) “كرسي على سور عكا” (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ودار الفيل، القدس المحتلة)، وجاءت قصائده امتدادًا للألم الفلسطيني ولقلقه الداخلي بخطوط متوثّبة ونصوص بصرية في احتجاج على الوحدة والمنفى والنسيان والوجود. يكتب في إحدى قصائده: “صحيحٌ أنَّ رايات الغزاة تبدو مثلَ قذىً في العين/ لكنّي إذ أكون بين أهلها الباقين/ وأفكّر بأهلها المُبْعدين/ أُغمضُ عينيَّ/ كثيرًا أُغْمضهما/ لا قَذَىً يُمكنه أن يطالَ هذا الجَمال”، ويكتب أيضًا: “أتذكركَ في الهجران/ وأتهجّركَ بكرةً وأصيلًا/ أتهجّركَ في أماسي لا يُبصر الناس أصحابها/ أتهجّركَ وأنساكَ بلدًا يتهجّر/ من تلقاء نفسه/ بلدًا هو الهجران نفسه/ في البدء لم تكن الكلمة/ كان الهجران”.. وعلى ضريح عز الدين القسام يكتب: “يا رب/ حتى في المقبرة أقف وحيدًا”.
وأصدر صلاح بو سريف (المغرب) عمله الشعري “أنا الذئب يا يوسف” (دار أغورا للنشر، طنجة)، ويُحِيل العنوان منذ البداية على قصة النبي يوسف مع إخوته لكن المتكلم هنا هو الذئب الذي برز حاضرًا بدل الإخوة، وفي هذا العمل الشِّعْرِي يرافع الذئب عن نفسه، كما أن يوسف يخرجه من سياق الإثم الذي وضعه فيه إخوته، ليظهر العمل أن الإنسان، في نهاية المطاف، هو الذئب، كما يقول الذئب في الكتاب “الإنسان ذئب لأخيه الإنسان”.
يكتب بوسريف: “أنَا يُوسُف/ كَادَ لِي إخوتِي/ لم أرَ الذّئب/ ولا/ في ظنّي كان أن يكون دمي عالقًا بمخالبه/ الذّئب مثلي فريسة لإخوتِي/ كلانا كُنَّا في قرارة الجبّ ننتظر حتفنا/ لا/ نعرف متى الليل حلَّ/ ولا متى النَّهار مرَّ بظلمتنا”.
وأصدر عبود الجابري (العراق) “أثر من ذيل حصان” (منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العراقيين) يرسم فيه عبر صور مكثفة ملامح لمستقبل غامض بمفردات تحاكي وجع الإنسان وحريته المشروطة ومصيره المعقّد، ومحاولًا فيه التصدي للهم الإنساني على صعيد الفرد والمجتمع عبر البحث عميقًا في النفس البشرية وصراعاتها اليومية ليس من خلال النظر إليها من بعيد وإنما معايشتها من خلال انعكاسها على البنية العاطفية والإنسانية للمجتمعات.
يكتب الجابري: “مهنة قاتلة/ أن تحمل في يدك نقطة/ وتنفق حياتك/ باحثًا عن آخر السطر” و”لا أزاحمُ أحداً في قبره.. فلماذا يضيقُ بعض الموتى.. بمناجاتي للأرض كي تكون أكثر اتّساعًا؟/ لماذا يتحسّسون معاولهم../ عندما أتمنّى أن يكون ترابها رخْوًا؟/ فربّما أردتُ أن أحفر بأظافري.. بيتًا صغيرًا لنملة غريبة.. وربّما فكّرت أن أخطَّ في التراب ساقية.. لأروي عشبةً يتيمةً../ وربّما كنت فانوسًا فائضًا عن حاجة المدن.. الفارغة من أهلها”.
وأصدر غسان زقطان (فلسطين) هذا العام كتابه الشعري “غرباء بمعاطف خفيفة” (دار ملتقى الطرق، المغرب) ووفق منشور يعرّف بالديوان الجديد فإنه يتميز بـ”اشتغاله الجمالي الخاص الذي يطبع تجربة غسان زقطان على مستوى الكتابة الشعرية؛ وهي التجربة التي ’تُذكّرنا بغايات الحياة، وتحيل الظلمة إلى ضوء، والكراهية إلى حب، والموت إلى حياة، وتجعل من الأمل ممكنًا’، كما جاء في كلمة لجنة تحكيم جائزة غريفن العالمية، التي فاز بها زقطان قبل سنوات”.
يكتب زقطان: “كم كان عذبًا غناءُ المغاربةِ السابحينَ على صفحةِ النهرِ قبلَ الزوالِ، النساءُ اللواتي اتكأن على الجسرِ بين سلالِ الخضارِ وأضرحةِ الأولياءِ .. وأطفالهنَّ… الرباطُ البعيدةُ في أهلها حيث تختبئُ الأندلسْ.. الرباطُ التي كلما قلتُ أذهبُ من بهوِها أفردتُ للنوايا بساطًا .. ومدّت بساط”.
ومتأثرًا بالعزلة التي رافقت جائحة كورونا كتب جودت فخر الدين (لبنان) هذا العام “أكثر من عزلة أبعد من رحلة” (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الأردن)، وكما يشير عنوان المجموعة فالنصوص التي يتضمنها الكتاب بمثابة تأملات وتساؤلات وجودية تقلق الشاعر وتبعث فيه الهواجس والشكوك، بعد أن أتاحت له العزلة أن يرى إلى نفسه وإلى العالم بمزيدٍ من الحرية والصفاء، فكانت فسحةً للنظر البعيد والقريب، وتعكس نصوصه رؤيته للوجود في ظل الوباء.
يقول فخر الدين في حوار سابق مع “ضفة ثالثة”: “التهديد الذي جاء به الوباء، للبشرية كلّها، يجعلنا نذهبُ في تأملاتنا إلى أقصى ما يمكن، إلى التأمل في معنى الوجود، بل في أصل الوجود. يجعلنا نبحث عن الخطأ الذي يوقعنا في الخطر، ونسأل: أهو في الطبيعة أم في البشر؟”.
ويقول في كتابه: “مذ التقطَ الكونُ جرثومةَ الوقتِ/ صار مريضًا/ وليس له من علاجٍ ولا من لقاحٍ/ هما الكونُ والوقتُ طفرةُ هذا الوجود/ ترى هل هما توأمان؟/ ومن أي جرثومة؟/ أأصلهما واحد؟/ وهل الأرضُ إلا اختبارٌ وحقلُ؟/ فما يتراءى لنا عَرَضٌ والجراثيم أصْلُ”. ويكتب أيضًا: “عندما يتأتى ليَ الشعرُ أحسدُ نفسي/ ويذهبُ عني احتمالُ المرضْ/ وتحضرني الكائناتُ: لأنصحَها وأميّزَ ما بينها/ وأحدّدَ في طيّها جوهرًا أو عرضْ…عندما يتأتى ليَ الشعرُ/ تصبح نافذتي عشراتِ النوافذ”.
- تأملات.. الذات والوجود
أصدر حمد اللغافي (المغرب) المجموعة الشعرية “مثل أخطاء طفيفة” (منشورات جامعة المبدعين المغاربة) التي كتبها الشاعر كمواجهة للعزلة ووحشة الكون، وتتبدّى هذه النصوص عن تأملات في الذات والوجود والعالم.
يقول في كتابه: “لنكن لطفاء أكثر/ نَحن مُجَرّد ومضة في الكون/ تَشِعّ وتصيرُ رمادًا/ لنترك أثرًا ناعمًا على السّطح ونمضي/ معَ أوّلِ البرق/ فاغِرينَ أفواهنا لِلرّيح/الزّمَنُ هنا متوقّفٌ/ على رمشات العيونِ وأجراسِ القلوبِ/ الظّمآنة لِماءٍ الحياة”، ويقول أيضًا: “تمرّ الرياح بشتائها/ وشمسها ولا ربيع يخضرُّ من جديد/ يتشقّق الطين/ يتبلّل الطين/ تتدحرج الغيوم/ تصقل ما تبقى من حصى/ ولا ربيع ينبت في خرافة العمر/ ولا ربيع ينبت من جديد”.
وأصدر أشرف البولاقي (مصر) ديوانه “يقطر من حناجرهم جميعًا” (الهيئة المصرية العامة للكتاب) ويتضمن تسع قصائد طويلة، يقول في إحداها: “إلى هذا المُواطِنِ / يشتري كتبي/ ويرسِلُ لي تحيتَه/ ويَدفع قلبَه ثمنًا/ لكل قصيدةٍ حمقاءَ أكتبها/ غريبٌ أنني لا أعرف اسمَ أبيه/ أو عنوانَ جارتِه/ ولا لونَ القميصينِ اللذيْنِ/ يودّ لو يَشريهما/ أنا لست أعرفه تمامًا/ ربّما هو مجرمٌ/ ولعل لِحيتَه/ تشير إلى انتماءٍ مذهبيّ/ لا أميل إليه في أياميَ السوداءِ/ مَن يدري؟/ لعلّه مخبِرٌ/ عيناهُ ضيقتانِ/ شارِبُه كلَيْلِ بلادِنا/ ليكن كما هو كائنٌ/ لكنه إنسانُ هذا الوقتِ/ يكفي أنني لا أعرف الإنسانَ/ إلا حين يرسِل لي تحيتَه/ وأعرف أنه يومًا / تورّط واشترَى كتبي!”.
وأصدر البولاقي أيضًا “كوفيد 19- مائة يوم من العزلة، إشراقات العابر واليومي” (ميتابوك للطباعة والنشر، مصر)، ويقترب الكتاب من أدب السيرة الذاتية، في تسجيل اليومي والهامشي والعابر، وتوثيق بعض الأحداث. وجاء على غلاف الكتاب: “لمدة مائة يوم متتالية من دون توقف، يرصد الكاتب عذابات المواجهة، مودعًا أصدقاءه ومحبيه، راصدًا مشاعره ومشاعر محيطه، متناولًا أهم القضايا الأدبية والثقافية والمجتمعية بلغة أدبية جادة تارة، وساخرة تارات أخرى، مراهنًا على نجاته من الإصابة، وهو ما تحقق حتى هذه اللحظة”.
وأصدر عبد العظيم فنجان (العراق) مجموعته الشعرية “كتاب الحب” (سطور للنشر والتوزيع، العراق)، والحب هنا لا يتجسد في امرأة واحدة، بل في كل النساء، فهي امرأة التفاصيل الغامضة والساحرة في انحياز للأسطورة كبديل عن خواء هذا العالم، ويقدّم المترجم محمد مظلوم للكتاب: “يتنقل فنجان بين نزعة أفلاطونية تبدو مهيمنة، إلى جانب أيروسية مخففة، شديدة الإيماء وغير متهتكة، وهـذه بلاغات كلية ومسارب دقيقة يخرج بها المرأة من الإطار النمطي لصورتها الدينية والاجتماعية، ويعبر بها وحل العالم ليعيدها إلى ضفافها الأسطورية، أو يحلق بها ومعها روحًا سماوية أو ملاكًا”.
يكتب عبد العظيم فنجان في “كتاب الحب”: “ما زلت أتسرّب من ثقوب الناي، مثل لحن يجرح الغناء، يضع المصير على المحك، ويطوف حول جمالك، الذي أعرف أنه سيذوي في خرائب هذا العالم السافل، ولن يكون لي أبدًا.. قلبي الذي أحبك بصمت، يتعذّر وصفه، مثل قنديل مكسور، يوشك أن ينطق بالضوء، رغم أنه ما من زيت فيه، وما من نار”.
أما شربل داغر (لبنان) فقد كان للشعر في حياته مكان رغم اشتغاله على عدد من الكتب البحثية التي صدرت أيضًا هذا العام، فكان له شعرًا “أيها الهواء يا قاتلي” (دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع، الأردن)، جمع في هذا الكتاب هواء بيروت الذي أصبح قاتلًا بين غبار انفجار المرفأ وبين تداعيات فساد السلطة وخراب البلد مضيفًا إلى ذلك تأثيرات العزلة الكورونية “صفقةُ ما يتعاهدُه الموتُ مع الموت فوق أكثر من سجادة، في أكثر من قبو، وفي إهراءات الوقيعة”، ويكتب: “جاري عدوي.. حبيبتي أخاف الاقتراب منها.. من يلمسني، يعتدي علي…أرجوكَ، احتفظْ بمسافة متر مني.
لا تجتمع بأحد، لا تُقبّل أحدًا، لا تلمس يد أحد، كن حذرًا ممّا يتقدّم صوبك، أو يتوجّه للجلوس قرب كرسيك…الطائرة لا تنتظرك: تتمرّن على الطيران ليس إلا، مخافة أن يصيبها الصدأ… لن تنتظرك، ستنتقل بعد التمارين إلى المتحف. لماذا السفر؟ هل من الضروري التنزّه، أو الجلوس في مقهى؟ انظرْ إلى الفراشة، وابقَ في كرسيك فالهواء يكاد لا يكفيك…انسَ ما كان عليه العيش…انسَ صراخك الأول.. أيها الهواء يا قاتلي”.
وضعنا في هذا المقال جزءًا من حصاد الكتابة الأدبية عام 2021 في الشعر، وبالتأكيد ثمة كتب شعرية أخرى صدرت، لا يتسع المجال لذكرها، وهناك أيضًا الرواية لأن الكثير من الكتّاب اتجه نحوها لأسباب متعددة، وكذلك القصص القصيرة، وارتأينا أن نكتب عن الشعر، فمهما اتجه الكاتب ومهما كانت أسبابه ستبقى للشعر أسراره المخبأة لأن “الحقيقة بوصفها بقعة الموجود المضاءة تحدث حين تنظم شعرًا.. الشعر حكاية كشف الموجود”، كما يقول مارتن هايدغر.