سرديات

الجاحظ: الموسوعية الاختلافية

ميز العرب القدامى بين التصنيف والتأليف، فعدوا الأول من إنتاج صاحبه، أما التأليف فما قام به الكاتب من جمع من أقوال غيره. إن مصطلح التصنيف لم يبق مستعملا في لغتنا المعاصرة بالمعنى القديم. لقد عوِّض بالتأليف الذي نطلقه الآن على عمل الكاتب بصفة عامة، أيا كانت علاقته بالإنتاج الذي يقدمه، لذلك يبدو لنا أن التمييز بين عمل المؤلف والمصنف يجعلنا نرى التأليف من عمل الكاتب، أي إنتاجه الشخصي، والتصنيف ما كان المعول فيه على جمع وترتيب مواد ليست من إنتاج القائم بذلك. وندخل في ذلك المنتخبات، والأنطولوجيا، وصناعة المتون وما شابه ذلك.


قد نجد في بعض المصنفات إعلان صاحبها في مقدمة كتابه، أن ليس له من فضل سوى في جمع النصوص وترتيبها وتقديمها للقارئ. ويزخر التراث العربي بهذا الصنف من الكتب التي سميتها: المصنفات الجامعة، التي نجدها متعددة الأغراض والأنواع والموضوعات.

وجدتني أستعيد هذا التمييز عندما عرضت عليّ «أيام الشارقة الثقافية» المشاركة بمحاضرة حول الجاحظ، وعلاقته بالثقافة الشعبية في بداية إبريل/نيسان من هذه السنة (2021). وفرض عليّ السؤال التالي نفسه، وأنا أعيد تأمل عطاءات الجاحظ الزاخرة، بهدف تقديم قراءة جديدة: هل الجاحظ مصنف أم مؤلف؟ إن أغلب ما قدم إلينا من كتب تحمل اسمه يصنف في نطاق الرسائل التي عمل على تحقيقها عبد السلام هارون والحاجري وسواهما، إلى جانب كتب من «كتاب البخلاء» و»كتاب الحيوان».


ولا فرق في هذا التسميات بين «الرسالة» و»الكتاب» فكلاهما لا يحدد لنا طبيعة المؤلف، وهل هو تصنيف أم تأليف؟ وهذه من أولى مميزات الجاحظ بالقياس إلى الكثيرين من معاصريه، ومن جاء بعده من الكُتّاب الذي يدرجون عادة تحت مسمى «النثر العربي» في كتب تاريخ الأدب.

لقد جمع الجاحظ في مختلف كتبه بين التصنيف والتأليف، لأنه في ما ألف ظل مصنفا تزخر كتبه بمواد استقاها من غيره، وفي مختلف مصنفاته يظل حضور المؤلف فيها قويا، فلا نكاد نميز بين المصنف والمؤلف. فإذا قارنا مثلا كتاب «البخلاء» الذي أدرجناه في نطاق المصنفات الخاصة، بموضوع محدد هو البخل، وقارناه بكتب مماثلة، نجد الجاحظ يعيد تقديم المواد التي جمعها بطريقته الخاصة، ولغته المميزة، وروحه الساخرة والفكهة. فهو مثلا في «رسالة الكندي» مؤلف حقيقي، وإن كانت نسبة المادة إلى شخص محدد.

إن إعادة قراءة الجاحظ في ضوء الأنثروبولوجيا الثقافية والاجتماعية، وفي ضوء المناهج الجديدة كفيل بجعلنا نكتشف وجوها أخرى للجاحظ حجبتها عنا التصورات السائدة حوله.

ويمكننا قول الشيء نفسه عن «قصة أهل البصرة» التي ينقل إلينا وقائع معينة من الحياة اليومية، ويعطي فيها الكلمة للشخصيات لتتكلم. وباستثناء ما يرويه مباشرة عن شخصية معينة، أو ينقلها إلينا حسب منطوق صاحبها، كما سمعها، أو حصل عليها في كتاب، نجد الجاحظ مبدعا حقيقيا.

إن للتصنيف والتأليف خصوصية عند الجاحظ في الثقافة العربية ـ الإسلامية لا نكاد نلمسها عند غيره، لذلك نرى أن هناك ضرورة لإعادة قراءته، لتقديم صورة جديدة ومختلفة عن الجاحظ، الذي تقدمه لنا الكتب المدرسية.


لقد تعرفنا على الجاحظ، مثلا، من خلال البلاغي في «البيان والتبيين» ومؤرخ الأفكار والسياسة وهو يرصد لنا صلته بالاعتزال، أو بمؤرخي الأدب وهم يقدمونه كاتبا يمزج الجد بالهزل، لكن أوجه الجاحظ تتعدد بتعدد مصنفاته ومؤلفاته على ما بينهما من تداخل، وكذلك في ضوء الموضوعات المتعددة والمتشعبة التي تناولها في مختلف كتبه.

لم يترك الجاحظ موضوعا، مما كان يشغل عصره، لم تكن له فيه مساهمة. لقد كتب عن الإنسان والحيوان، وفي الثقافة العالمة والشعبية، وعن الأعراق والأجناس، واللغات، وعن التراثي واليومي. وكانت له في كل ذلك وجهات نظر نتلمسها أحيانا بوضوح، وهو يساجل، وأحيانا أخرى، بكيفية ضمنية، وهو يعرف جيدا طبيعة التناقضات التي كان يزخر بها عصره.


تتجلى لنا خصوصية الجاحظ في ما يمكن تسميته بـ»الهجانة الثقافية» في مختلف المجالات التي رصدتها كتبه ومصنفاته المتعددة. ونقصد بالهجانة هنا الجمع بين المختلف والمتعدد والعمل على ائتلافهما من خلال عدسة رؤية «جاحظية» تكبّر لنا من خلالها الأشياء حتى تبدو بصورة غير ملموسة لدى غيره.

إن كل تناقضات النصف الأول من القرن الثالث الهجري تتبدى من خلال سطوره، فيمتزج الجدي بالهزلي، والمقدس بالمدنس، والواقعي بالخيالي، والتاريخي باليومي. ويتبدى لنا كل ذلك من خلال المظهر الموسوعي في أبعاده العالمة والشعبية، وهي تنبني على الاختلاف والامتزاج بين اللغة والثقافة والعصر.

ويكفي أن نعيد قراءة «موسوعة الحيوان» لنعده من أوائل الموسوعيين الذين عملوا على تقديم تصور دقيق للعصر، من منظور مختلف عما نجده لدى معاصريه من كبار الكتّاب. إنه يكشف التناقضات، ويناقش المشكلات العصية، أيا كانت طبيعتها، من منظور نقدي تبرز فيه ذاتيته ومواقفه.


إن إعادة قراءة الجاحظ في ضوء الأنثروبولوجيا الثقافية والاجتماعية، وفي ضوء المناهج الجديدة كفيل بجعلنا نكتشف وجوها أخرى للجاحظ حجبتها عنا التصورات السائدة حوله. كما أن إعادة تقديم كتب الجاحظ من منظور محدد لنظرية الأجناس الكلامية، يمكننا من استكشاف طبيعة التأليف والتصنيف في الثقافة العربية ووظيفتهما الثقافية والاجتماعية.

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى