سردياتنقد

سؤال الذّات في قيامة الآخرين

قراءة في رواية للكاتبة إيمان اليوسف

 

تحقق الكاتبة الإماراتية إيمان اليوسف من خلال روايتها الأخيرة )قيامة الآخرين( في مجموعة من الأسئلة الفلسفية والوجودية المهمة التي ترتكز على ثلاثة محاور رئيسة هي: الذات في علاقتها مع الآخر والانتماء والوعي الجمعي. حيث تعرض هذه القضايا من خلال مجموعة من الأحداث التي تبدأ من الأسرة وتمر عبر المجتمع في رؤيته إلى الآخر، لتنتهي بمواجهة وسؤال الذات.

وتتطرق الرواية إلى بعض المشاكل المهمة الأخرى المتعلقة برؤية المجتمع للحضور النسائي، بالإضافة إلى موضوعات مجتمعية مختلفة تستفيد من معالم المكان والحدث الروائي لتمثيل مجموعة من الإسقاطات الواقعية المتعلقة بالإعلام والفن والسّياسة.

إنّ سؤال الذات والآخر واضح وحاضر منذ أول الصفحات، فالأسرة هنا ذات شقين: شقٌ مشابه للذات يكمّلها، وشقٌ مستقل بعيد عنها. وتتصاعد الأحداث ليكتشف القارئ أن ميعاد بطلة الرواية تعاني من اضطراب نفسي يجعلها ترى الوجوه جميعًا، وجهًا واحدًا غريبًا، وهو وجه ملتحٍ تتنافر الأوردة في جبهته. ومن خلال صوت البطلة السردي يتّضح مظهر جديد لحضور الآخر/ الأجنبي، إذ يتمثّل في الجنسيات المختلفة التي تعيش في المدينة التي تعمل بطلة الرواية فيها، دبي، جميرا تحديدًا، وفي الساعي في مكان العمل -على الرغم من أنها لم تصرح بجنسيته- بالإضافة إلى الخطاب العارض لوجهات النظر السياسية، حيث تذكر بعض الأسماء الأجنبية الشهيرة.

تبلغ ميعاد مرحلةً عصيبة من الخلط بين الوجوه يمتنع معها العيش، فتحاول الاستنجاد بذاكرتها لتتعرف على الآخرين من أجسامهم -عدد كبير من زملائها الموظفين يرتدون الثياب نفسها، الكندورة البيضاء- أو ملابسهم كالساعي الذي عرفته من بدلته الزرقاء.

لكنّ المشكلة تتعاظم، فهي لم تعد قادرةً على التّفريق بين الناس، بل تتكلّم معهم دون أن تدرك من تخاطب بالضبط، وإن كانت تحاول جاهدةً أن تضيّق الاحتمالات بملاحظة التفاصيل الأخرى غير الوجه، ولافتٌ أنها لا تأتي على ذكر الصوت، وهو أمر بدهيّ، خاصةً مع تمكّنها من حاسة السمع، وعدم نفيها لتمايز أصواتهم، بل إنها تؤكد هذا التمايز لاحقًا، عندما تتمكّن من صوت البائع النيبالي في السوق.

إنّ القدرة على وعي الفرق بين الأشياء والأشخاص والتمييز بينهم غائبة لا تظهر إلى من خلال وسيط، وهو هنا الشاشات الإلكترونية، وكأنّما تبدو الصورة الآن نقيض الواقعي، فالشاشات أصدق من الواقع الذي انعدمت فيه الفوارق.

ولا تقتصر الرواية على موضوع واحدٍ دون غيره، إذ يتّضح من خلال السرد أنها تتناول عددًا من القضايا المجتمعية، حيث يعود الحدث السرديّ إلى طفولة البطلة عندما أرادت قص شعرها، لكن والدتها واجهتها بالرفض دون إبداء سبب واضح، وهو ما يشير إلى وجود صراع على مستوًى معين بين الأجيال. كما تقف الرواية على مظاهر أخرى تعكس طبيعة المجتمع منها:

  • قصة الطفل عبد الله مجهول النسب وما يعانيه من رفض وانتقاص، فهو موجود وغير موجود في آن.
  • كره إنجاب الإناث وانتقاصهنّ.

وتستفيد الكاتبة من فنيّات كثيرة لتكوين قصّتها الخاصة المتمثَّلة في ثلاثة فصول، فنجد مقطعًا متكرّرًا بداية كل فصل. في الفصل الأول عن البطلة نفسها، وفي ذلك إحالة إلى ذاتها وكيانها الخاص في توحّده، وفي الفصل الثاني عن نوح (النبي) ما يشير إلى النجاة المشروطة بالانتماء إلى الآخر، ثم في الختام عن القيامة والانتهاء، إشارةً إلى الختام والتَّتمّة.

  1. “في الظلام لا شيء سوى وجهي تنيره شاشة الهاتف.”
  2. “يقال إنّ نوح نبّت الأشجار.”
  3. “ثمّ لم يبقَ شيء. القيامةُ ألّا يبقى شيءٌ سوانا.”

إنّ الوجه الذي تفرّ منه ميعاد بطلة الرواية، الوجه الذي يتناسخ فيبدو في كلّ شيء، وجهٌ جميلٌ، وهو ما يمكن أن يُحمل على معنى الفرار من التشابه والتناسخ الذي قد يبدو في ظاهره جميلًا، لكنّه لا يوصل إلى شيءٍ سوى التّشوّه والتّبعيّة. فالإشكاليّة ليست في الفرار من القبح والبحث عن الجمال، بل في الفرار من التّماثل الذي يغيّب هويّة الفرد الخاصّة. والرّغبةُ المُتَمَثَّلةُ هنا تتّصل مباشرة بسعي المرء نحو الهرب بعيدًا للوصول إلى حالة التباين والاختلاف التي تضمن له أن يكون. وهي هنا مبلغ الجمال.

وتحفل الرواية بنهاية غير متوقعة، تعتمد على التّتابع السّريع للأحداث، في تعاقب يستفيد من اللغة ليبلغ مقصده، فالجمل قصيرة جدًا، وبعضها لا يتجاوز كلمتين، تُختَتَمُ جميعًا بنقطة، دلالةً على اكتمالها -وهي تقنية وظّفتها الكاتبة كثيرًا على امتداد العمل- فنجد حركةً إزاء كل جملة.

إن الظواهر الوجودية الجمعية التي يُعبَّرُ عنها من خلال بطلة الرواية «ميعاد» تحمل كثيرًا من التفاصيل التي تقود إلى طبيعة المتاهة الاجتماعية شديدة التعقيد التي تواجهها هذه الفتاة، وذلك من خلال عدد من التفريعات، من واقع عملها مصورةً فوتوغرافية ومسؤولةً عن أرشيف مؤسسة صحافية، ومن خلال كونها ابنة/ أمًا/ أختًا/ زوجةً في العائلة، ومن خلال كونها الفرد الواحد الساعي في سبيل خلاص نفسه. وبذلك تتكشّف أسباب القيامة الفردية التي تعيشها، في ظلِّ تفاعلها مع شخصيات مختلفة في سياق الخيال التراثي والفانتازيا، بالإضافة إلى الأساطير.


كتبت هذه الورقة ضمن بحث علمي يعدّه فريق طلابي بإشراف د. منى الساحلي، بتمويل من جامعة الإمارات العربية المتحدة.

مريم حمود

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى