مدخل إلى «القرآنية» ومميزاتها
نعتبر «القرآنية» الميزة الشاملة والكلية التي يتميز بها القرآن، وهي مكمن خصوصيته التي سنجدها تتحقق، بصور جزئية، في مختلف الأنواع التي يتضمنها. تتجلى لنا هذه الخصوصية في عدة مقومات يختلف بها عن غيره من النصوص التي أنتجها العرب قبل نزوله أو بعده. فهو متعال على كل الأجناس والأنواع، وإن كان يتضمن بعض عناصرها سواء كانت تتصل بجمالية التعبير أو محتواه الدلالي والتداولي.
وحضور بعض تلك المقومات التعبيرية لا تجعله قابلا لأن يؤطر ضمنها، أو يصنف في إحدى خاناتها. فالسجع والوزن، مثلا، وكل المحسنات والوجوه البلاغية الموظفة في اللسان العربي متضمنة في القرآن الكريم، باعتباره أولا، وقبل كل شيء، «نصا لغويا» ولا يمكن قراءتها إلا في ضوء خصوصية التعبير القرآني ومقاصده.
إنها جزء من بنيته الكلية التي تستوعب بنيات متعددة لكل منها خصوصيتها الذاتية. ولا يمكن تأكيد ذلك إلا بالوقوف على نظرية لأنواع الكلام القرآني، وما يتميز به بعضها عن غيره. وهذا لوحده يمكن أن يشكل مبحثا خاصا في ذاته.
فالسجع القرآني، مثلا، سواء اعتبرناه سجعا يرفضه البعض، أو فاصلة يقبلها آخر، يختلف عن الطريقة التي وظف بها في الخطاب العربي، (من سجع الكهان باعتباره جنسا كلاميا، إلى السجع باعتباره أسلوبا جماليا) لا يمكننا التعاطي معه إلا من خلال النص في كليته، وبما يختلف به عن غيره.
إلى جانب هذه الخاصية الجنسية المتعالية التي يتميز بها القرآن الكريم تتحقق القرآنية من خلال كون النص القرآني غير خطي. فلا يمكننا قراءته أفقيا من البداية إلى النهاية كما نقرأ القصيدة أو القصة مثلا لتحصيل المعنى العام الذي يرمي إليه.
لقد بدأنا بتعلم القرآن الكريم في الكتاب من خلال السور القصار، وتدرجنا منها (من آخر الكتاب إلى سورة البقرة) لنكون قد أتينا على ختمه. ثم نبدأ في قراءته من سورة البقرة إلى الناس. وهكذا كنا في الجامع نقرأ كل حزب بعد المغرب والفجر لنختمه من أوله إلى آخره خلال شهر. تبدو هذه اللاخطية في إمكان قراءة السورة أو مجموعة من الآيات بدون إخضاعها لأي ترتيب في المصحف خطيا.
ولعل القراءة في الصلوات، وفي مناسبات الفرح والحزن دالة على ذلك. وكل ذلك يبين لنا أن المراد من قراءته يتحقق من خلال السورة أو الآية، أو مجموع آيات. إن كل بنياته الجزئية أو الخاصة جزء من البنية الكبرى، وكل منها يؤدي، منفصلا أو متصلا، الرسالة التي يعمل القرآن الكريم على تبليغها.
تتأكد لدينا هذه اللاخطية في كون القرآن الكريم نزل منجما، ومتفرقا خلال ثلاث وعشرين سنة، ولم يجمع في «كتاب» (المصحف) إلا لاحقا. ولقد كان المسلمون يتلون منه ما يتنزل في حقب مختلفة، وأمكنة محددة (المكي والمدني). ويجدون في كل ما يستجد منه تعبيرا عن المحتوى نفسه، رغم تباين الآيات (المحكم والمتشابه) وأزمنتها وسياقاتها.
وتبعا لذلك نرى أن القرآن الكريم عبارة عن «شذرات» بينها «روابط» يؤدي كل منها إلى غيره مما يضمن للنص انسجام عناصره، واتساقها، وترابطها. ففي كل آية من القرآن الكريم نجد لها «صلة» تربطها بغيرها من الآيات. وهذه الخاصية لا نجدها في أي من النصوص.
أسمي هذه الصلات الداخلية بين الآيات بـ «الائتلاف» بحثا عن مصطلح آخر، تأكيدا لقوله تعالى في حديثه عن القرآن الكريم: «أفلا يتدبرون القرآن، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا» (النساء، 82).
لقد نجم عن اللاخطية تعدد قراءاته التي تذهب من القراءة التدبرية والتعبدية إلى القراءة المستكشفة لما يؤطر الحياة العامة للمسلمين (العقائد، العبادات، المعاملات) في ضوء ما تتميز به الآيات عن غيرها، وهي تترابط معها في الوقت نفسه.
هذا علاوة على كون القراءات السبع أو العشر، والتي يمكن أن تكون فردية أو جماعية، سرية أو جهرية، تلاوة أو تجويدا أو ترتيلا، جزئية لسورة بعينها، أو كلية للقرآن كله.
من التعالي الجنسي إلى تعدد القراءات مرورا باللاخطية نفترض أن تحليل القرآن الكريم يتيح إمكانات متعددة تختلف باختلاف المقاصد والإجراءات. لقد تم التركيز أساسا على شرح القرآن وتفسيره وتأويله خطيا وفق ترتيبه في المصحف من سورة الفاتحة إلى الناس، أو بحسب النزول، أو الموضوعات، وغيرها.
غير أننا في مرمانا تحليل القرآنية نذهب مذهبا آخر، نعتبره في ضوء الخصوصية القرآنية كما حاولنا تجسيدها من خلال هذه الخصائص الثلاث، (وهناك غيرها سنتوقف عليها في دراسات موسعة)، بنية كبرى، تتضمن بنيات صغرى، وبينها علاقات وروابط. وعلينا البدء أولا بالكشف عن تلك البنية الكبرى، أو الوظيفة المركزية التي بني عليها القرآن الكريم، أو الدعوى النصية، (كما سميتها في قال الراوي) لننتقل بعد ذلك إلى استكشاف البنيات الصغرى، أو الوظائف الأساسية التي تترابط مع غيرها، وبذلك نستكمل كل ما يتصل بالقرآنية في ذاتها، كما تتحقق من خلال النص في كليته وشموليته.
يمكننا اختزال تلك البنية الكبرى في جملة واحدة، أو آية مركزية عليها مدار النص بكامله، ونجدها تحضر بأشكال وصيغ متعددة في كل سورة أو آية من القرآن الكريم. تقول تلك الآية: «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون» (الذاريات 56). ففعل الخلق مركزي لأنه الحدث الذي ستتولد عنه كل الأحداث اللاحقة.
وفعل العبادة هو الفعل المرتبط بالخلق في علاقته بالخالق وكل المخلوقات، وبالأفعال التي تتحدد من خلالها مصائر المخلوقات في الزمن الكائن (الدنيا)، والزمن الآخر (الآخرة). كان بإمكاني اختيار بنية أخرى، لكن رؤيتي السردية جعلتني أطمئن إلى هذه البنية في بعدها السردي (قصة الخلق وما يتولد عنها). إنها الجوهر الذي تبنى عليه «القرآنية» في شموليتها.
إن القرآنية وفق البنية الكبرى التي يمكننا اختزالها من خلالها تتجسد من خلال تصورنا السردي عبر الخطاب باعتباره بنية تركيبية، والنص كبنية دلالية، كما اشتغلت بهما في تحليل الخطاب الروائي، وانفتاح النص الروائي (1989).
وبما أن البنية النصية القرآنية، كما أتصورها الأكثر إثارة للنقاش بين المشتغلين بالقرآن الكريم قديما وحديثا بالقياس إلى البنية الخطابية، سأبدأ بها، وأعود إليها بعد تحليل الخطاب القرآني لأكشف أولا عن مميزات بنية النص القرآني من خلال ثنائية مزدوجة. يتمفصل القرآن الكريم في ضوء القرآنية في آن واحد إلى «نص» و»ميتا نص» مزدوجين.
إن القرآن الكريم، من جهة، «نص» يسعى إلى تقديم رؤية مختلفة للإنسان في ذاته، وفي مجمل علاقاته. وهو في الوقت نفسه «ميتا نص» لأنه يتخذ موقفا من كل النصوص السابقة أو المعاصرة سواء كانت ذات طبيعة دينية أو غيرها عبر تفاعله النصي معها، إما من خلال دعمها أو دحضها.
كما أنه من جهة ثانية، يتشكل في ضوء النصية والميتا نصية السابقة، «نصا» يؤسس ذاتيته وخصوصيته بتوجهه إلى المتلقي بقصد تغيير رؤيته إلى العالم، وفي الوقت نفسه يتحدث عن نفسه (ميتا نص)، من خلال الكشف عن مميزاته وكيفية التعامل معه للاستفادة منه.
ليس القرآن الكريم فقط نصا للقراءة ولكنه أيضا دليل إليها. وفي هذه العلاقة بين «النص» و»الميتا نص» تتحقق أقصى درجات القرآنية في خصوصيتها.