سرديات

ديفيد هيرمان واستكشاف بؤرة السرد والعقل

رافق السردُ البشريةَ عبر الأزمان كحكايات خرافية، ثم كأساطير وأخبار وقصص، وصار كل إنسان حكّاء بالفطرة كنموذج أول يمكن أن يتطور بالموهبة والخبرة، إلى مرتبة أعلى هي السارد الذي هو النموذج الثاني الذي بإمكانه تلقف الفطرة وشحذها ليستقي منها التطور في نموذج ثالث يجتمع فيه السارد بالحكاء، مشكلا الوعي السردي الاحترافي، ممتلكا صورة المفكر وممتدا بوظيفته من مجرد التحبيك للظواهر خياليا، والبرهنة عليها واقعيا إلى وظيفة التجريد الميتافيزيقي تصعيدا.


ولعل هذا ما ينطبق على منظرين مارسوا التنظير والتسريد، بدءا من هنري جيمس وأدغار ألن بو، ووصولا إلى ميشيل بوتور وميلان كونديرا وأمبرتو أيكو. واليوم تتطور النماذج الثلاثة التاريخية للسرد إلى نموذج رابع فيه تتداخل صور الحكاء والسارد والمفكر بصورة المنظر السردي مستكشفا آفاقا جديدة ناتجة عن تعالق السرد بمختلف ميادين الحياة، وصنوف المعرفة وهو ما ينطبق على ديفيد هيرمان صاحب الإسهامات في انتهاج طرق جديدة، تركز على العلاقة بين السرد والعقل، وتوصف نقدياً بأنها سرد معرفي.

ويشبه هيرمان البحث في العلاقة بين العقل والسرد بأساليب التحقيق بين جهاز الأمن ووسائل الإعلام، والمندرج في إطار علم السرد ما بعد الكلاسيكي، القائم على البحث السردي في أفكار المنظرين البنيويين للسرد الذين يصفهم هيرمان بالكلاسيكيين، مثل رولان بارت وجيرار جينيت وجريماس وتزيفتان تودوروف. وما يحتاجه البحث في العلاقة بين السرد والعقل هو، العمل النظري على إثراء قاعدة المفاهيم البنيوية، بالبحث عن الذكاء البشري الذي تجاهله نقاد السرد الكلاسيكي، أو تعذر عليهم الوصول إليه، في محاولة لإلقاء الضوء على القدرات العقلية والتصورات من جانب، والاستناد إلى التجارب السردية من جانب آخر.


ولأجل استكشاف هذه العلاقة بين السرد والعقل، قام ديفيد هيرمان باستعمال فكرة جعل العالم السردي بمثابة إطار تجريبي مركزي، معتمداً على رؤى وتبصرات نيلسون غودمان وريتشارد جيرج، وغيرهما من الفلاسفة، معتمدا في ذلك على البعد المرجعي للسرد وقدرته على استحضار عوالم بها يتمكن الروائي من السياحة في الخيال. ليكون صنع العالم هو السمة المميزة للخبرة السردية.

أما وظيفة السرد الأساسية فتكمن في كيف تتشكل نقطة البداية للاستقصاء السردي والأدوات التحليلية الموظفة في خدمته. وبحسب هيرمان فإن منظري السرد اللسانيين والشكلانيين والبنيويين، أخفقوا في تأكيد أهمية التداخل بين العلم والسرد، بينما أعطوا الأهمية إلى التحليل الثنائي للإشارات اللغوية والدلالات والمكونات الهيكلية والمبادئ السيميائية مستبعدين المرجعيات.


ولا خلاف في أن الأمر في السنوات التي تلت البنيوية كان على النقيض، فقد كشفت التطورات البحثية المقنعة عن مجالات متعددة في تحليل الخطاب، بالإفادة من الفلسفة وعلم النفس، ونظرية السرد نفسها، فبرزت أهمية دراسة كيفية نشر الناس لأشكال مختلفة من رموز الأنظمة، وجوانب من تجاربهم.

وهذا هو بالضبط ما سيركز عليه ديفيد هيرمان في دراسته الموسومة (استكشاف بؤرة السرد والعقل) المنشورة ضمن كتاب لم يترجم الى اللغة العربية بعد هو «النظرية وتفسير السرد: النظرية السردية المفاهيم الأساسية والمناقشات النقدية» 2012 وبغيته من وراء ذلك التوصل إلى الكيفية التي بها توفر دراسة السرد الطرائق والموارد الأساسية لنمذجة العالم والإبداع.

يبدأ هيرمان دراسته بالتركيز على العالم السردي في دراسة العالم الواقعي باستخدام أنواع مختلفة من أنظمة الرموز (اللغة المكتوبة أو المنطوقة، الصور الثابتة أو المتحركة، أو تركيبات الصور اللفظية وغيرها) ودور السارد في المشاركة في صنع العوالم السردية، سواء كانت هذه العوالم خيالية أو غير خيالية، أو أنها خاضعة للتزوير والتزييف أم لا.


وعلى الرغم من أن السرد يوفر وسائل خلق وتحويل وتجميع القصص في مختلف البيئات ووسائل الإعلام؛ فإن الأنواع المختلفة من الممارسات السردية تستلزم بروتوكولات مختلفة لصنع العالم بتأثيرات مختلفة. وأن جمع هذه البروتوكولات يتطلب البحث النظري في السرد تعالقا مع التطورات في علوم العقل، مؤكدا على أن قضايا العالم ومشاكله، تقف في طليعة البحث السردي وبما يفتح اتجاهات جديدة للبحث أكثر في هذا المجال، من خلال التأكيد على الحاجة إلى إعادة صياغة ذلك النوع من الأسئلة التي يطرحها المنظرون على السرد نفسه.

ويتأتى هذا التوجه عند هيرمان من استلهامه الميتافيزيقي لفلسفتي لودفيج ويتغنشتاين، مفيدا منهما في التحليل والبحث عن طرائق التعبير في سياقات معينة، والمشاكل المفاهيمية الناجمة عن الإفراط في الإطلاق والتعميم أو القواعد المفروغ منها، التي بها يتم بحث الأسئلة وطرح مشاكل اللغة.

وما يسعى هيرمان إلى بلوغه هو، إعادة توجيه النظرية السردية حول مسائل صناعة العالم من خلال وضع القصص في منطقة تعالق السرد بالعقل، معيدا بذلك صياغة المخططات التجريبية الحالية لدراسة السرد، أو بالأحرى التحول إلى وجهة نظر بديلة، يمكن من خلالها مسح «القواعد» الأساسية لهذه المخططات من جديد.

وعن ذلك يقول هيرمان: (إن إسهاماتي ليست مصممة لتخدم أغراض السرد، من خلال اقتراح الكيفية التي بها يتم التركيز على تحويل العالم إلى استراتيجيات إنتاجية لدراسة القصص حسب؛ بل أيضا الأغراض المتعلقة باستخدام هذا التركيز نفسه لإعادة تقييم المصطلحات التي صيغت بها الأسئلة المتعلقة بالسرد حتى الآن).


وطبقاً لنظرية هيرمان فإن السرد يستلزم التحقق من نوعين مختلفين من الأفعال: الأول استدلالات يثيرها فعل من الأفعال الكاذبة، والآخر تسلسلات الافعال التي يتم القيام بها على الحقيقة والإطلاق، فيكون التحقيق السردي مستندا إلى وجهة نظر ذهنية في ممارسة سرد القصص.

ومن أمثلة هذا التركيز مراجعته قواعد الأسئلة حول السرد القائم على مفهوم المحاكاة، رافضا تقييدها بأفق ضيق بوصفها تقليدا أو استنساخا.. وهو ما يجعلها أداة واهية في التعبير الثقافي والتمثيل المباشر للعالم، فلا مواجهة مكشوفة مع الواقع ولا توسط في النماذج العالمية.


إن المحاكاة بالنسبة لهيرمان هي جزء من مجموعة من الاستراتيجيات بها تصنع هذه النماذج العالمية بلا معيار، أو محك يقيس بموجبه القصص «المضادة»، أو الميتا قصصية أو الأبعاد الاصطناعية للسرد. فلا نسأل عن المحاكاة أو غيابها، بل نسأل عن كيفية ترتيب تصاميم القصص على نطاق مواز لطرق أكثر أو أقل انعكاسية لصنع العالم، وبما يفتح آفاقاً جديدة للاستقصاء السردي.

وعلى المنوال نفسه، يتم التركيز على القضايا المتعلقة بصنع العالم، وإعادة النظر في طرق طرح الأسئلة المرتبطة برسم خط التواصل السردي بين المؤلف الضمني والقارئ الضمني. وتشكل هذه الرؤية في التحول في عمليات صناعة العالم جزءا من الحجج والانتقادات التي توجهها المدرسة الأنكلوأمريكية إلى منظري المدرسة الفرنسية في السرد، التي أهملت.

أو ربما أخطأت في إرجاع النوايا إلى مبدعي القصص والتركيز على بؤرة رئيسية في مخطط التواصل، تعيد صياغة البنيات التجريبية، وطرق وصف مراحل أو جوانب من أنشطة الاستدلال التي تدعم صناعة العالم، بعيدا عن الشروط أو القواعد المقننة والمعتادة في فهم السرد. وبهذا يكون السرد موظفا لوضع نماذج العالم، فاتحا سبلا جديدة لصياغة الأسئلة حول القصص نفسها.

ومن تلك السبل في استكشاف العلاقة أو تشكيل الأفكار حول الترابط بين السرد والعقل ما يأتي:

1) صناعة أماكن جديدة مبتكرة كوسيلة لتحليل قضايا الفضاء السردي، كمواقع ومنظورات فيها توظف القدرات العقلية. أما الزمان والشخصية فانهما بارومترات رئيسية لبناء العالم السردي. ومن مجموع عناصر السرد يُنتِج منشئ القصة مخططات بناء العالم السردي.

وهذه المخططات التي يتفاوت تصميمها من حيث التعقيد، ستدفع إلى بناء عوالم تتميز بشكل خاص عن أي ملامح نمطية للمواقف والأحداث. وبالشكل الذي يوسع نطاق البحث العلمي، ويعمل على تحقيق التكييف بين الاستدلال النفسي وعمليات تحليل الخطاب ومجالات الاستقصاء ذات الصلة بفهم السرد.

2) رسم خرائط للقصص كإشارات للتساؤل حول متى وأين ومن وكيف ولماذا تتكون أبعاد العوالم عقلياً؟ ويترتب على التفاعل مع هذه الأسئلة هيكلة العوالم المعنية، وتأثيرها العام على الوظائف التمثيلية، وكيف تعتمد صناعة القصص على القارئ.

3) التوسع في فرضية تعالق السرد بالعقل إلى مجال الخطابات الأخرى أو مجموعة الاستراتيجيات التمثيلية، أو طرق الرؤية كأن تكون القصة في قاعة المحكمة، أو تكون حملة سياسية أو نزاعا عائليا.

وطبقاً لنظرية هيرمان فإن السرد يستلزم التحقق من نوعين مختلفين من الأفعال: الأول استدلالات يثيرها فعل من الأفعال الكاذبة، والآخر تسلسلات الافعال التي يتم القيام بها على الحقيقة والإطلاق، فيكون التحقيق السردي مستندا إلى وجهة نظر ذهنية في ممارسة سرد القصص.

4) الاعتماد على المنظورات التطورية والنفسية والقدرات العصبية للدماغ، في استكشاف ملامح السرد وخرائط العلاقات بين الإنتاج السردي والعمليات المحددة في الدماغ.

وقد طبق ديفيد هيرمان هذه السبل الأربعة على رواية «شاطئ شيسيل» لايان ماكوان McEwan 2007 دارسا الجوانب الرئيسة للسرد من منظور يركز على التحقيق في قضايا صناعة ، واستراتيجيات العلاقة بين العقل والسرد، من أجل استكشاف بؤرة الصراعات الشخصية في السياقات الأسرية والاجتماعية والطريقة التي توفرها القصص في دعم منطقية تصرفات المرء والآخرين.


ولا يبدو أن هيرمان في بنائه لنظرية سردية تتعامل مع الرواية بطريقة ذهنية قد استند إلى حدود النظر العقلي وحده، وإنما استند إلى علم النفس أيضا في دراسة صناعة العالم السردي وأساليب التحقيق فيه. فاعتمد في البدء على تلخيص الرواية المؤلفة من 203 صفحات بقصد المساعدة في إرساء أساس للتحليل،

ثم انتقل الى التركيز على أحداث بعينها، هي بمثابة محطات تكشف عن الحالات الذهنية للشخصيتين الرئيستين: شخصية العريس الذي عانى تلفا في الدماغ، بسبب حادث على منصة سكك حديد وشخصية العروس التي عانت القلق والشلل والاشمئزاز. ومفيدا أيضا من خلفيات عائلية عن الشخصيتين في فهم وتيرة السرد والنهاية الكارثية بالزواج على ـ شاطئ شيسيل.


إعداد: نادية هناوي – كاتبة عراقية.

نادية هناوي

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى