السرديات التطبيقية
قبل بروز البنيوية في الأدب، كان استعمال مصطلحات النقد الروائي والنقد القصصي والنقد المسرحي والنقد السينمائي شائعة في الدراسات والكتب، سواء في الغرب أو عند العرب، وهي تتعامل مع هذه التجليات النصية على أنها أجناس أدبية. لكن مع تبلور الدراسات السردية، وتطورها، صار استعمال السرد يتسع لك ما يتضمن مادة قابلة لأن تحكى، فغابت مصطلحات «النقد» الذي كان يتصل بأنواع سردية معينة، رواية، قصصا. وكان ذلك ليس فقط تعبيرا عن إيجاد مفهوم جنسي جامع (السرد) للدلالة على كل الأنواع السردية، وهو ما كان غائبا قبل البنيوية.
لم يكن إيجاد المفهوم الجامع مقصودا في ذاته، ولكنه كان أيضا تعبيرا عن تحويل مجال الدراسة من النقد الذي كان ينطلق من ذاتية الناقد وتأويله النص، إلى العلم الذي ينشد الإمساك بالخصوصيات السردية، وهي تتحقق بشكل شمولي أيا كانت تجلياتها النوعية.
إن الدراسات السردية، سواء كانت سيميائيات أو سرديات، تحددت في أفق منشدّ إلى الاشتغال، وفق الإجراءات العلمية التي استقتها مما تحقق في مجال اللسانيات، وبما أنهما معا كانتا تتعاملان مع نصوص سردية أدبية في بداية تكونهما، كان المنطلق الاستنباطي يقضي بأن يتم الاشتغال بنصوص مفردة أو متعددة، بهدف الوصول إلى الكليات العامة المتعالية على أي نص سردي. لذلك كان المشتغل بالنص السردي المحدد يتعامل معه باعتباره ناقدا، ولكن من منظور العالم. فكان بذلك التمييز، مثلا، بين السرديات والنقد السردي. فالعالم والناقد، يشتغلان معا وفق جدل يقضي بتكامل عملهما بغية الوصول إلى الكليات التي يتقصدها العالم، في ضوء الخصوصيات التي يهتم بها الناقد.
لم تتمكن الدراسات الأدبية العربية من استيعاب النظريات السردية ومقاصدها البعيدة التي تتحقق الآن، لأنها تعاملت معها على أنها «منهج» يعزل النص عن سياقاته.
تأسست السرديات في الحقبة البنيوية على النصوص السردية، المنتمية إلى الأدب، وإلى الآداب الموازية، والثقافة الشعبية. ومع التحول الذي عرفته السرديات في صيرورتها، بانتقالها من السرديات الكلاسيكية إلى ما بعدها، ومراكمتها نظريات ونماذج ساهم فيها علماء من مختلف البلاد المتقدمة علميا، ومن اختصاصات متعددة، اتسع مجال الرؤية والاشتغال، فصار الاهتمام بالسرد أينما وجد، سواء كان شفاهيا أو كتابيا، أدبيا أو غير أدبي، نصيا كان أو صوريا، ورقيا أو رقميا. وكان الانطلاق، في كل ذلك، من الأدبيات التي تحققت في المرحلة الكلاسيكية، والعمل على تطويرها من خلال الاشتغال بموضوعات متعددة، وتوسيع مجال العمل، من تحليل الخطاب إلى العلوم المعرفية والعصبية والدماغ البشري، والذكاء الاصطناعي. إذا كانت مجالات السرديات، وهي تنفتح على العلوم الجديدة المختلفة، قد اتسعت لتشمل ما صار يسمى «العقل السردي» في مختلف جوانبه، يمكننا في المجال العربي، ونحن متخلفون حتى في الأخذ بالأسباب العلمية التي تحققت في المرحلة البنيوية في التعامل مع سرودنا القديمة والحديثة، وإن ادعينا «تجاوزها»، أن نهتم بما نسميه «السرديات التطبيقية». على هدي تصنيف العلوم عامة إلى أساسية وتطبيقية، يمكننا لردم الهوة بين العلم والنقد السرديين، أن نعمل على تحديد العلاقات الممكنة بين السرديات «النظرية»، كما تتحقق في الدراسات السردية العالمية، و«السرديات التطبيقية» التي نشتغل بها على نصوصنا، بهدف إغناء مجالات البحث، مما يجعلنا نضطلع بقراءة سرودنا قراءة جديدة تتجاوز ما عرفته في الحقبة البنيوية، أو ما بعدها.
إن الدراسات الأدبية العربية التي حاولت الاشتغال بالرواية أو السرد العربي القديم، لم تتمكن من استيعاب النظريات السردية ومقاصدها البعيدة التي تتحقق الآن، لأنها تعاملت معها على أنها «منهج» يعزل النص عن سياقاته، ولم تتعد هذه الزاوية النظر. كما أنها لم تفلح في استثمار منجزاتها في المرحلة البنيوية على الوجه المناسب، لتقديم تحليلات ملائمة تقف على الخصوصيات النصية، في ضوء النظرية الشمولية للسرد. لذلك ظلت «نقدا سرديا»، يفكر في السرد بوعي الناقد ما قبل البنيوي، الذي كان يحلل الرواية والقصة والمسرحية، على أنها أجناس أدبية، وعليه أن يكشف عنها، ويقوم بتأويلها، وإعطاء مثال على ذلك، نجد دارسينا إلى الآن يرصدون الرؤى: «الرؤية من الخلف»، و«الرؤية من الخارج»، و«الرؤية مع»، في الوقت الذي صارت نظريات «التبئيرات» تشتغل في الفضاء الرقمي، وتسهم في تطوير ما يتحقق في مجالات الأبعاد الثلاثية، والبرمجيات الحاسوبية. كما يمكن ضرب المثال من «البرنامج السردي» في السيميائيات الذي صار متصلا، وقد تحول مع اللغات البرمجية ليصبح واقعا، يسهم في صناعة البرمجيات والألعاب السردية الصورية.
إن عدم فهمنا البنيوية، ومنجزاتها العظيمة، في تحليل السرد، وفي مجال اللسانيات أيضا، علاوة على الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، أضاع علينا إمكانية الانتقال إلى ما بعدها بقصد تطويرها. وما بحثنا، أو انتقالنا إلى «إبدال» آخر لا علاقة له بها، سوى دليل على ذلك. وأرى أن انخراطنا في الدراسات السردية الجديدة، التي نجد معظم الجامعات المصنفة عالميا تساهم في تجديدها، رهين بانتقال دراساتنا الأدبية من النقد الأدبي أو غيره، إلى السرديات التطبيقية، التي لا يمكنها أن تتأسس إلا على السرديات النظرية العالمية. لا بد لتحقيق ذلك من ربط الصلة بالدراسات السردية المعاصرة بوعي جديد، يؤمن بالعلم، في تحققاته التطبيقية وخلفياته النظرية.