سرديات

سردية الطفل ريان

قصة الطفل ريان لم تكن كغيرها من القصص. لقد شغلت الرأي العام الوطني والعربي والدولي طيلة خمسة أيام بشكل لم يتأت لأي من تلك التي تجري يوميا. حرّكت الضمائر في كل البقاع، ووحدت الحناجر بالدعاء في كل اللغات.


وأبانت مرة أخرى أن الإنسان قادر على أن ينسى، أحيانا، أنه مختلف ومتميز عن غيره، وأنه لا يفكر في مصلحته، إلا في تعارض مع مصالح غيره. فما الذي أدى إلى احتلال قصة الطفل ريان كل هذه الأبعاد، وهذه المواقع من النفوس والعقول؟ وجعلها موضوعا يحبس الأنفاس، ويحدث الأثر العميق في الوجدان الإنساني؟ إنه سؤال البحث في «سردية» هذه القصة، بما هي، مجموع الخصائص التي تعطي للعمل السردي فرادته وتميزه باعتباره عملا سرديا.


لو افترضنا أن الطفل ريان كان في العشرين من عمره، وسقط في بئر تقليدية، وغير عميقة، واستطاع أن يخرج منها سالما، بعد بضع دقائق بمساعدة أقرانه، هل كان بإمكان قصته أن تأخذ ما أخذته قصة ريان؟ في أقصى الحالات كانت ستتحول إلى خبر يتداول في القرية أياما، أو أسابيع، وقد تظل تذكر بين الفينة والأخرى في أحاديث القرويين.


إن حدث الوقوع وعمر الشخصية (خمس سنوات) ونوعية البئر (مدخل ضيق، وعمق يتعدى ثلاثين مترا) وطبيعة الفضاء (قرية بعيدة، وتضاريس صعبة) كل ذلك جعل قصة ريان مختلفة عن القصة الافتراضية.
ويبقى السؤال المحير هو: هل سيتم إخراج ريان من البئر أم لا؟ قصص كثيرة مثل هذه وقعت في أزمنة سابقة، ولكن لم تتحقق فيها سردية قصة ريان.


يأتي هنا دور الوسيط الإلكتروني الذي وزع الخبر وجعله موضوعا للتداول، وتدخل أطراف عديدة إما من باب الفضول، أو التعاطف، أو حتى من باب ملء الفراغ بحكي قصة لها تميزها لأن أي قصة حين تبدأ لا بد من نهاية. والمرء معني بالنهايات، حتى من لا يتابع مباراة مهمة في كرة القدم، يهتم كثيرا بالسؤال عن نهايتها.


وقصة ريان دفعت، من خلال تضافر الجهود الجبارة لإخراجه من البئر، وطيلة خمسة أيام إلى أن يطرح هذا السؤال بشكل مستمر ومتواتر. وكلما طالت مدة زمن القصة، وتعددت مشاهد العمل من الفاعلين، والانتظار من المتلقين، ساهم ذلك في توسيع دائرة المتتبعين والمتسائلين.

إن البئر مكان في القصة، ولها امتداد في الواقع. لكن هذه البئر الواقعية ما كنا لنتعرف عليه لولا سردية القصة، فما الذي جعلها تكون قبرا لريان؟ ومن يتحمل مسؤولية ذلك؟ هل الأسرة؟ أم السلطات التي جاءت لتحفر قبرا من أجل قبر آخر؟

لعبت وسائط الاتصال والتواصل الجماهيرية والرقمية دورا كبيرا في رصد تطور القصة، وتتبع جزئياتها، وخلق المزيد من توقعات الانتظار بخصوصها، ليس فقط من قبل من جاؤوا من مناطق متعددة من المغرب، لمتابعة حدث الإنقاذ، أو تقديم الدعم، أو الخبرة، ولكن أيضا من لدن كل من توصل بالخبر في أي مكان من العالم، وصار الجميع يواصل المتابعة لمعرفة كيف ستكون النهاية.


إن قابلية قصة ريان للحكي، تكمن أولا في الفعل المتعلق بالطفل الصغير في وضع متدهور. وثانيا في الفعل الذي أقدمت عليه السلطات من أجل تحويل الوضع المتدهور إلى وضع أحسن، لكن هذا الفعل استغرق زمنا لم يكن متوقعا بسبب تضاريس المنطقة، وساهم في إطالة زمن القصة، وخلق توقعات نهايتها. وكان السؤال المتعلق بالفعلين معا:


هل سيكون النجاح حليف الحفر؟ وهل سينقذ الطفل حيا أو ميتا؟ سؤالان يحبسان الأنفاس، ويخلقان توقعات عدة. وتنتهي القصة بنجاح الحفر، واستخراج الطفل ميتا، فتكون للقصة بعد نهايتها تداعيات وصلوات، وآثار في النفوس، تأكيدا لما كان وقت وقوعها والعلم بها، ومتابعتها.


اهتمت الوسائط المختلفة بتقديم تفسيرات للقصة، وتأويلات لها، وكلها دالة على أن الإنسان مهما بلغ من التجبر، لا يمكنه إلا أن يجد نفسه في مواطن الضعف التي تجعله يرى أن ما وقع لريان ممكن الوقوع لأي طفل في العالم، وإن بطرائق مختلفة، ولا داعي للتذكير بأن القصة فسِّرت وقدمت بصور متعددة حسب رؤى أصحابها ومقاصدهم، وأغلبها تتأسس على ما هو خارج النص، لكن أهم ما استخلصته منها جعلني أرى في أن «خارج النص لا يوجد إلا في داخله».


وإذا كانت البنيوية قد ركزت على «النص من الداخل»، فإن ما بعد البنيوية يمكن أن يتلخص في أن داخل النص، وهو مجموع بنياته الداخلية يتضمن خارجه، أي مجموع العلاقات التي تربط بنياته الداخلية بما تقدمه من عناصر ومكونات تصله بما هو خارجي.

إن البئر مكان في القصة، ولها امتداد في الواقع. لكن هذه البئر الواقعية ما كنا لنتعرف عليه لولا سردية القصة، فما الذي جعلها تكون قبرا لريان؟ ومن يتحمل مسؤولية ذلك؟ هل الأسرة؟ أم السلطات التي جاءت لتحفر قبرا من أجل قبر آخر؟ وهؤلاء الذين نبهتهم القصة للتضامن مع الطفل وأسرته والدعاء له، والإعلام الذي تكلم عنه، وكل الذين تفاعلوا مع القصة داخليا وخارجيا، ما الذي كان يمنعهم من الحيلولة دون وقوع القصة بالمعنى الذي يقدمه لنا التراث العربي: القصاصة التي ترفع إلى الحاكم لأخذ الحق، لكن «الحكايات جند من جنود الله». وإنها لمعبرة لمن يود الفهم والتفسير.

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى