مونيكا فلودرنك والسرد الطبيعي
علم السرد ما بعد الكلاسيكي تسمية لها من السعة النقدية ما يجعلها أوسع من تحديدها اصطلاحاً من اصطلاحات السرد، وأعمق من مجرد النظر إليها تصوراً جديداً ما بعدياً، يتضاد مع سرد آخر يوصف بأنه كلاسيكي، والسبب أن هذا العلم في بعده المفهوماتي يندرج كنظرية نقدية، وله حاضنته الفلسفية التي فيها للقارئ المركزية في الفاعلية السردية من ناحية ما يملكه من ثقافة وما يتمتع به من مرجعيات ونوازع ذاتية، تُمكّنه من مشاركة منتج النص نصه، مساهماً معه في إعادة إنتاجه أو إتمامه.
وهذا ما يجعل من علم السرد ما بعد الكلاسيكي باباً واسعاً تمرّ من خلاله مختلف المفاهيم والمصطلحات الجديدة التي لها مواضعاتها المختلفة عن مواضعات علم السرد الكلاسيكي وأهمها، تجاهلها القارئ وإماتتها المؤلف، ليكون النص هو المحور في العملية النقدية، جملةً وتفصيلاً وابتداءً وانتهاءً.
ولقد شجّع هذا العلم المابعدي كثيراً من المنظرين والباحثين على التجريب فيه، مدلين بدلائهم في فروضه وبراهينه ومبتكرين مفاهيم ومقدمين معطيات، تدعم مقصدية بحثهم في نظرية السرد البنيوية، محاولين بذلك مواجهة النقد البنيوي، وتحطيم كلاسيكية إدراجه السرد مفهوماً في نظريات النص والخطاب، مفيدين من ثغرات تركها منظرو البنيوية مما يتعلق بموقع المؤلف في النص ودور القارئ في فهم النص وتلقي جمالياته.
وفي إطار هذا العلم المابعدي تسعى مدرسة النقد الأمريكية إلى طرح مشاريع بحثية جماعية تعزز توجهاتها النقدية، المستحدثة لقضايا ومظاهر نظرية وإجرائية ما زالت في طور التجريب والاختبار. ومن تلك المشاريع (السرد غير الطبيعي) الذي تشارك على التجريب فيه وإتمامه ـ تحت مظلة المدرسة الأمريكية ـ مجموعة باحثين ألمان وأمريكيين وفرنسيين وبريطانيين، منهم براين ريتشاردسون وجان ألبر.
وسبق أن تناولنا رؤيتهما لهذا المفهوم وطبيعة التمثيلات والإجراءات التي اتبعاها في معالجة نصوص عالمية كلاسيكية، بعضها قصصي تأسيسي، أو ريادي ينتمي إلى عصور قديمة وحقب العصور الوسطى وعصر النهضة، وبعضها الآخر روائي يعود إلى العصر الحديث في القرنين التاسع عشر والعشرين.
وما من مفارقة أو تعارض فكري في هذا المشروع النقدي بين التطبيق على هذه النصوص الكلاسيكية،وعلمية السرد ما بعد الكلاسيكي وحواضنه الفلسفية المعاصرة، كالظاهراتية والبراغماتية والتاريخانية الجديدة، وما يتبعه أصحاب هذا المشروع في معالجاتهم النظرية من طرائق معرفية ما بعد حداثية، تتعامل عقليا مع السرد الأدبي وتفترض وجود منطقة عقلية فاصلة ما بين واقعية السرد وتخييليته.
وما يزال مشروع (السرد غير الطبيعي) يجتذب الباحثين من القائلين بعلمية السرد، ويحرِّضهم على تطوير النظرية السردية في جوانب مختلفة تدخل بمجموعها في باب علم السرد ما بعد الكلاسيكي. وقد تحاذي هذا المشروع أو تتلاقى معه من ناحيتي الفروض النظرية والمحصلات الإجرائية بعضُ الطروحات التي تهتم بدراسة مفهوم السرد غير الطبيعي ونقد استراتيجياته، وما نجده أيضا من تصورات ورؤى تعود إلى الباحثين في علم السرد ما بعد الكلاسيكي أنفسهم، وفي مقدمتهم الباحثة النمساوية الأصل مونيكا فلودرنك Monika Fludernik التي قدمت أبحاثا قيّمة حول علم السرد والسرد ما بعد الكلاسيكي والسرد الطبيعي.
ولأنها من المهتمين بدراسة هذا العلم بكل ما فيه من موضوعات ومفاهيم مثل السرد التاريخي والتغيرات الوظيفية في الأنواع السردية، وتطور السرد الإنكليزي ومفاهيم أخرى كالاستعارة المعرفية، لذا يغدو بحثها في السرد الطبيعي محملاً بالرؤى الما بعدية للسرد محاولة تطويرها من خلال مشاريع وأبحاث جماعية وفردية ما زالت تعمل عليها في معهد فرايبورغ للدراسات العليا، وهو مكان عملها.. واشتركت عام 2016 مع جان ألبر على تأليف كتاب «علم السرد ما بعد الكلاسيكي: مناهج وتحليلات».
وما تسعى إليه مونيكا فلودرنك هو وضع نظرية سردية جديدة في النقد الأدبي ما بعد البنيوي تتضاد مع كلاسيكية السرد البنيوي عند جيرار جينت وسيمور تشاتمان وجيرالد برنس، اعتمادا على معطيات علم اللغة والسرد المعرفي، منتقية عيناتها السردية من قصص وروايات إنكليزية وأمريكية كلاسيكية وحديثة، مختبرة فاعلية المصطلحات المعروفة، مفككة المفاهيم بقصد إعادة صياغتها من جديد، مثل الحبكة والخطاب والتلقي والتخاطب والحوارية.
وفي كتابها الموسوم «نحو علم السرد الطبيعي» Towards a ‘Natural’ Narratology الصادر عام 1996 الذي أعيد طبعه عدة مرات ومنها طبعة تايلر وفرانكس عام 2005 .. تقدم فلودرنك رؤية نظرية لمسمى (السرد الطبيعي) من خلال سبعة فصول يتقدمها تمهيد نظري في معنى الطبيعة والطبيعي، وأثره في إدراك الإنسان لماهية (الحقيقة والوهم) كما تقدم مقارنة بين وظيفة الطبيعي في السرد المعرفي ووظيفة «الواقعي» في الروايات الاجتماعية.
وإذا كانت الحقيقة عبارة عن (دال لمدلول مراوغ) فإن الوهم ليس في التخييل وإنما في العقل. واستندت في التدليل على ما تقدم بنص قصصي فيه وضَّحت الفوارق بين الحقيقي والوهمي في عملية التصديق بحكاية تحاول إثبات صدقها تاريخيا من خلال واقع متخيل.
وترى فلودرنك أن ليس بالإمكان الحديث عن الواقعي والطبيعي دون نموذج سردي، ولن يخلو هذا النموذج من نزعة تعليمية، أو نزعة أخلاقية كمفارقة سيميائية لثنائية الطبيعي وغير الطبيعي. والمحصلة أن (الطبيعي) هو المقابل المضاد (للمصطنع أو الصناعي) بالمعنيين المباشر والرمزي.
واتخذت فلودرنك من هذه المحصلة التمهيدية قاعدة شيَّدت عليها فصول كتابها ومباحثه كلها، فكان الفصل الأول وعنوانه (نحو سرد طبيعي) معنياً بإعادة تعريف السرد بالاعتماد على تحليلات لغوية، وفق المنظور الآنف الذكر للطبيعي في السرد، وعلاقة ذلك بما هو واقعي كلاسيكي من جهة، وما هو متخيل تاريخي من جهة أخرى.
وطبقت رؤاها على قصص كلاسيكية من مختلف المراحل التاريخية، فابتدأت بنصوص حوارية، فيها بُني السرد على الشفاهية والملاحظة المباشرة والفكاهية، وطغت عليه النزعة التعليمية. ثم انتقلت إلى الطور الذي فيه تحول السرد من الشفاهية إلى الكتابية ممثلا بالقصص الدينية والرومانسية والشعبية، وما ظهر أيضا في العصور الوسطى وعصر النهضة من حكايات وقصص أسست لظهور الرواية في العصر الحديث كجنس سردي ينماز بالتخييل والدرامية.
وعلى الرغم من التحولات الكثيرة التي رافقت تطور السرد على طول تاريخه، فإن البارامترية الطبيعية ظلت هي السائدة على اختلاف السرود وتنوعها، واستمرت مع روايات تيار الوعي والسرد الواقعي والوصف الموضوعي والاجتماعي والسرد الشيئي والسرد بضمير المخاطب والسرد أحادي النظرة والمتعدد في وجهات النظر.
هذا على مستوى الشكل والتجنيس، أما على مستوى الموضوعات والشخصيات فإن الطبيعية ظلت ـ كما تذهب فلودرنك ـ حاضرة وقائمة، فما من استحالة مورفولوجية في وظائف الأبطال وعلاقتهم بالأزمنة والأمكنة وعلاقة المؤلفين بالسراد والتداخل السردي بين الشعر والتاريخ والعلوم السياسية والكتابة النسوية وما بعد الاستعمار وخطاب السلطة والأيديولوجيا.
وما أرادته فلودرنك من خلال هذا التتبع التاريخي للسرد وتحليل بعض النصوص القصصية، هو اقتراح نموذج سردي جديد يرتكز على معطيات ثلاثة هي (السرد الطبيعي/ علم اللغة الطبيعي/مفهوم اللانوع عند جوناثان كلر) واعتماداً على مسائل معرفية ذات صلة بنظرية استجابة القارئ لما هو خيالي ممكن الوقوع، وما هو غير خيالي غير ممكن الوقوع.
ليكون مسعى مونيكا فلودرنك من كل ما تقدم مسعى تفكيكيا وفق استراتيجيات قرائية شارحة ومفسرة ومؤولة، والقصد منها ضعضعة أسس علم السرد الكلاسيكي، وإرساء أسس أخرى بديلة، تغاير الفهم التقليدي لمعنى (الواقعية في السرد).