الدراسات الأدبيةالدراسات الثقافيةسرديات
أخر الأخبار

“مدن الملح” .. الرواية التي كلّفت صاحبَها جنسيتَه السعودية

“مثلما تبدد الجزء الأكبر من زمن النفط، فقد تبدد الجزء الأكبر من الزمن الذهبي الذي كان بمقدوره أن يجعلنا على صلة بالعصر، وعلينا الآن أن نواجه رهانات ما بقي من عصر النفط، وما بقي من الزمن الذي كان ذهبيا وواعدا.


وعند الحديث عن المدن وتاريخها فمن الصعب الوقوف على البدايات، فللمدن رائحة وصوت وصورة ممتدة في الأفق، ونقطة البداية فيها هي نقطة البداية نفسها التي استطاع الإنسان استكشاف حواسه فيها”.


رواية “مدن الملح” خماسية من تأليف الكاتب السعودي عبد الرحمن منيف، وقد أثارت جدلا كبيرا عم مساحة الوطن العربي كله حين صدورها، ودفع الكاتب جنسيته ثمنا لها.


وقد خصصت الجزيرة الفضائية لها حلقة نقاشية هامة من حلقات برنامج “خارج النص”، واستضافت لمناقشتها مجموعة من الكتّاب والنقاد العرب.


  • عنونة الرواية.. مدن تتآكل في الحاضر وتذوب في المستقبل

في خماسية مدن الملح استطاع عبد الرحمن منيف أن يقف على بداية الكلام، وأسعفته قدرته الكبيرة في الخلق والتعبير على استخدام بدايات اللغة للحديث عن أول القصة التي تسرد في أحداثها الملحمية تاريخ ما أسماه مدن الملح.

“إنه وادي العيون، فجأة وسط الصحراء القاسية العنيدة تنبثق هذه البقعة الخضراء، وكأنها انفجرت من باطن الأرض أو سقطت من السماء، فهي تختلف عن كل ما حولها، أو بالأحرى ليس بينها وبين ما حولها أي صلة، حتى ليحار الإنسان وينبهر، فيندفع إلى التساؤل والعجب: كيف انفجرت المياه والخضرة في مكان مثل هذا؟”.

وعن الرواية يقول سامر رضوان، الكاتب والسيناريست: إنه يتحدث عن المدن التي نشأت نتيجة ظهور الثروات التي خلصتها من فطريتها وحولتها إلى مدن أكولة لمجموعة العادات والتقاليد، وبدأت تأكل أرواح القاطنين والعمال لصالح الشركة التي قدمت لاستثمار هذا الذهب الأسود.

أما طلال سلمان مؤسس جريدة السفير اللبنانية، فقال عنها: “الرواية منحوتة بعناية، واسمها دليل بارز على عبقرية الكاتب، فلو بحثت في مئات القواميس والمعاجم، فلن تستطيع أن تعثر على مثل هذا العنوان الرائع”، ويقول عنه د. فيصل درّاج الكاتب والناقد: عندما تسقط الأمطار تذوب مدن الملح وتتلاشى أبنيتها، ويأتي الطوفان ويبتلعها.

مدن الملح كناية عن المدن التي ظهرت مع طفرة النفط، فإن ينضب النفط تنهار مع أول قطر المطر

  • “لأنها مواضيع بِكْر لم تُطرق”.. غوص في أسرار الجزيرة المستورة

تتحدث الرواية بأجزائها الخمسة عن ثورة النفط في شبه جزيرة العرب، وصولا إلى الحقبة الحديثة من عمر هذه المنطقة، جزؤها الأول بعنوان “التيه”، والثاني “الأخدود”، والثالث “تقاسيم الليل والنهار”، والرابع “المُنْبَتّ”، وكان الخامس الأخير بعنوان “بادية الظلمات”.

خطَّ هذه الرواية الكاتب السعودي عبد الرحمن منيف في ست سنوات، بين 1982 و1988. وفي لقاء تلفزيوني قديم أجري معه قال فيه عن الرواية: الرواية تناولت موضوعين كبيرين: الصحراء والنفط في مرحلة معينة، وتأتي ضرورة مناقشة هذين الموضوعين، لأنها مواضيع بِكْر لم تُطرق، وكانت هناك حاجة لدراسة تأثير النفط في تلك المرحلة، بصفته العامل الأساسي في إعطاء الملامح السياسية والجغرافية لهذه المنطقة وإعادة صياغة العالم العربي بشكل عام.

يقول طلال سلمان: الكاتب كشف لنا المخبوء، السعودية والجزيرة بشكل عام هي لغز غامض لا يتسنى لأي منا أن يكشفه، فجاء منيف وأسقط الأستار عن هذا اللغز، ليس جيوسياسيا فحسب، بل واجتماعيا كذلك. وقد حاول الكاتب تقديم رؤيته لتاريخ المملكة، ويبدو أنه تعب كثيرا في البحث والتنقيب من خلال الكتب والمراجع عن الجزيرة العربية.

الملك خريبط الذي استتب له الحكم بعد القضاء على كل مناوئيه ثم مات فاقتتل الورثة على الملك

  • خريبط الملك المؤسس.. صنارة الإسقاطات التاريخية الدالة

شكلت الرواية سردية تاريخية لشبه الجزيرة العربية، ضمن خطين يتداخلان ويفترقان، الأول حكاية الناس وهمومهم، والآخر حكاية لما يدور في أروقة القصور. فقد أرَّخ عبد الرحمن منيف قصة المجتمع هناك، من خلال رصده حِقب ثلاثة ملوك حكموا المنطقة: خريبط مؤسس “المملكة الهديبية”، وهو الذي قضى على القبائل المعارضة ووحَّد البلاد تحت حكمه، وقد كرّس منيف الجزء الثالث “تقاسيم الليل والنهار” للحديث عن المعارك التي دارت في تلك الحقبة، وأدت إلى سيطرة خريبط على البلاد بمعاونة البريطانيين.

والثاني الملك خزعل الذي ورث الحكم عن أبيه خريبط، أما الثالث فهو الملك فنر، الذي انقلب على أخيه، وشكلت فترة حكمه الجزء الأخير من الرواية.

“بموت السلطان خريبط انتهت وانطوت صفحة من تاريخ الصحراء. ولأن رياحا شديدة ظلت تهب طوال سنين فقد غيرت الكثير من المعالم والأشكال، وغيرت كذلك أفكار الكثيرين وقناعاتهم وعلاقاتهم، أصبحوا بشرا من نمط آخر. وإذا كانت إحدى العواصف التي هبت على هذه الصحراء قد أخذت خزعل وقسما كبيرا من رجاله، وحملت تلك العاصفة فنر، فأصبح سلطانا وتوقع الكثيرون وأمّلوا، فإن أغلب هؤلاء خاب أمله”.

تحدث سامر رضوان عن إسقاطات الرواية فقال: عبد الرحمن منيف كائن ذكي، ويستطيع أن يرمي عدة مفاتيح دلالية، ليتلقاها القارئ الذكي، منها أنه استخدم مفردات شخصية، وصيرورات تاريخية حدثت في الخليج والسعودية تحديدا، ورماها كصنارة للفهم العام والخاص.

خسر ابن البلد الأصلي جنسيته بسبب روايته التي حاكت واقع المنطقة المرير

  • “حسافا يا وادي العيون”.. رمزية الرواية التي أدت إلى منعها

نظرا للتشابه الكبير بين أشخاص الرواية وبين الملوك الثلاثة الحقيقيين الذين حكموا السعودية حتى 1975، ونظرا للنفَس الثوري الذي حملته الرواية، فقد منعت في المملكة وفي عدد من دول الخليج، ثم سحبت الجنسية من الكاتب عبد الرحمن منيف ليبقى خارج المملكة طوال حياته.

يتحدث عن أسباب منع الرواية د. نبيه القاسم الكاتب والناقد قائلا: من الواضح أن الرواية منعت لأنها كانت تدعو للإطاحة بآل سعود، ومنيف نفسه كان منبوذا في بلده، وممنوعا أن يعود إليه، ومن أجل هذا عاش منفيا خارج موطنه، وقضى سنواته الأخيرة في سوريا. فمن الطبيعي أن تمنع روايته، وإن كنتُ لا أرى ذلك ولا أحبذه.

تظهر شخصية متعب الهذّال في الرواية على أنه الناصح الأمين للملوك حتى لا يفرطوا في مقدرات البلد، ويرهنوا أنفسهم وشعوبهم لمن سماه “النصراني الأمريكاني” الذي يريد الثروة لنفسه فقط ولا يلقي بالا لأهل البلد الأصليين، وعندما رأى أنه غير مسموع الكلمة رحل حزينا، وهو يصرخ “حسافا يا وادي العيون”.

ويعلق طلال: وهذا ما نراه اليوم، فالسعودية أكبر قاعدة لأمريكا والدول الغربية، وتمد يدها اليوم للصهاينة، فالبلد ليست لأهلها، هي للعائلة الحاكمة والشركات الأجنبية.


يقول د. درّاج: متعب الهذال شخصية أقرب إلى الحلم وهي دفاع عن القيم والتحريض الأخلاقي الجمالي، وهي تذكير ببعض القيم الجميلة القديمة التي ذهب زمانها تقريبا.

ويعلق السيد رضوان: لم يكن منيف في روايته شخصانيا، لم يرسم بالأبيض والأسود فقط، بل رسم بطيف واسع من الألوان، ولم يكن قيِّما على شخصيات روايته، ولم يحمِّلها وجهة نظره هو، بل تركها تنطلق من عاديَّتها وسجيتها وتقول ما تريد هي، لا ما يريد هو.

صورة معبرة عن دخول المذياع إلى أبناء الصحراء وافتتانهم بهذا الساحر العجيب

  • “آثار عصور قديمة خلفتها هزة مفاجئة”.. ملامح عصر النفط

يصف الكاتب المدن الجديدة التي ظهرت في وادي العيون، ومنها موران قائلا: موران التي كانت تغرق في الرخاوة والتأمل والانتظار بدأت تنتفض وتتغير، أبنية من أنماط وأشكال لا حصر لها تقوم وتنتشر في كل مكان، شوارع تشق وسط المدينة وفي أطرافها، وقريبا من منطقة القصور كما سميت منطقة الغدير، فتبدو بقايا البيوت والجدران والأشجار وكأنها آثار عصور قديمة خلفتها هزة مفاجئة.

وتدافع سعدية مفرِّح، الكاتبة والأديبة عن الشخصية الخليجية قائلة: كثير من الناس ينظرون لسكان منطقة الخليج على أنهم لم يكونوا شيئا قبل ظهور النفط، وأن لعنة النفط حلت عليهم وزادتهم تيها، وهذا قصور في النظر، ويردده من لا يعرف تاريخ هذه المنطقة وثقافتها.

ويرى بعض النقاد أن منيف لم يعط النفط مساحة واسعة في روايته، ولم يرصد التأثيرات التي جاء بها النفط على المنطقة والناس على حد سواء، فبالحجم الذي كان النفط فيه حكرا على الأسرة الحاكمة والشركات المستخرجة، فإن المنطقة عموما والمواطنين وكل مظاهر الحياة، كان هناك تأثير للنفط أيضا عليها.

ولكن د. درّاج يرى أن تأثير النفط كان سلبيا إذ يقول: كان يفترض أن يستخدم النفط كقوة دافعة ومحرضة لإنتاج المعرفة والعلوم والاقتصاد ومحاربة الصهاينة وتحرير فلسطين، ولكن لم يحدث أي شيء من هذا، فقد تفكك العرب ولم نستعد فلسطين، ولا نملك المعرفة العلمية الحقيقية، وليست عندنا قوة عسكرية رادعة ولا إرادة مستقلة. بينما استفاد الغرب الطاقة والمليارات والسيطرة على مقدراتنا.

جاءت رواية “مدن الملح” في خمسة أجزاء عالج كل جزء منها جزءا من التاريخ

  • “الروائي لا يكتب التاريخ”.. رقي إلى مصاف أفضل روايات القرن الـ٢٠

حوت الرواية كثيرا من المغالطات التاريخية “وعموما فالتاريخ لا يُستقى من الروايات، كما أن الروائي لا يكتب التاريخ” -كما تقول سعدية مفرح الكاتبة والأديبة-، ويسجَّل عليها تشويه دور الجاليات العربية التي وفدت إلى الخليج للعمل، فقد وسمتهم الرواية بالجشع وطلب السلطة وحب المال وتسخير الآخرين، وهم في النهاية لا يشبعون، بينما غضت الرواية الطرف عن مساهمة الوافدين في الرقي بالدور العلمي والثقافي لأهل البلاد.

وعلى الرغم من منع الرواية في عدة دول، فإنها انتشرت انتشارا كبيرا وشكلت علامة فارقة في تاريخ الرواية العربية، وترجمت إلى لغات أخرى، واحتلت المرتبة 105 في قائمة اتحاد الكتّاب العرب لأفضل الروايات العربية التي كتبت في القرن العشرين.

أما الكاتب عبد الرحمن منيف فقد كان استثناء في استشراف المستقبل، وفي تأريخه لهذه المنطقة التي ابتكرها ولم يصورها على عكس ما يشاع نقديا، ولذا فقد عاشت روايته.

وقد قدّم الكاتب تشريحا تفصيليا للطبقة الحاكمة، وصراعهم على السلطة، وبلغ الصراع ذروته في الجزأين الأخيرين حين انقلب الأخ على أخيه، وأكمله باغتيال فنر عن طريق أحد أقاربه، لينهي الخماسية بخاتمة مفتوحة، الانتظار وترقب ما هو آت، وهذا هو حال المضطهدين الذين ليس لهم إلا الانتظار.


خاص للجزيرة الوثائقية 

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى