شعراء الجن .. رحلة في العالم السفلي عند العرب
شُغلِت الإنسانية منذ القِدَم بمصدر الإبداع الفني والإنتاج الأدبي، فنسبوه في البدء إلى قوى أو رموز توحي به إلى بني البشر، لكنهم جهلوا مصدرها وكيفية نشوئها وتكوينها، لذلك كان بديهياً أن يُرجِع العرب قديماً، الإلهامَ إلى كائنات لا يرونها، فلم يجدوا في مخيلتهم سوى الجنّ التي كان لها شأن كبير عندهم، ذلك لأنها مخلوقات مستترة عن بصر الإنسان.
اعتقد العرب بأن للجنِّ قدرة خارقة على إنجاز الأعمال الغريبة التي يعجز عنها بنو البشر، ومن ذلك ما أورده الجاحظ في كتابه “الحيوان”، بأن أهل تدمر يزعمون أن مدينتهم بنتها الجنُّ للنبي سليمان! ونسبة الخوارق إلى الجنّ عند العرب، وصل لأكثر شيء يمتازون به، وهو الشِّعر، ومن ذلك ما ذكره المعري في ديوانه “سقط الزند”: “وقد كان أرباب الفصاحة كلّما / رأوا حسناً عدّوه من صنعة الجنّ”.
- الجن ملهم شعراء الجاهلية
كان الجنّ عند العرب قبل الإسلام، مقسماً إلى مراتب أوضحها الجاحظ في كتابه “الحيوان”، بقوله: “إذا ذكروا الجن سالماً قالوا: جنّي، وإذا أرادوا أنه ممن يسكن مع الناس، قالوا: عامر، وإن كان ممن يعرض للصبيان فهم أرواح. فإذا زاد على ذلك فهو مارد، فإن زاد في القوة فهو عفريت”.
لم يكتفِ الجاهليون بتلك المراتب، بل جعلوا للجنّ قبائل وعشائر، وقد عرفنا من قبائلهم “بني الشيبصان، الذين كان لحسان صاحب منهم (…) وعرفنا بني زوبعة الجني، وهم أصحاب الرهج والقتام والتثوير (…) وآل العُذام، الذين كانوا بأرض الشام، وكان منهم شِصار، وبنو مالك، وبنوا قَيش، الذين جاء بهم النابغة في شعره” وفقاً لما أورده الدكتور عبد الرازق حميدة في كتابه “شياطين الشعراء”.
وحدد العرب للجنِّ أماكنَ للسّكن، حين كانوا يتوهمون أن كلَّ مكان غير مطروق هو مسكن للجن، والأرواح، ولعل أشعر مساكن الجن في بلاد العرب هما “عبقر ووبار”، بحسب عبد الرازق حميدة.
ومن هذا يقول الزمخشري في “الكشاف”: “العبقري منسوب إلى عبقر، فيزعم العرب أنه بلد الجن، فينسبون إليه كل شيء عجيب”. ولذلك يستنتج عبد الرازق حميدة في كتابه “شياطين الشعر” أن كلمة “العبقرية” مأخوذة من عبقر “لندلَّ بها على تلك المقدرة الذهنية، والمهارة العقلية التي يتفوق صاحبها بفضلها في الإبداع والاختراع”!
“يروي الإخباريون شعراً ينسبونه إلى جذع بن سنان، ورد فيه وصف ملاقاته للجن ومحاورته معها ودعوته إياها إلى الطعام وامتناعها عن الأكل”
ويقول المؤرخ العراقي جواد علي، في كتابه “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام”: “للجنِّ حوارٌ مع الإنس وكلام نجده منثوراً كما نجده منظوماً في شعرٍ ينسب إلى الشعراء الجاهليين.
ويروي الإخباريون شعراً ينسبونه إلى جذع بن سنان، ورد فيه وصف ملاقاته للجن ومحاورته معها ودعوته إياها إلى الطعام وامتناعها عن الأكل، كما رووا شعراً لغيره يصف ملاقاةً بين الجن وبين أصحاب هذا الشعر”.
ويضيف جواد علي: “ونجد في شعر الشعراء الجاهليين أمثال أمية بن أبي الصلت والأعشى إشارات إلى الجن. وهم من أهل الجاهلية الذين كان لهم اتصال بأهل الكتاب وبكتبهم، وقد زُعِمَ أن بعضاً منهم كان قد قرأ تلك الكتب ووقف على العبرانية أو السريانية.
ولهذا ورد في شعرهم شيء من قصص أهل الكتاب، وتراهم يربطون بينها وبين سليمان عليه السلام، ونجد الأعشى يقول: وسخر من جن الملائك تسعة / قياماً لديه يعملون محاربا”.
- بعد الإسلام .. الجن ينقل أخبار السماء ويرثي عمر بأبيات شعر!
لم تختلف علاقة العرب بالجن بعد الإسلام عن قبله، فالعرب والرواة قد لهوا كثيراً بتسمية الشياطين الذين كانوا يلهمون شعراءهم قبل النبوة وبعدها، وفي القرآن سورة باسم “الجن” أنبأت بأن الجن استمعوا للنبي وهو يتلو القرآن “فلانت قلوبهم وآمنوا بالله وبرسوله، وعادوا فأنذروا قومهم ودعوهم إلى الدّين الجديد”، وفقاً لما أورده طه حسين في كتابه “في الشعر الجاهلي”.
ويستطرد طه حسين في الكتاب ذاته: “هذه السورة (الجن) تنبئ أيضاً بأن الجن كانوا يصعدون في السماء يسترقون السمع، ثم يهبطون وقد ألموا إلماماً يختلف قوةً وضعفاً بأسرار الغيب، فلما قارب زمن النبوة حِيلَ بينهم وبين استراق السمع فرُجِموا بهذه الشُهب وانقطعت أخبار السماء عن أهل الأرض حيناً”.
يرى عميد الأدب العربي، أن القصاصين والرواة دأبوا على قراءة سورة الجن، وما يشبهها من الآيات التي فيها حديث عن الجن حتى ذهبوا في تأويلها كلّ مذهب واستغلوها استغلالاً لا حد له، وأنطقوا الجنَّ بضروبٍ من الشّعر وفنونٍ من السجع، و”وضعوا على النبي نفسه أحاديثَ لم يكن بدّ منها لتأويل آيات القرآن على النحو الذي يريدونه ويقصدون إليه”، على حد قوله.
لم يختلف الأمر كثيراً بعد سنوات من النبوة، ورسوخ الدّين في قلب صحابته، إذ يروي النويري في كتابه “نهاية الأرب في فنون الأدب” عن عائشة أنها قالت، إن الجنَّ ناحت على عمر بن الخطاب قبل أن يقتل بثلاث، فنظمت الجنُّ تلك الأبيات: “أبعد قتيل بالمدينة أظلمت / له الأرض تهتزّ العضاه بأسوقِ / جزى الله خيراً من إمام وباركتْ / يد الله في ذاك الأديم الممزّقِ / فمن يسعَ أو يركبْ جناحيْ نعامة / ليدرك ما قدّمت بالأمس يسبقِ / قضيتُ أموراً ثم غادرتُ بعدها / بوائقَ من أكمامها لم تفتّقِ / وما كنت أخشى أن تكون وفاته / بكفّ سبنتي أزرق العين مطرقِ”.
- الأمويون والعباسيون وباكورة اللعب مع الجن في عالم الخيال!
يأتي العصر الأموي الذي يعدّ امتداداً لصدرِ الإسلام في كثير من جوانبه، لكنه بدا عليه شيء من التغيير، “إذا كان للجاهلية صداها وآثارها، وكان لمن أسلم من اليهود والنصارى تأثيرهم، ومع كل ذلك تعددت صور الشياطين في هذا العصر”، حسبما أشار عبد الرازق حميدة في كتابه “شياطين الشعر“.
تقول الباحثة آن تحسين محمود الجلبي، في رسالتها “الجن وشياطين الشعراء”: “يبدو أن شعراء العصر الأموي في حديثهم عن علاقتهم بالشيطان تناولوه من رؤية أخلاقية، فنسبوا إليه كلَّ شعر رديءٍ ومقذع ومتضمن للهجاء وخارج عن تعاليم الدين.
فهذان جرير والفرزدق المختصان بالهجاء اعترفا بأن إبليس كان معيناً لهما عليه، فيقول جرير: إني ليلقى عليّ الشعر مكتهل/ من الشياطين إبليس الأباليس”.
وتضيف آن تحسين: “ويشير الفرزدق إلى ذلك، فيقول: أطعتك يا إبليس سبعين حجة/ فلما انتهى شيبي وتمّ تمامي/ فررتُ إلى ربي وأيقنت أنني/ ملاقٍ لأيامِ المنون حمامي”.
وتعتقد آن تحسين في رسالتها “الجن وشياطين الشعر” أنه مع مجيء العصر العباسي وما حمله من نشاط فكري وإنتاج علمي زعزع نوعاً ما فكرةَ الشياطين، وبدأو ينظرون إلى مصدر الشعر من نواح أخرى بعيدة عن الشيطان وتأثيره، فهذا بشار بن برد يذكر اسم شيطانه، ولكنه انفصل عنه وازدراه وفضّل قول الشعر منفرداً: دعاني شنقناق إلى خلف بكرة/ فقلت اتركني فالتفرّد أحمد”.
- كيف خلق الهمذاني والأندلسي مساحة للإبداع بطلها الجن؟!
من حُسن حظّنا أن ترك أدباء العرب في ميراثهم مع الجنّ مساحة ما بين الإيمان بتلك المخلوقات، وإلهامهم للشعراء، تلك المساحة أفرزت أدباً برع فيه اثنان، هما ابن شهيد الأندلسي (382 ــ 426 هـ)، في تحفته “التوابع والزوابع”، التي يقول النقاد عنها أنه استلهمها من “المقامة الإبليسية”، وهي واحدة من مقامات بديع الزمان الهمذاني (352 ــ 398 هـ).
ظهرت المقامة الإبليسية لبديع الزمان الهمذاني في القرن الرابع الهجري، ببطله أبي الفتح الإسكندري، والذي يبدأ رحلته عندما يفقد إبلاً له فيخرج في طلبها، فتسوقه الأقدار إلى وادٍ فيه أشجار باسقة، وثمار يانعة منوّرة، ويلتقي في ذلك الوادي بشيخ يناشده الأشعار، وأخيراً يعرف أنه شيطان شعر جرير الذي ألهمه القصيدة النونية!
يقول محمد عيد الخربوطلي في كتابه “ابن شهيد الأندلسي رائد أدب الخيال في رسالته التوابع والزوابع”: “يقول النقاد: لقد استفاد الهمذاني في رحلته الخيالية هذه من أسطورة (شيطان الشعر) فكان عمله سابقاً لغيره، فريداً من نوعه في الأدب العربي، ثم تبعه غيره في ذلك، ولعل ابن شهيد استقى منه رحلته (التوابع والزوابع)”.
أما في ما يخص “التوابع والزوابع”، فالعنوان الذي تم اختياره لهذا العمل الفريد في حد ذاته يحيل قارئه إلى العالم الذي تدور فيه سطور كتاب ابن شهيد الأندلسي؛ فالتوابع جمع تابع وتابعة، وهو “الجنيُّ والجنية يكونان مع الإنسان يتبعانه حيث ذهب.
والزوابع جمع زوبعة، وهو اسم شيطان أو رئيس الجن، ومنه سمي الإعصار زوبعة، إذ يقال فيه شيطان مارد كما جاء في القاموس المحيط”، بحسب الدكتور زكي مبارك في كتابه “النثر الفني في القرن الرابع”.
يبدأ ابن شهيد رسالته “التوابع والزوابع” باهتمامه بالأدب، واطلاعه على الدواوين، وحضوره مجالس العلماء، ثم يقول عن نفسه: “فنبض لي عرق الفهم، ودرّ لي شريان العلم بموارد روحانية”.
وفي رحلة من الأدب الرفيع، يسرد ابن شهيد أنه في أحد لقاءاته مع تابعه، زهير بن نمير، طلب منه إيجاد حيلة للقاء أدباء وشعراء من تاريخ العرب، فيستأذن له من شيخهم، ثم يبدأ رحلته بعد أن حلّ على متن جواد كالطائر يجتاب الجو فالجو.
ويصل إلى أماكن وجود شياطين الشعر وتجري بينه وبينهم مناقشات عدة، يصل بعدها إلى شياطين الكتّاب الذين أسماهم “الخطباء”، فيجالسهم ويأخذ منهم ويأخذون منه، وفي أثناء ذلك يُعرّض بمعاصريه من الأدباء كما ينقد سابقيه!
وعن لقاءاته بأدباء الجن، يحدثنا ابن شهيد عن اصطدامه في وادي الجنّ بشيطان أنف الناقة، وأنه استطال على ذلك الشيطان وقال له: “طارحني كتاب الخليل وشرح ابن درَسْتَوَيه. فقال الجني: دع عنك هذا، أنا أبو البيان.
فقال ابن شهيد: لاهاً لله! إنما أنت كمغنٍّ وسَط لا يحسن فيطرب، ولا يسيء فيلحَى. قال الجني: لقد علّمنيه المؤدبون. فقال ابن شهيد: ليس هو من شأنهم، إنما من تعليم الله حيث يقول: الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ.
ليس من شعره يفسر، ولا أرض تكسر، حتى يكون نفسك من أنفاسك، وقليبك من قلبك، وحتى تتناول الوضيعَ فترفعه، والرفيعَ فتضعه، والقبيح فتحسنه”.