إصداراتشعر

مراسلات كوكتو إلى مانيان.. أي علاج لألم الحياة ؟

كي نتعرّف على سيرة حياة الشاعر جان كوكتو (1889-1963) المهنية يكفي أن تقع بين أيدينا مراسلاته مع الكاتب جان ماري مانيان (1929-2020) الذي نشر رسائل كوكتو له حينما كان محررًا لمخطوطاته الأولية الشعرية والنثرية في كتاب “جان كوكتو، مراسلات مع جان ماري مانيان” عام 1981 ثم في كتاب “أوقات أخرى” عام 2007.

والآن يقدّم المترجم بهاء إيعالي 150 رسالة منها للمكتبة العربية في كتاب بعنوان “من فم جرحي” (دار ترياق للنشر والتوزيع، 2021). يقول كوكتو في إحدى رسائله: “من فم جرحي. هكذا قيلت الأشياء التي كان عليك قولها، فعندما ينغلق الجرح تنحبس الأسرار معه”؛ على أن الكتاب يتضمن فقط مراسلات كوكتو لمانيان ولا يتضمن ردود الأخير، مع بعض الهوامش التي ذكرها مانيان ليفسّر مضامين عدد من الرسائل المهمة.

إن هذه المراسلات هي تمامًا سيرة ذاتية لكوكتو لكونها تنطوي على أفكاره وشجونه وأحاسيسه وعلاقاته المقرّبة ببيكاسو وجان جينيه والمصور لوسيان كليرغ ونأيه عن المجتمع الفرنسي المثقف وحتى لقاءاته والأماكن التي كان يقصدها، وكأننا أمام خريطة حساسة وكاملة لحياة الشاعر في سنواته الأخيرة حتى لحظة موته.

تعرّف جان ماري مانيان على جان كوكتو عام 1947، كان الأول كاتبًا شابًا أما الثاني فكان قد أصبح مؤلفًا غزير الإنتاج بعد نصف قرن من العطاء في الشعر والمسرح والسينما، وبدأ مانيان يحرّر كتابات كوكتو قبل نشرها.

يكتب مانيان في مقدمة الكتاب عن مخطوط “مصارعة الثيران” الأولي الذي كان السبب في تقوية العلاقة بينهما: “يقول كوكتو: شيء فظيع حدث لي. لدي كتاب فوضوي عن مصارعة الثيران. لا يمكنني إعادة تجميعه. أعتقد أنه خسر. قمت بتدوين الكثير من الملاحظات غير المقروءة تقريبًا خلال معرض إشبيلية عام 1954، وقد ابتعدتُ عنها بسبب المرض. الآن لا أجد نفسي فيها، فهي ترفض الترتيب.

ومع ذلك، ينبغي ألا يتم تفويت أي كلمة. يجب إعطاء هذه الملاحظات لشخص يعرفني أكثر مما أعرف نفسي ليقرأها، لا يجب أن يكون الأمر بهذه الصعوبة. أكتب نفسي من الإملاء، بسرعة كبيرة، دون إعادة قراءة نفسي، دون تصحيحها، وذلك خوفًا من مقاطعة كل شيء.

حاولت.. أوكلت هذا العمل إلى شخص ما، لكن لا بد أن هذا الشخص قد عرفني أسوأ من معرفتي لنفسي. ما لم يكن النص غير قابل للذوبان، غير قابل للترجمة. انتهى بي الأمر بمسودة هيروغليفية فقدت شيفرتها. سأحتاج إلى شامبوليون”. ويعلّق مانيان الذي تكفّل بتحرير الكتاب: “لا أدّعي أنني تصرفت بهمّةٍ عالية، فقد بدت لي ترجمة كوكتو مهمّة تفوق قوّتي ولن أتمكن من إكمالها أبدًا، ومع ذلك غدا الأمر كما لو رغبت بإقناعه أنّني أعرفه بشكل لا مثيل له في العالم. لا يسعني إلا أن أرى كم كان متفاجئًا، وقد أدّى ذلك إلى نشوء علاقة قوية بيننا”.

كانت المراسلات بين مانيان وكوكتو قد بدأت عام 1947 لكن العلاقة تطورت بعد هذا الكتاب عام 1954 لتتخذ جانب الأبوة، وهذا ما يظهر جليًا في المراسلات التي بين أيدينا والتي تضمنت التفاهم على عدد من الأعمال الشعرية والسينمائية منها، “مصارعة الثيران في عيد العمال”، “القداس”، “الأجسام المتضاربة”، “الصوت الإنساني”، “أورفيوس”، وغيرها من الأعمال.

ويبدأ هذا الكتاب بالمراسلات التي حدثت منذ عام 1955 على أن مانيان يحب أن يذكر مضمون أول رسالة من كوكتو عام 1947، يقول كوكتو له فيها: “أحبُّ فينا أسوأ ما تجده هناك، هذه هي الطريقةُ للعثور على أفضل ما لديك. هذه العبارة لبيكاسو”.

رسائل كوكتو هي مرآة لمشغله الإبداعي، “المصلى” الذي يقفل على نفسه فيه، واصفًا إياه بالمقبرة المصرية، والتي يبدو واضحًا أنه “سيتحنط فيها” كما يقول. وهي مرايا لغرفه الداخلية، أخطاء، تصحيحات، وملاحظات، مرفقة بتعبه ومرضه، وتشتتّه مع ضياع عدد من النسخ الأولية التي يكتبها بسبب كثرة المواضيع التي يشتغل عليها والطرود التي تصله من كل مكان، ومعها شذرات من روح الشعر التي تطغى على كل أعماله يرسلها الشاعر إلى صديقه الشاب في انعكاس لرؤيته للعالم، “لا تخلط بين هذه الرسالة والانتحار، فالطريقة الوحيدة المناسبة لقتل نفسك هي كتابة قصيدة بالفرنسية… ما الذي يمكن أنّ يحس به المرء سوى رؤية الأكاذيب تغزو العالم؟.. العقلانية أسوأ الأمراض”.

وفي رسائله يعبّر كوكتو وبشكل متواصل عن عاطفة متلاحقة من عبارة لأخرى تجاه محرّره الشاب وعن ثقته بملاحظاته على النصوص وعن حاجته الماسة له، فيخبره أن ما يتلقاه منه مذهل للغاية وأنه يقوم بفعل أعجوبة، وأنه لو كان مانيان قارئًا فقط فلن يحتاج كوكتو لقارئ غيره، ويصف ملاحظاته على المخطوط الأولي بالمجوهرات التي ترصّع الخنجر.

في المقابل، يعبّر مانيان في هوامشه عن القلق الذي كان يعيشه حين كان يقوم بتفكيك وإعادة كتابة مخطوطات كوكتو، ومحاولة إثبات حضوره في المكان الأصعب حيث كانت تمثّل له فكّ تشفير محرج للطباعة المتراصة أمامه. ورغم فارق السن بين الاثنين الذي قد يشير إلى خبرة كوكتو بمواجهة صغر سن الشاب وقلة خبرته، إلا أن حنان كوكتو النابع من ثقته بعمل الشاب يبدو جليًّا من خلال رسائله ليس فقط لمانيان بل لزوجته كلود في بعض الأحيان.

يقول كوكتو لمانيان: “بمجرّد أن أستلم المظروف الخاص بك أفتحه وأتنفّس محتوياته قبل مراجعته (هذه الطريقة ليست خاطئة). يعطي النص هذه الرائحة كتبت لك هذه السطور القليلة كي أشكرك “قبل الرسالة”.. أقوم بإعادة صياغة “مصارعة الثيران”، لكنّ عملك رائعٌ لدرجة أن العمل سهل وصعب للغاية في آن.

لا أجرؤ على التغيير.. لا تخف من إضافة أفكار من قلمك، إذ سأقوم بعد ذلك بربطها مع أفكاري. تواضعك هو خطؤك الوحيد. أردت رؤية الكتاب الصغير الذي ستنجزه (الذي سننجزه معًا) وكذلك الملاحظات التي سترسلها إليّ. باختصار، ما أثار اهتمامي وحماسي هو رؤية الكائن الذي سيولد من هذه الأجزاء الفوضويّة.

بحال أزعجتُك أبعدها وارمها من النافذة نحو سانتو سوسبير، وبحال لم أزعجك فحاول إنجاز العمل..”. كما كان كوكتو يتقبّل كل نقد من الشاب، ورفقة هذا النقد كان يعطيه نصائح في الكتابة، وما هي رغبته أن يكون الشعر: “كل مقطع لفظيّ عليه أن يكون طعنةً في القارئ.

أوضحت لك سرًّا وبلا كللٍ وبصورة وحشيّة عامًا تلو عام تلو عام، عليك أن تطهّر هذا النص من تلك الدهون التي تمنعه ​​من العيش وتخنق قلبه.. ينبغي عليك إيقاظ المستمع كل ثانية. يجب أن تكون قادرًا على نسيان نفسك وفتح نوافذ روحك. خذ كلّ ما أقوله كدليلٍ على عاطفتي..

أودّ أن أفكّ قيودك وأغرقك في الحياة من أجل هزيمتها.. فيما يتعلق بنهجك لن أسمح لنفسي بظلال النقد.. انتقادي لم يأت من مزاج سيء وأنا غير قادر على إيذاء ذبابة، لكنّني أحبّك وأدلّلك في عزلتي”. وكان مانيان يرسل كتاباته أيضًا إلى كوكتو للاطلاع عليها ويظهر مدى شغف الأخير بقراءة مانيان: “أنا بحاجة إلى شيءٍ مظلمٍ وحيّ. أحضر لي صفحاتك قبل يوم من مغادرتي للجبال”.

كوكتو القادم من أسرة ثرية اخترق الوسط الثقافي الفرنسي وهو لا يزال شابًا، بدأ شاعرًا وهو في السادسة عشرة من عمره، ثم أصبح روائيًا وكاتبًا مسرحيًا، ورسامًا، ثم كاتبًا للسيناريو ومخرجًا سينمائيًا، مؤكدًا بذلك على العلاقة العميقة والحميمة بين الأدب والفنون.

ورغم ارتباط أفلامه بالسريالية فقد تعرّض للتنمر من قبل أندريه بريتون والسرياليين الذين رأوه رمزًا للشعر الذي كانوا يرغبون في تدميره. كان هناك نفور وعداء واضح لكوكتو، وهذا ما تعكسه هذه المراسلات حيث طعن بريتون بدعم من جان بولان في نتيجة الانتخابات لمنح جائزة “أمير الشعراء” لكوكتو الذي يكتب في إحدى رسائله لمانيان: “حلم الشعر لبريتون حلمٌ جميل، ولكن عندما يستيقظ يكون قد نسي مناخ الحلم..

غير أنّ الكراهية تحلّ محلّ الشعر. في وسط كل هذه الكراهية أبدو كطالب مختبٍر وعيناي ملتصقتان بالمجهر. يا له من مشهد رهيب!”. وكتب كوكتو إلى لويس أراغون، الذي كان ودودًا أكثر من غيره في المجموعة يسأله عن سبب استمرار “هذا القبح” كما يسمّيه، ولم يتلقَ منه إجابة واضحة.

لكن أراغون، الذي كان برأي كوكتو لا يمثّل أي مشكلة “بالنسبة إليهم” ولهذا السبب يقدّمونه كمثال، كان قد كرّس الصفحة الأولى من مجلة “الرسائل الفرنسية” Lettres Françaises في 20 أكتوبر/ تشرين الأول 1960 لوضع حد لهذه القضية، قال فيها إنه لا يصوّت لكوكتو لكنه راضٍ عن النتيجة، واصفًا منتقدي النتيجة بالضفادع.

ويمكن إدراك مدى رغبة الشاعر في الانفصال والابتعاد عن المثقفين الفرنسيين من خلال أحاديثه لمانيان: “صدّق أنّني لم أعد أفتّش عن الثناء المرئي، بل عن الثناء غير المرئي، وسيكون غريبًا أن يقدر أشخاصٌ بعيدون عنّا على دخول مملكتنا، والتي ليست من هذا العالم.

لكن أيّ عالم؟ باختصار، رسالتك عن القدّاس تريحني وتعطيني القوّة لتحمّل الإهانات”. ويقول له في مكان آخر: “دعنا نغرق في ليل القلب ونهرب من المثقفين، أي البرابرة”، ثم يقول: “كلّ ما كان عليّ فعله في الأكاديمية هو الانفصال عن المثقفين”، و”فرنسا تستحق الفراغ الذي يحكمها.. باريس تثير اشمئزازي، ومن الواضح أن فولتير كان على حق عندما قال: من بين كافة الأمم، الفرنسيون هم الأكثر فظاظة”.

وكان كوكتو يعتبر أن الكليات النقدية أخذت تتضخم وتتطور بإفراط غير طبيعي في باريس في تلك الفترة لدرجة شلّ الإبداع. لكن أكثر ما يوصله الشاعر لنا هو الصمت الذي يعيشه، “الحياة في باريس صعبةٌ جدًا عليّ، ومن هنا جاء صمتي”، ويأتي هذا الصمت كردّ فعل على العالم المظلم الذي يشعر به، “إنّني أعوم في هذا الهواء المظلم والجور الوحشي، وأنت تعلمُ تمام المعرفة أنّ كل شخصٍ يضيف حجر صمتٍ إلى معبدي.

إنّهم لا يجرؤون على منعي من النشر وهذا كلّ شيء”. على أن مفردة الصمت تتردّد في أغلب المراسلات ويطلب الشاعر من مانيان أن يقبل صمته أحيانًا ولا يلومه على ذلك.

بيكاسو وجان كوكتو  

في المراسلات أيضًا صدى لعلاقة كوكتو ببيكاسو، التي كانت قد بدأت عام 1915 بمشاريع مشتركة كانت تتوقف ثم تنشط وبشكل غير مستقر حتى العام 1955 حيث أخذت لقاءاتهما تأخذ منحى الصداقة العميقة، وكانا ينأيان كلّ حين سوية عن العالم في “شهر عسل إبداعي” كما كان يسميه بيكاسو، وقد صدرت المراسلات بين الاثنين أيضًا في كتاب “بيكاسو، كوكتو، مراسلات 1915-1963” عن دار غاليمار عام 1918.

كما تم إقامة عدد من المعارض المشتركة مؤخرًا لأعمال بيكاسو وكوكتو. ورغم أن كوكتو قدّم أكثر من 700 عمل بين الرسم والنحت والتصوير إلا أن رسوماته لم يتم أخذها على محمل الجد في زمنه. فإضافة إلى حصوله على لقب “أمير الشعراء” كان أيضًا الشخص الذي وُصف بأنه “أمير طائش” يعاني من الشك والإدمان،

ولديه رغبة لا تشبع في تجربة مجموعة متنوعة من الوسائط جعلته شاعرًا وكاتبًا ومخرجًا ورسامًا، لكن كوكتو وفي كل أعماله السينمائية والمسرحية والتشكيلية يثبت أنها كلها عبارة عن قصيدة واحدة، قصيدة حياته، التي هي سلسلة من الخوف والقلق والرغبة في العزلة وعشق الموت منذ انتحار والده وهو في العاشرة من عمره وحتى آخر يوم في حياته.

ستكون مفردة الموت حاضرة في رسائل كوكتو الأخيرة المحمّلة بالمرض والألم والصمت، ولن يبدّد هذا الصمت سوى رغبة الشاعر بالكتابة والرسم حتى ليلة رحيله وهو ما يظهره تاريخ الرسالة الأخيرة 7 تشرين الأول/ أكتوبر 1963 أي قبل أربعة أيام من وفاته التي أرفقها بالرسوم النهائية الاثني عشر في السلسلة التي قدّمها لتوضيح مقال عن “مصارعة الثيران”.

ينهي جان كوكتو آخر رسائله لصديقه ومحرّر كتاباته الأقرب إلى قلبه جان ماري مانيان: “أُخرِجنا من الموت دون أن يُترك لنا ما يكفي للعيش.. لأن نصك موجود يمكنني الموت بسلام. أي علاج لألمِ الحياة يمكن مقارنته بهذا؟… ميت من التعب”.


ضفة ثالثة

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى